عبد العلي حامي الدين
المقصود ب "نحن" في هذه المقالة:
نحن العرب، وتحديدا النخبة المفكرة التي تعمل على إنتاج وأفكار وتحليلات تساعد على
فهم الواقع من أجل تغيير الواقع العربي نحو الأفضل، وبصفة أخص تلك النخبة المنشغلة
بالقضية الفلسطينية والتي تحمل هم تحرير الأرض والإنسان من هذا الاحتلال
الاستيطاني الإحلالي الذي يمثل الشر المطلق في السياسة المعاصرة بتعبير الفيلسوف
المغربي طه عبد الرحمن، أي تلك النخبة الإصلاحية الداعمة للشعب الفلسطيني
ولمقاومته المسلحة والمؤمنة بحقه المشروع في مواجهة الاحتلال الصهيوني بكافة أشكال
المقاومة، والتي تجد نفسها مطالبة بتحديد موقف واضح من الجمهورية الإسلامية
الإيرانية باعتبارها قوة إقليمية تنهج
سياسة داعمة للقضية الفلسطينية باعتراف الفلسطينيين أنفسهم، وفي نفس الوقت لها
رؤية سياسية مرتبطة بمصالحها الاستراتيجية على مستوى الإقليم يصفها البعض بأنها
رؤية توسعية لا تخطؤها عين المراقب الخارجي.
الرد الإيراني الأخير بين التبخيس والتضخيم..
لقد مثل الرد الإيراني الأخير على دولة
الاحتلال موضوعا لاختلاف حاد بين هذه النخبة الإصلاحية المفكرة، بين اتجاه يرى
فيما حصل مجرد مسرحية للإلهاء قامت بها إيران وصلت بالمثقف الإسلامي عبد الله فهد النفيسي إلى اعتبار "
هجوم إيران
على
إسرائيل يصرف نظر العالم عن غزة وينقذ حكومة نتنياهو التي كانت على شفير
السقوط" بينما شرع أصحاب هذا الاتجاه في تعداد الفوائد والمكتسبات التي حققها
نتنياهو من مسرحية المسيرات الإيرانية والمتمثلة في "وقف المظاهرات ضده وصرف
النظر عما يجري في غزة وإعادة الدعم الأمريكي والبريطاني والغرب كاملا وتحريرهم من
الضغط الذي تمارسه شعوبهم ضدهم لوقف الحرب على غزة"، وهناك اتجاه آخر اعتبر
بأن إيران كسرت الخطوط الحمراء التي كانت
مرسومة بينها وبين دولة الاحتلال وهو ما "يؤْذن بأن الصراع الإستراتيجي بين
الطرفين بدأ يخرج من نطاق الحرب الخفية غير المباشرة إلى الحرب الصريحة
المباشرة" كما ذهب إلى ذلك الكاتب محمد المختار الشنقيطي، الذي يرى بأن
" أي ضربة إيرانية لإسرائيل ـ مهما كانت رمزية ـ مفيدة لأهل غزة، وفيها تخفيف
عنهم من أعباء الحرب الهمجية التي تشنها إسرائيل عليهم" مؤكدا أن "يوم 7
أكتوبر/تشرين الأول 2023 ويوم 13 أبريل/نيسان 2024 سيدخلان التاريخ باعتبارهما
يومين فقدتْ فيهما الدولة الصهيونية جزءًا مهمًا من ردعها، لا بسبب حجم الخسائر
الإسرائيلية فيهما، بل بسبب هزِّ ثقة الصهاينة بأنفسهم،.. وإحساس شعبهم ـ الملفَّق
من أشتات الآفاق ـ بعدم الأمان والاطمئنان في الصميم".
أهداف إيران المعلنة من ردها العسكري الخاطف..
بين هذين النظرتين، من المهم أن نستنطق
الأهداف المعلنة من طرف الإيرانيين أنفسهم، وقراءة هذا الرد في سياقه السياسي
والاستراتيجي.
في الأول من أبريل / نيسان 2024 ضربت
"إسرائيل" مبنى قنصلية إيران في سوريا وهو ما أسفر عن اغتيال نخبة
عسكرية وازنة من قيادات فيلق القدس من بينهم الشهيد زاهيدي الذي نعته كتائب القسام
و"أشادت بدوره الكبير في بناء جبهة المقاومة ضد الاحتلال على مدار سنوات
وبدوره البارز في "طوفان الأقصى""، وهو ما يدل على أن استهداف
القنصلية كان استهدافا لدور إيران الداعم للمقاومة وليس شيئا آخر، لكن هذه الضربة
العسكرية أشرت على تحول في الأهداف العسكرية لدولة الاحتلال ونهج سياسة جديدة ترمي
إلى استعادة الردع الإقليمي عبر تحويل جزء من التراب الإيراني إلى هدف عسكري، في
تجاوز سافر للقانون الدولي والقانون الدبلوماسي والقنصلي، وهو ما يمثل اختبارا
جديا لإيران ومدى استعدادها للتخلي عن سياسة الصبر الاستراتيجي والانجرار إلى حرب
إقليمية مباشرة.
