أفكَار

رؤية الحل للقضية الفلسطينية.. هل يتكرر سيناريو جنوب إفريقيا والجزائر؟

إن النتائج التي تحققت عظيمة تاريخية من اليوم الأول للطوفان، وهي تتعاظم قبل أن تنتهي الحرب، وحين تنتهي الحرب سيكون النصر أعظم بإذن الله.. الأناضول
لم يكثر الحديث عن حل الدولتين كما هو الحال منذ طوفان الأقصى، وخصوصا بعد أن أعجزت المقاومة الباسلة وصمود أهل غزة قادة الاحتلال وجيشهم وحلفاءهم عن تحقيق أي هدف أعلنوا عنه منذ بداية العدوان.

لم ينفع نهج المفاوضات ولا مسيرة الاستسلام للإرادة الصهيونية الأمريكية الغربية في فرض حل الدولتين الذي حلم به مشروع أوسلو ودعا إليه الإجماع العربي في دورة 2002 للجامعة العربية، بل تخلت عنه حتى الدول العربية التي اصطفت في طابور التطبيع دون اشتراط هذا الحل.

ولكن ما إن فعلت المقاومة فعلتها في طوفان الأقصى بلغة الرصاص والجهاد والاستشهاد حتى أصبح العالم كله يلهث وراء هذا الحل ويخطط له بإجماع دولي غير مسبوق لما بعد الحرب القائمة.

فلم تكن الحجة بأنه لا حل مع الاحتلال سوى خيار السلاح قائمة كما هي اليوم على إثر نتائج طوفان الأقصى العظيمة.

فلست أدري ما الذي يقوله محمود عباس وحكام العرب والمنكرون للحل العسكري في الكفاح ضد الاحتلال الصهيوني؟ ما الذي يقوله هؤلاء، في أنفسهم وفي الحديث بينهم، وقد توجه إليهم العالم بأسره يطمئنهم بأن لا حل للقضية الفلسطينية سوى حل الدوليتين بعد طوفان الأقصى؟ ما الذي يقوله هؤلاء والذي جاءهم بهذه النتيجة حركة حماس وكتائبها القسامية وإخوانهم في الجهاد وليست السلطة الفلسطينية وتنسيقها الأمني؟

إن النتائج التي تحققت عظيمة تاريخية من اليوم الأول للطوفان، وهي تتعاظم قبل أن تنتهي الحرب، وحين تنتهي الحرب سيكون النصر أعظم بإذن الله، ومن تلك النتائج الانقلاب في الرأي العام العالمي لصالح فلسطين وضد الكيان بما لو أُنفِقت في العلاقات الدولية من أجلها ملايير الدولارات وعبر سنوات لما تحقق ذلك، ومنه الصمود الأسطوري لأهلنا في غزة رغم البلاء العظيم الذي لا تطيقه الجبال الذي أفشل مخطط التهجير، ومنه إنجازات المقاومة التي أعطت صورة بيّنة كيف يمكن أن يُهزم الجيشُ الصهيوني رغم الفارق الشاسع في المقدرات العسكرية، وتلك حجة تاريخية على عساكر الدول العربية، ومنه تفكك المجتمع الإسرائيلي وتشقق بنيته السياسية والاجتماعية والعسكرية والمؤسسية وتهتك سمعته في العالم بأسره، ومنه رجوع القضية الفلسطينية في رأس سلم أولويات الشعوب العربية والإسلامية بعد أن شغلتها عنها قضاياها الداخلية ومسار خيبات الأمل الطويلة.

إن فلسطين ليست للعرب والمسلمين وحدهم بل يكون فيها غيرهم من أتباع الديانات الأخرى ولكن القيادة لهم كما كانت لنبيهم بختمه الرسالات وبصلاته بالأنبياء في المسجد والأقصى، وكذلك لأنهم هم أكثر الناس فيها منذ قرون طويلة،
ومن تلك النتائج ما نحن بصدده وهو رجوع العالم بأسره إلى الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته ضمن خيار حل الدولتين. ولكن هل يمكن لحل الدولتين أن يتحقق؟ إن الجواب على السؤال بشكل واضح وبين: "لا!" .

ولا ننفي ذلك لأسباب عقدية وأيديولوجية فحسب ولكن لأن ذلك غير ممكن من عدة أوجه منها:

1 ـ لن يكون حل الدولتين الذي تريده أمريكا وجزء من الشارع السياسي الإسرائيلي حاليا وبعض الدول العربية هو حل الدولتين الذي جاء في القرار العربي الذي بادرت إليه المملكة العربية السعودية عن طريق الملك عبد الله والذي صار قرارا عربيا بالإجماع في دورة الجامعة العربية بلبنان عام 2002.

