أثير مؤخرا في عدد من كتابات الحداثيين الذين ينتظمون في مشروع
القراءة التنويرية للإسلام، والفهم الحداثي لمقاصده، فكرة تحكيم
قيم القرآن
العليا، وإعادة تجديد علم أصول الفقه على هدي من فكرة التعليل بالقيم بدل التعليل
بالأوصاف الظاهرة المنضبطة التي قررها الأصوليون في كتاباتهم، وبدل ما ذهب إليه
الشاطبي في نظرية المقاصد، ومضمون الفكرة
أن الإسلام جاء لتحقيق قيم عليا حاكمة، وأن النظر ينبغي أن يتوجه إلى مراجعة أحكام
الشريعة بل النصوص القطعية منها، في ضوء هذه القيم، وما كان من الأحكام لا يتماشى
مثلا مع قاعدة العدل، أو ما كان من النصوص القطعية، يسوغ الحيف استعيض عنه، بإعمال
القيم الحاكمة، ولو اقتضى ذلك ترك النص القطعي الدلالة.
ولئن لهذه الدعوى بعض الجاذبية، إذ تحاول الانتظام في القرآن، وتأسيس
المعنى انطلاقا من قيمه، فإن كثيرا من المسايرين أو العاطفين على هذه الأفكار، لا
يدخلون إلى عمق الفكرة، ليختبروا إمكانها، ويبينوا حدودها، وما إذا كانت لا تجر
معها إشكالات مستعصية، يصعب فكها، أو أن تطبيقها مستحيل إمكانا وفعلا.
وسنحاول في هذا المقال أن نبرز سبعة إشكالات جوهرية تعترض مقولة
التعليل بالقيم، ونبين أنها فكرة طوباوية لا تملك عناصر تحققها على أرض الواقع،
وأنها تثير من الإشكالات ما لا تثيره نظريات التعليل الأخرى (التعليل بالأوصاف
الظاهر المنضبطة، التعليل بالحكمة، التقصيد).
الإشكال الأول: في معضلة الحصر والاستقراء
ومضمونه أن التعليل بالقيم يفترض التواطؤ القطعي على القيم الحاكمة،
وعدم الاختلاف فيها، لأن أي اختلاف من هذا النوع، ينتج عنه اختلاف أنظار المجتهد
في التماس القيمة التي يتم التعليل بها، وهو ما يجعل إمكانية التوافق على قواعد
يحتكم إليها أمرا متعذرا.
يبين استقراء بعض الأعمال التي اشتغلت على حصر قيم القرآن الحاكمة،
أن هناك اختلافا واسعا يصعب معه تصور لائحة قيم متوافق حولها، وقد توقفت على خمسة
أعمال في استقراء القيم في القرآن، ووجدت بينها اختلافا لا يمكن تجسيره، في
مستويات عدة، يعود بعضها للتسمية، فسماها طه جابر العلواني بالقيم الحاكمة، وسماها
فتحي ملكاوي بالقيم المقاصدية، وسماها كل من محمد بلبشير الحسني وخالد الصمدي
بمنظومة القيم في القرآن، وسماها الدكتور محمد الكتاني بمنظومة القيم المرجعية في
الإسلام.
وإذا كان الاختلاف في التسمية لا يترتب عنه إلا أثر شكلي في القول
بالتعليل بالقيم، فإن الخلاف في منهج الاستقراء، وثمرته (حصر القيم) يبين مساحة
الاختلاف الواسعة التي يصعب معها تصور لائحة قيم قرآنية، تتسم بصفة القطعية التي
ترشحها وحدها دون غيرها لأن تكون مظنة للتعليل.
يبرز الإشكال الأول على هذا المستوى في تمييز ما هو قيمة عليا حاكمة،
وما هو قيمة فرعية، ويبرز الإشكال الثاني في معايير استقراء القيمة من القرآن،
ويظهر الثالث، في نتائج الاستقراء وما يترتب عنه من حصر لوائح مختلفة، يجادل البعض
في شرعية هذه القيمة أو شرعية تلك لكي تكون ضمن اللائحة المستقرأة.
