قال الكاتب إليكس دو وال؛ إن
المجاعة في
غزة، التي يقوم بها جيش
الاحتلال، توشك أن تكون الأشد منذ الحرب العالمية الثانية.
وأوضح في مقال له بصحيفة
الغارديان، ترجمته
"عربي21" أن الموت في غزة سيستمر، حتى لو توقف إطلاق النار، وبدأت
شاحنات المساعدات تدخل بصورة متتالية، مشيرا إلى أن عدد من سيموتون جوعا قد يتجاوز
من قتلوا بالرصاص والقنابل.
وفيما يلي النص الكامل للمقال:
الأزمة الصحية في غزة لها زخمها المريع الخاص
بها. حتى لو توقف إطلاق النار اليوم وبدأت شاحنات المساعدات تدخل تباعا، لسوف
يستمر الموت إلي حين
تشهد غزة الآن أشد كارثة مجاعة منذ عقود،
وقريبا جدا قد يتجاوز تعداد من يموتون جوعا أو مرضا، عدد من يموتون قتلا بالقنابل والرصاص.
أعلنت لجنة مراجعة المجاعة هذا الأسبوع أن غزة
تواجه "مجاعة وشيكة".
يقدم نظام التصنيف المرحلي المتكامل، الذي
تأسس قبل عشرين عاما، أصح التقديرات للأزمات الإنسانية. وقد غدت أرقامه بالنسبة
لغزة الأسوأ على الإطلاق، وبكل المقاييس، إذ تشير تقديراته إلى أن 677 ألف نسمة،
أو 32 بالمائة من جميع سكان غزة، هم اليوم في أوضاع "كارثية"، وأن 41
بالمائة آخرين هم في الأوضاع "الطارئة". ومن المتوقع حسب هذه التقديرات
أن يصير نصف سكان غزة تماما، أي ما يزيد عن مليون نسمة، في الحالة الكارثية، أو
في مجاعة، خلال أسابيع.
كما صدر تحذير مشابه في تقرير مواز صادر عن
شبكة نظام الإنذار المبكر للمجاعة التابعة للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية. وهو
أوضح تحذير يصدر عن الشبكة في أي وقت منذ تأسيسها قبل أربعين سنة.
وبحكم التجربة، فإن الأوضاع الكارثية أو أوضاع
المجاعة تعني معدلا للوفيات بسبب الجوع أو المرض، مقداره شخصان من كل عشرة آلاف،
نصفهم أطفال دون سن الخامسة من العمر. الحسبة بسيطة. يعني ذلك 200 وفاة من كل
مليون نسمة في اليوم الواحد، أو ستة آلاف وفاة كل شهر.
من باب المقارنة، كانت أسوأ مجاعة تم تدوينها
في سجلات نظام التصنيف المرحلي المتكامل هي تلك التي ضربت الصومال في عام 2011، التي كانت ناجمة عن مزيج من الحرب والجفاف وانقطاع المساعدات. في أحلك مراحل تلك
المجاعة، كان ما يقرب من 490 ألف نسمة في الأوضاع الكارثية، بينما كان عدد أكبر من
ذلك في الأوضاع الطارئة. يقدر عدد من قضوا نحبهم خلال ثمانية عشر شهرا بما يقرب
من 258 ألف نسمة.
المناسبة الأخرى التي أظهرت فيها بيانات نظام
التصنيف المرحلي المتكامل وجود مجاعة، كان في جنوب السودان في عام 2017، حينما
تسببت الحرب الأهلية في دخول نصف سكان البلاد، البالغ عددهم عشرة ملايين نسمة، في
وضع الطوارئ غذائيا، حينها كان ما يقرب من 90 ألف نسمة يعانون من المجاعة. مات ما
يقرب من 1500 شخص جوعا في منطقتين ضربتهما المجاعة، ثم ما لبث ما يقرب من 190 ألف
نسمة، أن فقدوا حياتهم على مدى أربع سنين من الأوضاع الطارئة غذائيا.
عتبة المجاعة تعسفية، في ثاني أسوأ مرحلة،
مرحلة الأوضاع الطارئة، ها هم الأطفال يموتون جوعا. عندما رسم الخبراء نموذجا مبدئيا لمقياس المجاعة، كانوا يعتمدون مستوى أدنى كمؤشر للإعلان عن المجاعة، وهو
يعادل تقريبا الوضع الطارئ كما يحدده نظام التصنيف المرحلي المتكامل، ويشتمل على
فئات من المجاعة الشديدة والمتطرفة التي تقابل أوضاع المجاعة في نظام التصنيف
المرحلي المتكامل. كما يشتمل أيضا على قياس للحجم –العدد الإجمالي الذي يتأثر
ويموت–، وفيما بعد تم أيضا وضع المدة في الاعتبار. بعض الأوضاع الطارئة غذائيا تستمر لسنين، حيث يتراكم ببطء عدد الوفيات، دون أن يحصل تجاوز لعتبة المجاعة، كما
يحددها نظام التنصيف المرحلي المتكامل.
