الكتاب: المساواة
المؤلف: الدكتور كمال الصيد
الناشر: مركز الفكر الإسلامي والدراسات المعاصرة
الطبعة الأولى: 2024
عدد الصفحات: 176
نجح المجتمع الغربي منذ موفى القرن الثامن عشر ميلاديّة في المعراج
بمبحث المساواة من دائرة التجريد الفلسفي
إلى مجال المقاربة العلمية الاجتماعية ومن دائرة البلاغة الخطابية إلى مجال
الممارسة السياسية والتأسيس الدستوري، والذي ترجم بداية في الرابع من يوليو 1776
ضمن الاعلان الامريكي للاستقلال، الذي أكّد أن "كل الناس خلقوا على قدم المساواة، وأن لديهم حقوقا حباهم بها
الخالق لا يجوز التصرف فيها” وبعد عقد واحد ضمن إعلان حقوق الإنسان والمواطن
الفرنسي في أغسطس 1789، والذي نصّ على أنّ "البشر جميعهم متساوون فقد ولدوا
وخلقوا متساوون اي هناك مساواة تامة بين الجميع دون وجود اي تمييز سواء بسبب الدين
الجندر , الجنسية , الللون فالجميع سواسية". وبذلك شكّلا الإعلانان الأمريكي
والفرنسي تأكيدا دستوريا على القيمة المعنوية والاخلاقية لمبدأ المساواة البشرية
ضمن المنظومة القانونية والدستورية.
في المقابل، وبالرغم ممّا تضمنته النصوص الإسلامية المؤسسة من قرآن
وسنة من تأكيد أهميّة المساواة بين البشر، عربيهم وأعجميهم، فإنّ فكرة المساواة
بمفهومها السياسي الحديث، وإذا ما اسثنينا العقود الأولى لدولة المدينة، فإنّ
الدكتور والباحث كمال الصيد يرى أنها "لم تتعدّ مباحث علم الكلام
والإلهيات". ذلك أن مصطلح المساواة بوصفه مقصدا إسلاميا أصيلا قد
"اعتراه السكون المطبق واختفى خلف مصطلح العدالة وبقي سابحا في فضاء علم
الكلام والإلهيات ، وأبى أن يسير بين الناس وبينهم". في هذا الإطار يتنزّل تقديمنا
لكتاب "المساواة" لمؤلفه الدكتور كمال الصيد والمنشور بداية السنة 2024،
من قبل "مركز الفكر الإسلامي والدراسات المعاصرة" التركيّة والذي اجتهد
مؤلفه في تفكيك الإشكالية التالية: هل انتقل سؤال المساواة من الدلالة اللغوية إلى
الدلالة الاجتماعية في الفكر الإسلامي؟
نحو مقاربة جديدة لمفهوم المساواة
يعتبر الدكتور كنال الصّيد أنّ الدافع
الرئيس وراء بحثه هو مواصلة استئثار النظريات الاشتراكية والماركسية بفكرة مقاومة
التفاوت وبناء مشروعها عليها، وجعل المسألة الاجتماعية والظلم الاجتماعي محورا
صراعهم، بينما يواصل أصحاب الفكرة الإسلامية التجديف بعيدا عن هذا الاصل المكنوز
في الشريعة والذي يعتبره أصلا من أصول العمران البشري الذي قوامه العدل والمساواة
ونبذ الظلم. كما يرى الدكتور الصيد أنّ التجربة النضالية للإسلاميين أبانت غفلة
كبيرة عن حاجة الشعوب للعدالة الاجتماعية والمساواة والنضال ضدّ الفساد والظلم
الاجتماعي، في مقابل تكريس معظم جهدهم في الدفاع عن الحريات، على أهميتها
ومحوريتها.
فكرة المساواة جاءت قائمة بصورة ملحوظة بل وأصلا من أصول الإسلام، وأنّ السنة الفعليّة إحدى تمظهرات هذه السياسة النبوية التي "جاءت إجابة عمليّة لنظريّة المساواة في الإسلام، فقد نزلت نظريّة المساواة على الرسول في بيئة تقوم على الانقسام المجتمعي فهناك شريف ووضيع، وسيد وعبد، وعربي وأعرابي، وتوجد عقلية قبلية تقوم على التفاخر بالمال والجاه، والشرف واللون، والتفاخر بالأنساب والأجداد، وجاءت الرسالة المحمدية في بيئة تقر باللاّمساواة بين المرأة والرجل، إلى درجة وأد الأنثى وهي حيّة".
وقد اهتم الدكتور كمال الصّيد في الجزء الأول من مؤلفه
"المساواة" بتفكيك المفاهيم التي يراها المتسبب الرئيس في التجديف بعيدا
عن المفهوم الأصيل للمساواة والذي اعتبره الدكتور سعيد الشبلي، الذي قدّم للكتاب،
بأنّه "الثورة الإسلاميّة الحقيقية التي جاء بها هذا الدّين الذي نطقت آياته
ببيان حرية الإنسان وحق كلّ الناس في نعم الله تعالى بحسب القوانين والضوابط التي
أنزلتها الشريعة الإلهيّة وحدها، وليس بحسب أهواء البشر".