يمكن على سبيل المثال أن نسجل في المستوى الأول (حصر القيم العليا
الحاكمة) الجدل بين طه جابر العلواني رحمه الله وبين رفيقه فتحي ملكاوي، فقد حصل
تطور في فكر العلواني، فأضاف في مرحلة لاحقة من مساره الفكري قيمتين حاكمتين
(الأمة والدعوة) إلى جانب القيم الثلاث العليا الحاكمة (التوحيد والتزكية
والعمران)، ورأى فتحي ملكاوي أن إضافة هاتين القيمتين لن يكون إضافة مناسبة، وعلل
ذلك بأن "مسوغ جمع التوحيد والتزكية والعمران بوصفها قيما حاكمة أو قيما
مقاصدية، غير مسوغ للاهتمام بالأمة والدعوة نتيجة لضغوط الواقع".
وإذا كان هذا هو الحال في حصر القيم العليا الحاكمة، فإن الأمر يصير أكثر تعقيدا عند النزول إلى ما
هو أدنى مما يتعلق بالقيم الفرعية، فالاستقراء يفيد بوجود مسافة بعيدة بين القيم
المستقرأة في كل مشروع على حدة، فالدكتور يوسف الكتاني، يركز في قيم القرآن
المرجعية على أقل من عشر قيم مرجعية هي الحق والعلم والدين والحرية والمسؤولية
والأمانة والعدل والوسطية، والدكتور خالد الصمدي في مشروعه لاستقراء منظومة القيم
في القرآن الكريم وتطبيقاتها، يرى أن القيم في القرآن محصورة في 26 قيمة، لم يذكر التوحيد ضمنها، معللا ذلك على طريقة العلواني بأن التوحيد وعاء
لقيم فرعية، وليس قيمة فرعية بحد ذاته، بينما عدد بلبشير الحسني عددا مستفيضا من
القيم تجاوزت الأرقام السابقة.
وإذا كانت هذه المشاريع المحدودة، التي اشتغلت على منظومة القيم
اختلفت في معايير استقراء القيم من القرآن، واختلفت في حصر القيم العليا الحاكمة،
واختلفت في القيم الفرعية، ثم تباعد العدد بين لوائحها تباعدا كبيرا، فإن سؤال
التعليل بالقيم يصير تبعا لذلك أمرا معضلا، فبأي قيمة سيتم التعليل، وبأي لائحة
سيتم الاعتماد؟ وكيف نعتمد هذه القيمة ونستبعد الأخرى؟ وكيف نؤول إلى قاعدة مشتركة
يصير لها حكم الضابط الذي نحتكم إليه، كأن يقع التوافق في نهاية المطاف على لائحة
واحة تكتسب صفة القطعية في تمثيلها لقيم القرآن العليا الحاكمة أو الفرعية؟
الإشكال الثاني: الانضباط
جرى بين علماء الأصول نقاش
طويل عريض حول التعليل ومداره بين التعليل بالأوصاف الظاهرة والتعليل بالحكم، ومع أن الحكمة هي مصلحة يجتهد العلماء بربط
الحكم بها، فإن العلماء لم يجوزوا التعليل بها، بحجة عدم الانضباط، فطبيعة الحكةم خفية ومضطربة، ويقع الاختلاف
فيها، بخلاف الأوصاف الظاهرة فإنها منضبطة ومطردة، ورغم أن عددا من الأصوليين
تسامح مع فكرة التعليل بالحكمة كما هو الأمر عند الرازي، إلا أن العقل الأصولي الاشتغالي اتجه كله مع التعليل
بالأوصاف الظاهرة، وعلى ذلك جرى فقهاء القانون، فأنت ترى أن تنظيم قانون السير بني
على الإشارات المنضبطة، ولم يترك للنظر
المصلحي للسائق ، فالأول (احترام إشارات
المرور)منضبط تحصل معه المصلحة من الحكم (السلامة من الحوادث) والثاني خفي مضطرب
لا يؤمن معه حصول الحوادث، خاصة وأن طبيعة الإنسان الغفلة.
