تجاوز العدوان الصهيوني على قطاع
غزة الستة أشهر لتصير أطول
حرب عسكرية
يخوضها الكيان المحتل ضد العرب (كما تحلو لهم تسميتنا) منذ عام 1948، وكان قِصَر
مدة الحرب أمرا هاما للاحتلال لأنه لا يستطيع تحمل تكلفة التعبئة العسكرية لمدة
طويلة، ولا تبعات الحرب على الاقتصاد، واجتماعيا فإن الكيان الهجين من أجناس
وأعراق ودول شتى، لن يكون الأرض الموعودة إذا فُقِد الأمان داخله، وسيكون جواز
السفر الثاني اختيارا مناسبا عند فقدان الأمان.
هذا الوضع دفع
الاحتلال إلى محاولة ترسيخ تفوقه العسكري على مستوى
المعدات، وعلى مستوى الدعاية النفسية، وتشكَّل الوعي العربي (المقرون بالهزائم)
على فكرتين: يملك العدو قوة مطلقة، والدعم الأمريكي سيجعل المواجهة مع العدو
مواجهة مع القوة العظمى، واستطاع الحكام العرب تسويق هذه الفكرة داخل المؤسسات
العسكرية والأمنية والإعلامية، وروَّج أبناء هذه المؤسسات نفس الأفكار التي صاغها
وسوَّق لها العدو المفترَض.
سادت هذه الأفكار لعقود، وكان يمكن لحرب عام 1973 أن تكون بوابة لكسر
هذه الفكرة، لكن السادات هَزَمَ الانتصار بأفكاره السياسية التي تأثرت حتما بتاريخ
طويل من العمل مع الاستخبارات الأجنبية قبيل انقلاب يوليو / تموز 1952، ثم جاءت
مواجهات الكيان مع الحركات المقاومة لتُظهِر أنه عدو شرس همجي، لكنه في النهاية
يتألم من المواجهات اليومية فانسحب من الجنوب اللبناني ومن قطاع غزة دون معاهدة
كما فعل في مصر، ثم خاض مواجهات مسلحة لم يستطع تحقيق نصر سياسي يواكب التدمير
العسكري، لتكون نتيجة مواجهاته في لبنان وفلسطين هزيمة سياسية رغم الدمار الحربي،
وخضوعًا لمطالب الحركات المقاومة في صفقات تحرير الأسرى، رغم أن بعض هذه الحروب
كان لأجل تحرير جنوده من قبضة المقاومة، وهو ما فشل فيه.
جاءت مواجهة طوفان الأقصى لتعطي بعدا جديدا في الوعي العربي، أوله
على المستوى العسكري، وأَهَمُّه على المستوى المعنوي في جانبين؛ الجانب الذي يسميه
الفلسطينيون "الدماء المتساوية"، والآخر تحطيم فكرة عدم إمكانية مواجهة
القوى العظمى.
عسكريا تتجدد المفاجآت في المناطق الأكثر تدميرا، فضلا عن المناطق
ذات الكثافة السكانية، وهذه التفرقة مهمة، إذ المناطق المدمرة تكون عمليات الرصد
فيها أسهل، وكذا إمكانية التحرك العسكري للآليات بعد إزالة الركام، بخلاف المناطق
ذات الكثافة السكانية، فرصد الأفراد العسكريين بين المدنيين يكون صعبا، وتحرك
الآليات العسكرية في المناطق المأهولة يحتاج إلى وقت أطول، ورغم هذه الفوارق فإن
المقاومة الفلسطينية لا تزال تقوم بعمليات معقدة لا مجرد عمليات خاطفة في تلك
المناطق، كان آخرها كمين الزَّنَّة المُركَّب والمعقَّد في آن واحد.
جاءت مواجهة طوفان الأقصى لتعطي بعدا جديدا في الوعي العربي، أوله على المستوى العسكري، وأَهَمُّه على المستوى المعنوي في جانبين؛ الجانب الذي يسميه الفلسطينيون "الدماء المتساوية"، والآخر تحطيم فكرة عدم إمكانية مواجهة القوى العظمى.