لن يقبل الحلُّ الذي تسوّق له أمريكا بأن يكون للفلسطينيين السيادة على القدس الشرقية وعلى المسجد الأقصى، ولن يقبلوا بحق العودة وسيحاولون قضم الأراضي الفلسطينية ضمن حدود 67 في الضفة الغربية، وسيعملون على أن تكون الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح. وعليه سيكون القرار فاقدا للشرعية على المستوى الرسمي العربي وسيبقى الجدال والنقاش مستمرا بما لا يجعل شيئا جديدا يتحقق يضمن دوام الأمن لإسرائيل ـ كما يحلمون ـ سوى بعض الاختراقات التطبيعية التي ستبقى ـ إن وقعت ـ ممجوجة مرفوضة من قبل الشعوب كما هي الآن.

2 ـ حتى هذا السيناريو لحل الدولتين لن تقبل به الأغلبية في الشارع الصهيوني ومؤسساته، فإرادة هؤلاء باتت واضحة وغير مخفية فهم يريدون تهجير الشعب الفلسطيني خارج فلسطين، من غزة ومن الضفة. هم كلهم أو أغلبهم يريدون ذلك في الضفة، ولكن قطاع غزة كان يمثل جزء من الحل بالنسبة إليهم ضمن مشروع صفقة القرن بأن تضاف للقطاع سيناء ويكون ذلك هو الوطن البديل، ولكن بعد الطوفان صارت أغلبية من الإسرائيليين يريدون إخراج أهل غزة من أرضهم لكي لا يجاوروهم مستقبلا أبدا. ولو حاولت الولايات الأمريكية المتحدة فرض هذا الحل، ولو مطورا بالشكل الذي ذكرناه أعلاه، ستجد مقاومة شديدة من اليمين واليمين المتطرف، وقد تقع فوضى كبيرة في الكيان أو ما يشبه الحرب الأهلية لو سار مع أمريكا الدولة العميقة العلمانية الإسرائيلية، فيخربون بيوتهم بأيديهم.

3 ـ لن تقبل المقاومة الفلسطينية هذا الحل، وحتى وإن قبلت جزء من حل الدولتين، كما تعاملت مع انسحاب الكيان من غزة عام 2005 وما بعده، كجزء من فلسطين تحرر على إثر طوفان الأقصى، فإنها لن تسلم سلاحها، ولن تعترف بإسرائيل، وهذا الذي لن تقبله السلطة الفلسطينية ولا الدول العربية، ولا بطبيعة الحال الكيان والولايات الأمريكية المتحدة، فلن يكون المجتمع الفلسطيني أبدا بلا سلاح، حتى وإن كان سلاحا بسيطا، خصوصا بعد ما اتضحت جدوى الجهاد والاستشهاد، ولن يٌقبل قول قائل بأن الضريبة على المدنيين كانت عالية، فذلك هو مصير الشعوب التوّاقة للاستقلال، وفي تاريخ هذه الشعوب عبر وعظات، وستتحول آلام التضحيات إلى سعادة وسرور بعد النصر والاستقلال. فإذا كان حل الدولتين غير ممكن فما هو الحل؟ إن الحل نسوقه من زاوية دينية شرعية بمناسبة ذكرى الإسراء والمعراج، ثم من زاوية سياسية بعد ذلك، دون أن نتناول الزاوية التاريخية التي تؤكد أحقية الفلسطينيين في أرضهم منذ غابر الزمن.

أما الخلفية الدينية فإنه يرمز إليها صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء ببيت المقدس وفق ما ثبت في الأحاديث الصحيحة التي روت حوادث الإسراء والمعراج. فإن صلاته عليه الصلاة والسلام بالأنبياء تدل بأن القيادة في هذه الأرض إنما هي للإسلام فهو من يؤم الناس من مختلف الملل والنحل في هذه الأرض المباركة، فقد صح أن إبراهيم الخليل، وموسى الكليم وعيسى المسيح وغيرهم من الأنبياء تشرفوا بأن يؤمهم المصطفى الحبيب عليه وعليهم أفضل الصلاة وازكى التسليم.

إن فلسطين ليست للعرب والمسلمين وحدهم بل يكون فيها غيرهم من أتباع الديانات الأخرى ولكن القيادة لهم كما كانت لنبيهم بختمه الرسالات وبصلاته بالأنبياء في المسجد والأقصى، وكذلك لأنهم هم أكثر الناس فيها منذ قرون طويلة، إذ شعوب فلسطين دخل أغلبهم الإسلام وصاروا جزء من أمة محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم. علاوة على أن أكثر من جاء من اليهود لإنشاء دولة الكيان وإدامتها جاؤوا من مختلف أنحاء العالم من أعراق مختلفة ولا ينتمي لسلالات بني إسرائيل إلا أقلية منهم، وكثير من قادتهم علمانيون ملاحدة، فلا حجة دينية لهم.

أما من الناحية السياسية فإن البديل العادل والمنطقي هو الحل الذي طبق في جنوب إفريقيا بعد هزيمة البيض وإنهاء نظام الأبرتايد، فقد قامت دولة واحدة للبيض وللسود، ومن حيث أن السود هم أهل الأرض وهم الأغلبية استقرت قيادة الدولة فيهم، وصار حال البيض إلى حياة رغيدة، في ظل نظام ديمقراطي ضَمن حقوق الجميع، أفضل من حالة الصراع الدائمة التي كانوا عليها.