وإذا كان هذا هو دأب الأصوليين في التمييز بين الأوصاف الظاهرة
والحكم، فالأمر بالنسبة للتعليل بالقيم أشد اضطرابا وخفاء، فإذا قال قائل إن العدل
قيمة مركزية في القرآن، وأن التعليل يصح بها، أثير السؤال عن ضابط العدل، وهل يعود
إلى نظر الناس وأهوائهم، أم إلى أمارات وقرائن يتم الاستناد إليها لتحقيق مناط
النازلة وبيان محل الحيف والضرر، وكيف يتدخل العدل لجبر ذلك. فأنت ترى أن النبي
صلى الله عليه وسلم، وهو المؤيد بالوحي، والمتجرد للعدل في أحكامه، كان يقول في
الحديث:" إِنَّمَا أَنَا بشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ،
وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ؛ فأَقْضِي
لَهُ بِنحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بحَقِّ أَخِيهِ فَإِنَّمَا
أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ" مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وإذا كانت قيمة العدل مفتقرة إلى الأمارات الدالة عليها، فإن تقدير
الناس لها ولأماراتها تتباين من واحد لآخر. ألا ترى أن القضاء المؤتمن على تنزيل
قيمة العدل والحكم بها، يلتمس الأمارات، ثم يخضع نظامه لتراتبية ثلاثية
(الابتدائي، الاستئنافي، النقض) حتى يتم بناء على ذلك تقليص هوامش التقدير الذاتي
للقاضي قياسا إلى قوة القرائن والأمارات. فإذا كان الشأن كذلك في مجال المنازعات
والخصومات، فأن الأمر يصير أكثر تعقيدا عند التشريع، لأن التشريع مرتبط بمصالح
الفئات والنخب، فكيف يمكن التعليل بالعدل، وكل فئة تسعى لكي تكون ألحن بالحجة من
الأخرى لتحقيق مصلحتها، فتمطط قيمة العدل، وأماراتها عند الانتصار للمرأة على
الرجل، أو عند الانتصار للرجل على المرأة، أو للفرد على الجماعة والدولة أو للدولة
على الفرد والجماعة.
ومن العجب أن بعض المتحدثين في قضايا الإرث جعل من التعليل بالعدل
بديلا عن الالتزام بالنص القطعي، لكنهم لم يظهروا حدود هذا التعليل ومآلاته، وهل
يتوقف عند التسوية بين الذكور والإناث من الأبناء؟ أم يذهب إلى حد إعادة ترتيب
منظومة الإرث، بحجب الأبوين، ما دامت قيمة العدل، تجوز نقل التركة للأبناء
المقبلين على الحياة لا الآباء الذين جعلوا حياتهم وراءهم؟
ملخص هذا الإشكال أن التعليل بالقيم يحمل معه محذورات أشد من التعليل
بالحكم لأن أمرها أشد اضطرابا وخفاء وأقل انضباطا، فما يراه هذا عدلا يراه الآخر
جورا، فكيف يسوغ لمن يعلل بالعدل أن يسوي بين الإناث والذكور من الأبناء في الإرث
بحجة تغير الأدوار الاجتماعية ودخول المرأة دورة الإنتاج والنشاط، ويقنع في الآن
ذاته المرأة بترك التفضيلات والتمييزات الإيجابية لصالح المرأة التي ضمنها لها
الشرع؟
الإشكال الثالث: التعليل وتداخل القيم وتعارضها
والقيم مثلها مثل المصالح، ليست على نسق يسوغ جمعها من كل الوجوه، بل
تتداخل القيم وتتعارض في نوازل كثيرة، ويطلب معها ترجيح بعضها على بعض، والتعليل
ببعضها دون الآخر، أو التوافق على قواعد في الجمع بينها أو ترجيحها. فالذين يدعون
اليوم إلى الإعلاء من قيمة الحرية، وجعلها سقفا لكل القيم الأخرى، يجدون أنفسهم في
خط نقيض مع المنتصرين لقيم المسؤولية، وإذا كانت الفلسفة الاجتماعية قد نجحت في
إنتاج مفهوم تقييد الحرية بمفهوم العقد الاجتماعي، فإن التعليل اليوم بالقيم يثير
هذه المسألة من جديد، فلأي قيمة سيتم الانتصار: لقيمة الحرية أم للعفة، أم للوحدة
أم للمسؤولية، وهي قيم ثلاث توجد اليوم في تداخل وتماس شديد مع قيمة الحرية.