لم يحصل أن أعلن عن وجود مجاعة في اليمن، ولكن
الأحوال الطارئة غذائيا، التي أثرت على الملايين عبر سنين الحرب، تسببت في موت
ما يقرب من ربع مليون نسمة بسبب الجوع. والحكاية مشابهة لذلك في إقليم تيغري
الإثيوبي.
إننا على وشك أن نشهد أشد مجاعة على الإطلاق
منذ الحرب العالمية الثانية. لن تكون الأكبر؛ لأن المجاعة محصورة في 2.2 مليون
نسمة، هم سكان قطاع غزة.
ما في أذهاننا من صورة للمجاعة يتمثل في طفل
نحيف بلغ منه الهزال مبلغا، عيناه منتفختان، وجلده ملتصق بعظمه. بعض الأطفال
يعانون من نقص حاد في البروتين، وسوء تغذية شديد، من أماراته انتفاخ واضح في البطن.
عندما يجوع بدن الإنسان، فإن نظام المناعة لديه
يخفق، ويصبح من يعاني من سوء التغذية نهبا للالتهابات التي تسببها الجراثيم
المنقولة عبر المياه، فيصاب بالإسهال، الذي يسبب جفافا مدمرا. وتنتشر في مثل هذه
الأجواء الأمراض المعدية الفتاكة، بما في ذلك كوفيد، حتى إن أكثر أسباب الوفاة
شيوعا في المجاعة، هو المرض وليس الجوع.
يعرف "التجويع" في القانون الجنائي
الدولي بأنه حرمان الناس من أمور لا يُستغنى عنها من أجل البقاء على قيد الحياة.
وذلك يتضمن ليس فقط الطعام، ولكن أيضا الأدوية، والمياه النظيفة، والنظافة،
والمأوى، ووقود الطهي، ورعاية الأمومة للأطفال.
عندما يُخرج الناس قسرا من بيوتهم ويحشدون في
معسكرات مكتظة، عندما تكون مصادر المياه نادرة أو ملوثة، عندما لا توجد مراحيض أو
تكون غير صحية، عندما تترك الجروح بلا علاج، فإن انتشار الأوبئة يصبح شائعا وأكثر
فتكا.
عندما يصبح الناس بلا مأوى، ويكونون عرضة للبرد
ومياه الأمطار في الشتاء، وعرضة للحر والغبار في الصيف، فإنهم سرعان ما يصبحون
نهبا للجوع والمرض. دون كهرباء ولا وقود للطهي، لن تتمكن الأمهات من إعداد وجبات
يتمكن الأطفال من هضمها بيسر.
لقد ولد إخصائيو الأوبئة في لندن وبالتيمور
توقعات لأعداد الوفيات المحتملة في غزة لمختلف الأسباب على مدى الشهور، وصولا إلى
شهر أغسطس (آب). فيما لو تضمن ذلك الوفيات بسبب الأوبئة، فإن سيناريو "الأمر
الواقع" الذي ولدوه يتراوح ما بين 48 ألفا إلى 193 ألفا من الوفيات. إلا أن
هذه الأعداد سوف تتضاعف في حالة سيناريو "مع التصعيد".
إن للأزمة الصحية في عزها وزخمها المريع الخاص
بها. فحتى لو توقف القتال اليوم وبدأت شاحنات الأغذية تدخل تباعا، فإن الموت سوف
يستمر إلى بعض الوقت.
وحتى عندما تبدأ أعداد الناس الذين يموتون بلا
ضرورة في التضاؤل، لسوف تبقى التشوهات التي تسببها المجاعة.
لسوف يواجه الأطفال الذين قد ينجون من التجويع
حرمانا مدى الحياة، إذ ينزعون لأن يكونوا أقصر قامة من أقرانهم، ويعانون من قدرات
عقلية متراجعة. تحذر منظمة الصحة العالمية من دورة من سوء التغذية تمتد إلى أجيال،
وذلك أن المواليد الذين يولدون بأوزان منخفضة أو الفتيات اللواتي يتعرضن لسوء
تغذية حينما يكبرن، يصبحن أمهات أصغر حجما وأضعف بنية. ولا أدل على ذلك من أن
الأضرار التي نجمت عن شتاء الجوع الهولندي عام 1944 مازالت آثاره متوارثة عبر
الأجبال.