في هذا المقام، يرى الدكتور الصيد أن مفاهيما عديدة "أبعدت
العقل الإسلامي عن روح المعنى لمصطلح المساواة وهي: مصطلحات الاختلاف والتفاضل
والتفاوت والتي كثيرا ما تمّ مطابقتها مع المساواة". وفي مرحلة ثانية، اجتهد
في تقديم رؤية منسجمة لفقه المساواة مع المستويات المذكورة أعلاه، في اتجاه
"تشكيل مشروع تصوّر لنظرية الإسلام في المساواة".
وخصص المؤلف الفصل الثاني من الكتاب لتبيان الأسس النظريّة للمساواة
في الإسلام: المساواة ومقصد التوحيد والعبوديّة، فالمساواة في الأخوة الإنسانيّة
ثم المساواة في الانتفاع بالثروات الباطنيّة. كما أفاض في الفصل الثالث من الكتاب
في تعرية الإخلالات الدلالية في مفهوم المساواة. أمّا في الفصل الرابع المعنون
بـ"نحو مقاربة جديدة لمسألة المساواة" فقد أبان الدكتور كمال الصيد
مفهومي المساواة المعتبرة والاختلاف ثم فصّل المساواة الملغاة في نظام التفاضل في
الإسلام ولينتهي باقتراح مفهوم للمساوة الممكنة عند التفاوت الاجتماعي.
الشيخ محمّد الطّاهر ابن عاشور ونفي الموانع التي تحول دون إقامة
المساواة
لم يفت الدكتور كمال الصيّد وهو يسعى إلى تقعيد مفهوم جديد وثوري
لمفهوم المساواة أن يعرض رؤية الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور لمسألة المساواة. فقد
جمع ابن عاشور بين نمطين من النظر في المسألة، نمط يسعى إلى الإحاطة بالمساواة
ببيان شروطها والقيود التي لا بدّ من اعتبارها لدى في إقامتها، ونمط ركّز على بيان
أنّ إقامة المساواة الحقيقيّة تكون بنفي الموانع التي تحول دون إقامتها.
في هذا السياق، خلص الشيخ محمّد الطّاهر ابن عاشور إلى أنّ البناء
على نفي الموانع أولى في تحقيق المقصود من بيان الشروط وتعديد القيود فيقول:
"الشريعة التي تبني المساواة على اعتبار الشروط والقيود شريعة مساواتُها
ضعيفة، والشريعة التي تبني مساواتها على اعتبار انتفاء الموانع شريعة مساواتها
واسعة صالحة. ويظهر أنّ الدّعوة الإسلاميّة بنت قاعدة المساواة على انتفاء
الموانع، وشتّان بين قوّة تأثير الشرط وتأثير المانع. والشريعة التي لا تقيّد
المساواة بشيء شريعة مضللة".
السنة الفعليّة ودليل المساواة في السياسة النبويّة
يشير المؤلّف إلى أنّ فكرة المساواة جاءت قائمة بصورة ملحوظة بل
وأصلا من أصول الإسلام، وأنّ السنة الفعليّة إحدى تمظهرات هذه السياسة النبوية
التي "جاءت إجابة عمليّة لنظريّة المساواة في الإسلام، فقد نزلت نظريّة
المساواة على الرسول في بيئة تقوم على الانقسام المجتمعي فهناك شريف ووضيع، وسيد
وعبد، وعربي وأعرابي، وتوجد عقلية قبلية تقوم على التفاخر بالمال والجاه، والشرف
واللون، والتفاخر بالأنساب والأجداد، وجاءت الرسالة المحمدية في بيئة تقر
باللاّمساواة بين المرأة والرجل، إلى درجة وأد الأنثى وهي حيّة".
وفي ذات السياق، يقول المؤلف إنّ الصحابة وهم خرّيجو المدرسة
المحمديّة فصيل خاص، درسوا وتربّوا على يد الرّسول الذي لا يهاب الظّلم
واللاّمساواة، ويشنع بالمسّ من الكرامة والتمييز بين الإنسان وأخيه الإنسان، فكان
لا يعبأ بمعايير الشرف القبلي والنسب الدّموي أمام قيمة المساواة والكرامة
الإنسانيّة، وهو القائل عليه السلام وأفضل الصلوات: "النّاس سواسية كأسنان
المشط الواحد، وإنّما يتفاضلون بالعافية". ويورد المؤلّف عديد الأمثلة
والشواهد من السنة النبوية. الحادثة الأولى هي حادثة المرأة المخزومية التي سرقت في
عهد الرسول، فخافت قبيلتها من قطع يدها، لأنّها اعتبرت أنّ تطبيق الحدّ على هذه
المرأة يعتبر فضيحة لها وهي قبيلة ذات الحسب والنسب، فما كان منهم إلاّ أن
استشفعوا بأسامة بن زيد ليكلمه في عدم قطع يدها، فقال الرسول: "أتشفع في حدّ
من حدود الله؟"، ثمّ قال: "إنّما أهلك الذين قبلكم أنّهم كانوا إذا سرق
فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيّم الله لو أنّ
فاطمة بنت محمّد سرقت لقطعت يدها".