ثم هناك الوضع في الشمال والخوف من فتح الجبهة الشمالية "مع
حركة لا جيش"، وتلقِّي جيش الاحتلال الإهانات اليومية على الحدود الشمالية
بالتزامن مع صبر استراتيجي غير معهود له، خوفا من مواجهة مع حزب الله الأكثر
تدريبا وتسليحا من الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة المحاصر، فنتجت عن الصواريخ
اليومية عشرات الآلاف من المهجَّرين، فضلا عن الشلل الاقتصادي هناك وتحمل ميزانية
الاحتلال لإعانات ونفقات تعويضية للمغتصبين النازحين، ويحدث هذا دون عملية عسكرية
شاملة كان يمكن أن تحدث في زمن آخر، لكن المقاومة في غزة أوضحت حجم وقدرات جيش
الاحتلال أمام نفسه والعالم، فاختار تلقي الصفعات بنفس غير راضية.
بالعودة إلى القطاع، كانت التقديرات الصهيونية الأوَّلية تتحدث عن أن
الهجوم سيحتاج إلى عدة أسابيع، لكنها الآن أصبحت تتحدث عن سنوات بحسب مقال بصحيفة
"يديعوت أحرونوت" قال فيه المحلل العسكري يوآف زيتون إن ضباط الجيش
المخضرمين يُقَدِّرون أن "حماس لن تُهزم إلا عام 2026 أو 2027 في أحسن
الظروف"، وهذا التقدير المختلف يشير إلى قوة وصلابة وتماسك المقاومة وأجهزتها.
كذلك لا تزال لدى حركة حماس، الفصيل الأكبر في المقاومة، القدرة على
السيطرة المدنية بمجرد انسحاب قوات الاحتلال من أي مكان في القطاع، وإنهاء السيطرة
المدنية كانت من أهداف العدوان المعلنة لنتنياهو، لكن هذا الهدف ما يزال بعيد
المنال، فبحسب يوآف زيتون عن الوضع في شمال القطاع "في أسواق جباليا
المزدحمة، يحافظ نشطاء حماس على النظام ومنع التلاعب بالأسعار".
ويضيف
"وفقا لبيانات وزارة الدفاع، حققت حماس نجاحا ملحوظا، إذ انخفضت أسعار المواد
الغذائية في مارس/آذار الماضي، مما يشير إلى استقرار اقتصادي في (هذه)
المنطقة"، ورجَّح "حدوث مشاهد مماثلة قريبا في خان يونس والمناطق التي
لم ينشط فيها الجيش الإسرائيلي بعد، مثل رفح ومدن وسط القطاع، توجد سيطرة مدنية
لحماس، من مظاهرها تطبيق الشرطة للقانون والنظام".
هذه البيانات صادرة من وزارة الحرب الصهيونية وليست من مركز الإعلام
الحكومي، ما يشير إلى قوة الحركة حتى الآن على مستوى وضعها القيادي والإداري، في
مقابل استمرارية فشل هدفيْ "إعادة الردع أمام الأعداء والحلفاء في المنطقة،
وإعادة الثقة في مؤسسات وحكومة دولة الاحتلال"، وتكريس صورة كذب مقولة
"الجيش الذي لا يُقهر"، وقد قُهر بالفعل على يد حركات مسلحة لا جيوش
نظامية.
أما ما يتعلق بالمستوى المعنوي في إعادة تشكيل الوعي العربي، فنجد
مبدأ "الدماء المتساوية" متجسدا في الواقع لا مجرد تصريحات دعائية، بدأت
من استشهاد عضو مجلس كتائب القسام العسكري العام وقائد لواء منطقة وسط غزة أيمن
نوفل، مرورا باستشهاد نائب رئيس المكتب السياسي لحماس الشيخ صالح العاروري،
وانتهاء باستشهاد ثلاثة من أبناء رئيس المكتب السياسي إسماعيل هنية و4 من أحفاده،
وهذا الوضع ليس جديدا على قادة الحركة التي استُشهد مؤسسها الأول أحمد ياسين ومن
بعده خليفته الرنتيسي، والعشرات من قادة الصف الأول للحركة، وكذا في سائر الحركات
المقاومة.
تهدف الاغتيالات إلى عدة أمور، فهي رسالة للحركة بألا خطوط حمراء في
المواجهة لثنيهم عن الاستمرار في مواجهة الاحتلال، وضغطٌ عليها في التفاوض، وإحداث
ارتباك داخلي بقتل القيادي إلى حين إحلال آخر مكانه، كما أنها محاولة لتحقيق نصر
معنوي أمام الجمهور الصهيوني.