كما أن المجاعة تشكل صدمة اجتماعية. فهي تمزق
المجتمعات وتدمر معايش الناس. يُجبر الناس على العيش في أوضاع غير كريمة، بل قد
يضطرون إلى انتهاك المحرمات المتعارف عليها من حيث ما يمكنهم أكله، وكيف يمكنهم
الحصول على مقومات الحياة الأساسية. تضطر الأمهات إلى ترشيد الطعام الذي يقدمنه
لأطفالهن. ويعمد الناس إلى صد الجيران الجائعين عن أبوابهم، وتضطر العائلات إلى
بيع موروثاتها الثمينة بثمن بخس، حتى تتمكن به من شراء وجبة طعام.
أين العزاء في إخبار الآباء والأمهات الذين
دفنوا أطفالهم لتوهم بأن ذلك لم يكن بسبب خطيئة ارتكبوها؟ عذاب الناجين لا يبرحهم
مدى الحياة.
وبسبب الإحساس بالعار، لا يتمكن الناس من
الحديث علانية عن المجاعة، في بعض الأوقات لعدة أجيال متعاقبة. في حالة إيرلندا،
استغرق ذلك 150 سنة قبل أن يبدأ الناس في إحياء ذكرى المجاعة الكبرى، التي حلت بهم
في أربعينيات القرن التاسع عشر.
كل هذا معروف، وفي حالة غزة لا يوجد أدنى شك.
في معظم المجاعات، هناك هامش من عدم اليقين
عندما يتعلق الأمر بالتنبؤات، وذلك أن الناس قد يتمكنون من إيجاد مصادر غير متوقعة
للطعام أو للمال. في أجزاء من الأرياف الأفريقية، قد تعرف الجدات شيئا عن الجذور
أو الثمار التي يمكن أكلها، أو قد يتمكن العمال المهاجرون من إيجاد وسائل إبداعية
لتحويل النقود إلى عائلاتهم. أما في غزة، فإن إسرائيل تعرف عن كل كالوري متاح. في
عام 2008، قام منسق النشاطات الحكومية في المناطق بحساب كل جزئية تتعلق بإنتاج
واستهلاك الغذاء داخل غزة، وحتى أدق التفاصيل، واستخرج من ذلك "الخطوط الحمر"
المطلوبة من أجل إبقاء الفلسطينيين على ما يسمى بنظام غذائي يتركهم على مسافة
قصيرة من التجويع.
حتى السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، كانت إسرائيل بحسب
تحليلها هي، بالكاد تقف في الجانب الصواب من القوانين الدولية التي تحرم التجويع.
وذلك أن 500 شاحنة محملة بالحاجيات الضرورية كانت تدخل كل يوم إلى القطاع، مكملة
بذلك ما يتم إنتاجه محليا من محاصيل زراعية وأسماك ولحوم. ولكن خلال الشهور
الأخيرة، لم يُسمح بدخول سوى أقل من ثلث هذا العدد، بينما لم يعد يوجد داخل القطاع
أي إنتاج غذائي.
لقد حُذرت إسرائيل منذ وقت مبكر حول ما يمكن أن
يحدث فيما لو استمرت في حملتها لتدمير كل شيء ضروري من أجل الإبقاء على الحياة
داخل القطاع. وكان من ضمن التحذيرات ما ورد في تقرير لجنة مراجعة المجاعة التابعة
لنظام التصنيف المرحلي المتكامل، والصادر يوم 21 ديسمبر (كانون الأول)، من تحذير
بحصول تجويع فيما لو لم تتوقف إسرائيل عن التدمير، وأخفقت في الوقت نفسه في السماح
بدخول المساعدات الإنسانية المطلوبة. بل إن قاضي إسرائيل نفسها، الذي كان ضمن هيئة
القضاة في محكمة العدل الدولية، أهارون باراك، صوت مع أغلبية القضاة في المحكمة
لصالح "إجراءات مباشرة وفعالة، لتمكين توفير الخدمات الأساسية والمساعدة
الإنسانية الضرورية المطلوبة بشكل عاجل".
ولكن إسرائيل ظلت على نهجها، فالاحتياجات التي
يسمح بدخولها إلى قطاع غزة، لم تزل دون الحد الأدنى من الكميات التي كانت إسرائيل
نفسها قد قررتها قبل الحرب. وما المساعدات الأمريكية التي تُسقط جوا، وما ميناء
الطوارئ إلا ذر للرماد في العيون، لا يغني ولا يسمن من جوع.
إن المجاعة تضرب أطنابها في غزة اليوم، ولا
يجوز بحال أن نمتنع عن التصريح بذلك، بانتظار أن نبدأ بإحصاء عدد قبور الأطفال الذين قضوا بسببها.