يبدو أن إيران نجحت في اختيار الأسلوب الأنسب لوضعيتها الراهنة، وبعثت برسالة واضحة مفادها ولادة معادلة ردع إقليمية جديدة وضعت فيها إيران قواعد اشتباك جديدة تضمن بها هيبتها ونفوذها في المنطقة، كقوة إقليمية داعمة للمقاومة وقادرة على تنفيذ عمليات عسكرية ذات طبيعة هجومية داخل العمق "الإسرائيلي"، مع حرصها الشديد على تجنب الحرب المفتوحة، تحصينا لمصالحها الاستراتيجية العليا..
كان لزاما على العقل السياسي الإيراني أن
يقدر خطورة الموقف وتعقيداته، وأن يتصرف بذكاء سياسي ويهيئ الرد المتناسب مع ما
تعرض له من استهداف دون أن يقع في خطوة انتحارية غير محسوبة، ولذلك عملت
إيران من الناحية الدبلوماسية على استثمار
قواعد القانون الدولي واعتبرت بأن هجوم إسرائيل على القنصلية مخالف للقوانين
والمواثيق الدولية، وأشعرت مجلس الأمن الذي عجز عن إصدار بيان يدين العدوان
الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية بعد العرقلة البريطانية والفرنسية داخل مجلس
الأمن، وهو ما اعتبرته إيران تشجيعا لنتنياهو على خرق القوانين، ولذلك قامت طهران
بإشعار أمريكا بأن هجمات إيران ضد إسرائيل ستكون محدودة وللدفاع عن النفس، مؤكدة
أنها لن تتردد في الدفاع عن مصالحها المشروعة ضد أي عدوان جديد إذا لزم الأمر،
مؤكدة على أنها لم تستهدف مواقع اقتصادية ولا مدنية، وإنما استهدفت مواقع انطلاق
طائرات "إف 35 الإسرائيلية"، وهو رد جاء في إطار الدفاع المشروع عن
النفس، انسجاما مع المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة. وشددت إيران على أنها لا
تبحث عن استهداف الأميركيين ولا القواعد الأميركية في المنطقة، محذرة من أي
استهداف أمريكي من القواعد المتواجدة في دول المنطقة الذي ستضطر للرد عليه.
لقد اختارت إيران توجيه ضربة خاطفة
بالمسيرات المتطورة وبالصواريخ الباليستية بعيدة المدى لأهداف داخل الأراضي
الإسرائيلية، وهو ما يوازي ما قامت به إسرائيل من الناحية الشكلية باستهداف جزء من
التراب الإيراني فوق الأراضي السورية، فردت عليه إيران بالمثل مع ميزة استراتيجية
جديدة وهي اجتراح قواعد اشتباك جديدة لتحقيق ميزة استراتيجية لقوة الردع الإيراني
وهي إمكانية الضرب في عمق الأراضي المحتلة وهو ما يمثل رسالة واضحا بإمكانية
اختراق منظومة الدفاع الإسرائيلي وتحطيم هيبة الردع الاستراتيجي.
من أجل وعي استراتيجي في التعاطي مع الحالة
الإيرانية..
يمكن تصنيف النقاش الدائر في العالم العربي
إلى دائرتين مختلفتين: الدائرة الأولى اتجهت وجهة تبخيس الخطوة الإيرانية، وهي
منقسمة بدورها إلى صنفين: الصنف الأول الذي يعتبر رجع صدى لإرادة النظام الرسمي
العربي الذي اختار مسار التطبيع مع دولة الاحتلال، وليس في صالحه إسقاط هيبة دولة
الاحتلال وتمريغ سمعتها العسكرية، ولذلك سارعت نخبه إلى ترويج "أطروحة
المسرحية" والاستخفاف بالرد الإيراني..أما الصنف الثاني، فهو الصنف الذي ظل
محكوما بنظرة التوجس من السلوك الإيراني، وهي نظرة تتحكم فيها اعتبارات طائفية من
جهة وأيضا مخلفات السياسة الإيرانية الداعمة لحلفائها في المنطقة خصوصا ما يتعلق
بوأد احتجاجات الربيع العربي في سوريا في سياقات معقدة، وتلك قصة أخرى..
أما الدائرة الثانية فقد توزعت على من
اعتبروا الرد الإيراني بمثابة ضربة استراتيجية كبرى حطمت أسطورة الردع الاستراتيجي
الإسرائيلي على غرار ما حصل يوم 7 أكتوبر، وبين من اعتبروها خطوة مندرجة في إطار
الرؤية الإيرانية لخدمة مصالحها الحيوية في المنطقة، التي يمكن أن تتقاطع مع مصالح
العرب الراغبين في تحرير فلسطين من قبضة الاحتلال الغاصب، أما الأنظمة العربية
المتورطة في خيار التطبيع مع دولة الاحتلال فإنها تعيش لحظة إحراج سياسي شعبي كبير.