محصلة هذه الأهداف صفر كبير كصفر يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول،
فقادة الحركة يعرفون مصيرهم، وارتقاء السلم التنظيمي هو ارتقاء لسلم قائمة
الاغتيالات لا سلم المجد والشهرة، وبالتالي لن يتوقفوا عن المقاومة، وكذلك لا تضغط
عمليات الاغتيالات، رغم إيلامها، على المفاوض الفلسطيني، لأن "الدماء
متساوية"، ثم إننا لا نجد ارتباكا إداريا أو تنظيميا يعقب الاغتيال، فمثلا
بقيت الأحداث تتصاعد في الضفة رغم استشهاد العاروري الذي كان مسؤولا عنها، ومثل
ذلك وسط غزة بعد استشهاد نوفل، وهذا بالأساس ينبع من المؤسسية داخل الحركة.
لا يتحقق هدف النصر المعنوي أمام الجمهور الصهيوني ما دامت المقاومة ما تزال قادرة على الوقوف أمام الآليات وتنشر صورها من جهة، واستقبال القادة لخبر استشهاد ذويهم بمثل الثبات الذي ظهر عليه هنية وهو يقول "الله يسهل عليهم" ويستمر في جولته التفقدية لمرضى غزة باعتبار أن "الدماء متساوية"
وأخيرا لا يتحقق هدف النصر المعنوي أمام الجمهور الصهيوني ما دامت
المقاومة ما تزال قادرة على الوقوف أمام الآليات وتنشر صورها من جهة، واستقبال
القادة لخبر استشهاد ذويهم بمثل الثبات الذي ظهر عليه هنية وهو يقول "الله
يسهل عليهم" ويستمر في جولته التفقدية لمرضى غزة باعتبار أن "الدماء
متساوية" رغم جلالة الموقف وفداحة المصيبة، ما يجعل المواطن الصهيوني مرتعبا
من رد الفعل، لا واثقا من اهتزاز قادة المقاومة.
هذه الصورة تعطي للوعي العربي نموذجا للقادة غير المعزولين عن معاناة
شعوبهم وقتالهم، فقادة العرب لا يتعرض أبناؤهم لأي إشكال في حياتهم إلا عندما
يتجاوزون القانون في الدول الأوروبية، ويأتي دور المال لتغطية هذه الفضائح، وفي
بلدانهم يعيشون ملوكا لا ضابط أو رابط لتصرفاتهم، ويتولون المناصب العامة
والحساسة، أما قادة المقاومة فإنهم يتساوون مع شعبهم في الهمِّ والخندق، وهذا غريب
على الوعي العربي الغارق منذ سنوات في الاستبداد وصورة الزعماء المرفهين، وقادة
المعارضة أو الأحزاب أو الحركات الذين لا يشعرون بكثير منهم يقاسمهم همومهم
ويتواجد بينهم.
أما الجانب المعنوي الثاني، فهو تحطيم جدار الخوف من إمكانية مواجهة
القوى العظمى، وهو ما جسدته ساحات المقاومة الأخرى في تدخلها المحسوب، لكن اليمن
تحديدا اتخذ موضعا متقدما في تلك المواجهة استدعى تحركا أمريكيا بريطانيا عسكريا،
وهو تدخل محسوب كذلك يستقبل الصفعات دون رد فعل شديد القوة، على غير عادة الغطرسة
الأمريكية في حروبها الوحشية، وأصبحت الولايات المتحدة تسعى إلى تخفيض التوتر في
المنطقة ووقف العدوان الصهيوني، خوفا من انفجار الأمور في لحظة ما، رغم كل محاولات
السيطرة عليها، لعدم الانجرار إلى صراع متعدد الجبهات سيكون الخاسر الأساسي منه
المشروع الغربي في المنطقة ورأس حربته المشروع الصهيوني.
لا يزال طوفان الأقصى مستمرا في نجاحاته وانتصاراته، ورغم منافحة
كاتب هذه الكلمات عن فكرة المقاومة وحقها في التحرير، فإنني أزعم عدم المبالغة في
نجاحات المقاومة أو التهويل منها، إذ إن ليَّ الحقائق لا يخدم ما ننافح عنه ونحاول
إسناده بالكلمات التي لا نملك غيرها في زمن العجز العربي، وهذه الانتصارات يشعر
بها العدو قبل القريب، لأنه محل المواجهة وتلقِّي الصفعات.