وعلى هذا المنوال يمكن أن تقوم دولة واحدة في فلسطين يعيش فيها المسلمون واليهود والنصارى ضمن نظام ديمقراطي يؤمّن الجميع ويعطي حقوق الجميع ويكون للمسلمين مسجدهم الأقصى ويكون للنصارى كنيسة القيامة ولليهود معابدهم (ليس لهم معبد مشهور)، ويضمن حق العودة للفلسطينيين المهجرين وحق من أراد من اليهود أن يعود إلى بلده الأصلي الذي جاءت عائلته منه، والحق في أن تهيأ لهم ظروف الاستقبال للعيش الكريم في بلدانهم الأصلية تلك، في أمريكا وأوروبا.

إن البديل العادل والمنطقي هو الحل الذي طبق في جنوب إفريقيا بعد هزيمة البيض وإنهاء نظام الأبرتايد، فقد قامت دولة واحدة للبيض وللسود، ومن حيث أن السود هم أهل الأرض وهم الأغلبية استقرت قيادة الدولة فيهم، وصار حال البيض إلى حياة رغيدة، في ظل نظام ديمقراطي ضَمن حقوق الجميع، أفضل من حالة الصراع الدائمة التي كانوا عليها.
والمرجح أن هذا الحل سيتحول من الحل "الجنوب ـ إفريقي" إلى الحل "الجزائري"، وذلك أن اتفاقيات إيفيان التي على إثرها استقلت الجزائر ضمنت للمستوطنين الذين جاءت عائلاتهم من فرنسا ومن مختلف الدول الأوربية، وكذلك لليهود الذي كانوا في الجزائر قبل الاحتلال وصاروا فرنسيين بعد أن أعطتهم فرنسا الجنسية، أن يبقوا جميعا في الجزائر كمواطنين كاملي المواطنة، تماما كما كان الحل في جنوب إفريقيا، ولكن بسبب الجرائم الفظيعة التي اقترفوها في السنوات الأخيرة من الاحتلال خافوا من البقاء وخرجوا عن بكرة أبيهم من الجزائر. فكذلك يُرجح أن في زمن التحرير في فلسطين سيخرج الأغلبية الساحقة من الإسرائيليين من فلسطين بسبب الجرائم الفظيعة التي يقترفونها وسيذهبون إلى حيث يملكون جوازات سفر ثانية وثالثة وإلى بلدان أخرى بدؤوا من الآن يعدّون فيها مساكن لهم كقبرص مثلا وإسبانيا والبرتغال.

وسيرث الفلسطينيون الذين سيتمتعون بحق العودة مساكنهم، كما تمتع كثير من الجزائريين بالمساكن الفرنسية التي تركها المعمرون كاملة البنيان والأثاث. إن هذا السيناريو بات موضوع دراسة منذ سنوات عند عدد من علماء التاريخ وعلماء الاجتماع والساسة الإسرائيليين كالمؤرخ بيني موريس الذي يجزم بأن: "هذا المكان سيتحول إلى بلد شرق أوسطي ذي أغلبية عربية .. وكل من يستطيع من اليهود سيهرب إلى أمريكا وأوربا" والسياسي المخضرم رئيس الكنيست السابق أفراهام بورغ الذي يؤكد بأن أكثر من 50% من الإسرائيليين لا يعتقدون أن أبناءهم سيعيشون في إسرائيل" ويدعو كل إسرائيلي أن يحرص أن يكون له جواز سفر ثاني، وإن كان الأول يرى أن الأمور ستنقلب ضد الإسرائيليين بفعل أعدائهم كما هو تاريخهم، حسبه، فإن الثاني يرى أن إسرائيل ستنهي نفسها بنفسها بسبب ظلمها للفلسطينيين وانقلابها على القيم الديمقراطية، حسب قوله، والمرجح أن السببين سيتظافران.

وحين يخرج أكثر اليهود من فلسطين، تماما كما يريدون إلحاقه بالفسلطينيين اليوم بمحاولة تهجيرهم إلى سيناء ودول أخرى في العالم العربي والأوروبي والأمريكي، سيعيش من بقي منهم في فلسطين في أمن وأمان يتمتعون بكل حقوقهم، التي لم يضمنها لهم عبر التاريخ مثلما ضمنها لهم المسلمون استنادا إلى أسس عقيدتهم وتعاليم دينهم. هذا هو الحل الواقعي، الذي يحمل شرعية تاريخية ودينية، والذي سيفرضه الواقع السياسي، والذي سيعين على تحقيقه تطرف الإسرائيليين أنفسهم، وفق القاعدة التي أطلقها الجنرال الفيتنامي جياب حين قال: "إن الاحتلال تلميذ غبي يكرر نفس الأخطاء" وهو الحل الذي سيفصل في أمره في الأخير المقاومة الفلسطينية.