ويظهر من خلال النقاش أن هناك حاجة ماسة
لتجاوز النظرة العصبية المبنية على اعتبارات مذهبية والتأسيس لمنظور جديد لهذه
العلاقة تحضر فيها قواعد العلاقات الدولية والاجتماع السياسي ولغة المصالح
المشتركة، أكثر من لغة التاريخ والصراع المذهبي مع ضرورة التمييز بين سلوك الأفراد
(النعرات المذهبية والتميز الطائفي) وسلوك الدولة (الذي تحكمه لغة المصالح).
من المؤكد أن بناء رؤية موحدة حول العلاقات
العربية الإيرانية تعترضها مجموعة من الصعوبات الحقيقية، فلسنا بصدد طرف عربي واحد
تتوفر فيه شروط التكامل والاندماج، بينما هناك بالمقابل دولة إيرانية واحدة تحكمها
رؤية سياسية واحدة بغض النظر عن الاختلافات الموجودة بين الاتجاهات السياسية
داخلها، وحتى بالنسبة لبعض التكتلات العربية مثل منظمة التعاون الخليجي فهي منقسمة
على نفسها بخصوص كيفية التعاطي مع الموضوع الإيراني، مع اقتسام الشعور بالخوف وعدم
الارتياح لسياسة إيران في المنطقة..الشعور بعدم الارتياح تحكمه عدة أسباب، بعضها
منطقي وواقعي وبعضها تغذيه بعض الصور النمطية المستوحاة من الذاكرة التاريخية وما
تحتفظ به من وقائع يتم استدعاؤها لتبرير الخوف وعدم الثقة في الخطاب السياسي
الإيراني حتى ولو تحلى بأقصى درجات المرونة والواقعية..وهو ما يجعل البعض يميل إلى
القول بأن الخلافات الموجودة بين العرب وإيران هي خلافات سياسية توظف فيها
المذهبيات وبعض الوقائع التاريخية بشكل فيه الكثير من الإسقاطات التعسفية.
إن النزعة البراغماتية التي تؤطر السياسة
الإيرانية ليست بحاجة إلى تبرير أخلاقي بالنسبة لدولة تعمل على خدمة مصالحها
الاستراتيجية بالدرجة الأولى، ولكن الذي يستحق الدراسة هو الحالة العربية التي
تبدو عاجزة عن وضع مشروع منافس للمشروع الإيراني في المنطقة، ولاسيما ما يتعلق
بدعم المقاومة الفلسطينية في معركته التحررية العادلة، في الوقت التي تبدو بعض
الأنظمة العربية في موقع لا يؤهلهم لتحديد أهدافهم الاستراتيجية بمعزل عن التبعية
للقوى الكبرى في العالم، وهو ما يجعل العلاقات ‘العربية الإيرانية علاقات غير
مستقلة بل هي علاقات تدخل فيها أطراف أخرى.
حاجة العرب، والنخب العربية بالخصوص إلى وعي
استراتيجي جديد والعمل على بناء نظرة
جديدة محكومة بالتحولات الكبرى التي تعيشها المنطقة العربية، ومسكونة بخدمة
المصالح العليا للشعوب العربية والإسلامية وإيجاد موطئ قدم في نظام دولي لا مكان
فيه للضعفاء..
والخلاصة:
يبدو أن إيران نجحت في اختيار الأسلوب
الأنسب لوضعيتها الراهنة، وبعثت برسالة واضحة مفادها ولادة معادلة ردع إقليمية
جديدة وضعت فيها إيران قواعد اشتباك جديدة تضمن بها هيبتها ونفوذها في المنطقة،
كقوة إقليمية داعمة للمقاومة وقادرة على تنفيذ عمليات عسكرية ذات طبيعة هجومية
داخل العمق "الإسرائيلي"، مع حرصها الشديد على تجنب الحرب المفتوحة،
تحصينا لمصالحها الاستراتيجية العليا، أخذا بعين الاعتبار قدرتها على ضمان حضورها
في الإقليم بواسطة حلفائها في لبنان والعراق وسوريا واليمن، واستحضارا منها للحرص
الأمريكي على تجنب سيناريو الحرب المفتوحة وتحذيره للحليف الإسرائيلي بضرورة
التنسيق في أي خطوة عسكرية تستهدف إيران، بينما يقف النظام الرسمي العربي عاجزا عن
بلورة رؤية استراتيجية بمعزل عن إرادة القوى الكبرى، ويظهر عجزه الأكبر في عدم
قدرته حتى على التحلل من علاقته السياسية مع دولة الإجرام الصهيوني.