أمّا الحادثة الثانية فهي تتعلّق بقصّة أبي ذر الغفاري، فقد تنازع
أبو ذر مع أحد إخوانه، فانطلق لسانه قائلا لأخيه ما يعيره، فبلغ النبي فغضب غضبا
شديدا ولام أبا ذر ووبّخه فقال له: "أعيّرته بأمّه إنّك امرؤ فيك
جاهليّة"، مما جعل أبا ذر يذهب إلى أخيه ويعتذر منه ثم وضع خدّه على الأرض
وقال له "يا ابن أخي ضع قدمك على خدّي".
اللاّمساواة الاجتماعيّة غير المشروعة أو التفاوت الاستكباري
يقسّم المؤلّف التفاوت أو التدرّج الاجتماعي إلى نوعين: التفاوت
الاجتماعي المشروع والتفاوت الاجتماعي غير المشروع، وهو كل تفاوت سببه الظلم
والاعتداء ويعتبره تفاضل قهري وتعسفي، أي كل تفاوت قائم بوسائل غير مشروعة.
فالتفاوت الكسبي الاستكباري أي المكتسب عن طريق الظلم هو المرادف للاّمساواة
بالمعنى الذي نريد. فالتفاوت في الطبيعة ، وفق المؤلف، لم تخلق طبقة الأسياد وطبقة العبيد، إنّ التفاوت
الاجتماعي المشروع لا يجد جذوره في تفاوت مواهب الأفراد أو كفاءاتهم، بل إنّ ذلك
من صميم أثر العمل الكسبي من مواهب وجهد وتنافس، لذلك لا يعني أنّ الإسلام ضدّ
التدرّج الاجتماعي، ولكن ما هو غير مشروع ذلك التفاوت الناجم عن استغلال الإنسان
لأخيه الإنسان، واضطهاد طبقة اجتماعية لطبقة أخرى. وعادة ما يكون هذا التفاوت
الاجتماعي مرتبطا بقيم اجتماعية سالبة، مهينة للكرامة الإنسانيّة مثل الظّلم
والعنصريّة والاستغلال وانتهاك الحقوق والكسب السريع لثروات ضخمة عن طريق الفساد،
مشبوهة وغير شرعيّة كالسرقة والتهريب وتبييض الأموال والرشوة. فهذا حينئذ هو
التفاوت الاجتماعي البغيض الذي يمقته الإسلام ويحرض عليه لإزالته ومقاومته وقد شرع
الأحكام الكثيرة والقيم النبيلة من أجل ذلك.
الإسلام يقاوم التفاوت الاستكباري
ممّا سلف، يخلص الدكتور كمال الصّيد في مؤلّفه "المساواة"
إلى أنّ الإسلام وبقدر ما يحث على بلوغ المساواة المنشودة بقدر الإمكان
والاستطاعة، فإنّه جاء ثورة على التفاوت الاجتماعي الاستكباري ودعا إلى مقاومته
بكلّ الأشكال ما دام ينتسب إلى عائلة الظلم الذي حرمه الله على نفسه، وذلك بنيل
المراتب والحظوظ والمراكز الاجتماعيّة بالإكراه والقهر والقسر، ولقد أبان البحث عن
واقعيّة الإسلام بتسليمه بوجود هذه الآفة
الاجتماعيّة بوصفها "تمثلا لصراع الحق والباطل الأزلي وتدافعا مستمرّا للخير
والشر في المجتمعات، بسبب ذلك لم يترك ظاهرة التفاوت الاستكباري دون علاج، بل قدمت
الشريعة الإسلاميّة حزمة واسعة من أحكام وقواعد ومقاصد وآليات وقيم أخلاقيّة
مستمدّة من ركن الإحسان منبع إرادة النفع للآخرين وكف الأذى والظلم والسوء إزاءهم".
كما يؤكد الدكتور كمال الصيد أنّ هذه الشريعة جاءت لتقطع أسباب
التفاوت الاستكباري وردم الهوة والفجوات الاجتماعية بين الناس، وهو ما جعله يعتبر
هذا الجزء من المدوّنة التشريعية "بابا من أبواب الفقه العام يطلق عليه فقه
المساواة، الذي يعتني بإنقاذ المستضعفين والمهمشين وضعفاء الحال في المجتمع
والساقطين والعاجزين على طريق الحياة ومحنها وحوادثها الكأداء".