يثار جدل قوي اليوم في المجتمعات العربية حول الإفطار في نهار رمضان،
فالذين يسوغون حق السلطة في التدخل لمواجهة هذه الظاهرة، ينتصرون لقيمة الدين
وقيمة الوحدة وقيمة النظام، والذين لا يرون بأسا من ذلك وينتصرون لحرية الفرد في
الالتزام بالدين من عدمه ينتصرون لقيمة الحرية ومنع السلطة من التدخل في تقييدها،
فما الضابط الذي ننتهي إليه في تعيين القيمة التي سيتم التعليل بها في هذه
القضايا، وما القاعدة التي يمكن إنتاجها للجمع بين القيم عند تماسها وتداخلها
وتعارضها، وكيف يمكن تصور قواعد الترجيح بينها، بما يحفظ منظومة القيم في شمولها
واطرادها؟ وكيف يصار بعدها إلى بناء الاجتماع وتحصين وحدته وتماسكه فضلا عن حفظ
النظام؟
الإشكال الرابع: التعليل بالقيم أم بمفهومها
وهو إشكال متفرع عن سابقه، فالذين يؤسسون لفكرة التعليل بالقيم، لا
يشتركون في فكرة الانتظام في الثقافة القرآنية، بل منهم من يتبنى مفهوم التلاقح
الثقافي، ومفهوم توطين القيم الكونية في البيئة العربية الإسلامية، وهو ما يتولد
عنه إشكال جديد يضاف إلى سابقه، يتعلق بالعلاقة بين القيمة ومفهومها، واي مضمون
تكتسب، ومن أي مرجعية تستمد هذا المضمون والحد؟
لذين يؤسسون لفكرة التعليل بالقيم، لا يشتركون في فكرة الانتظام في الثقافة القرآنية، بل منهم من يتبنى مفهوم التلاقح الثقافي، ومفهوم توطين القيم الكونية في البيئة العربية الإسلامية، وهو ما يتولد عنه إشكال جديد يضاف إلى سابقه، يتعلق بالعلاقة بين القيمة ومفهومها، واي مضمون تكتسب، ومن أي مرجعية تستمد هذا المضمون والحد؟
فمفهوم الحرية مثلا، أو مفهوم المساواة ـ وهما بالمناسبة أشد
المفاهيم طرحا للإشكال المفاهيمي ـ يتعدد مفهومهما بحسب المرجعية التي يستندان إليها
في صياغة المفهوم وتشكليه، ومن ثمة فالإشكال الذي يطرحه التعليل بالقيم، يتجاوز
الدلالة القرآنية المستقرة للقيمة من نص القرآن إلى مفهوم القيمة كما استقرت في
أنساق ثقافية مختلفة، مما ينتج عنه توسع مساحة الخلاف في مضمون القيمة وحدها، مما
يترتب عنه تبعا لذلك اختلاف في التعليل بالقيمة نفسها، بين من يذهب بها في هذا
الاتجاه ومن يذهب بها في الاتجاه المقابل.
الإشكال الخامس: التعليل بالقيمة أم ببعض أفراد جنسها
يطرح هذا الإشكال في القيم المركبة من أفراد ينتظمها جنسها، وذلك
كقيمة الحق، فإنها متضمنة لحق الله وحق النفس وحق الغير كما هو الأمر في التحديد
القرآني، ولقد تكلم العز ابن عبد السلام طويلا في هذه الأقسام، وفي التداخل بينها
وفي تعارضها وعرض لأوجه ذلك في كثير من الأحكام والمعاملات، وأنتج الفقه الإسلامي
قواعد مهمة في الجمع بينها وفي ترجيح بعضها على بعض، لكن المتحدثين في التجديد
الديني اليوم، تأخذهم مذاهب مختلفة في النظر لهذا التراث الفقهي، ومنهم من لا يعبأ
بالمطلق بحق الله، ويرفع شعار "الإنسان قبل الأديان"، مما يجعل التعليل المفترض بالقيم مجاريا لهذه النظرة التي تنتصر
لحق النفس أو حق الغير، دون إدراك للصيغ المركبة التي تحدث عنها الفقهاء،
ومنهم سلطان العلماء بقدر كبير من التأصيل
والتفريع. على أن هناك جانبا آخر في المعادلة، فالنظر إلى أفراد الحق المنضوية تحت
جنسه، يخضع لتأثيرات الثقافة والفكر والإيديولوجيا، فالنظرة الليبرالية، تنتصر لحق
الفرد أكثر من انتصارها لحق المجتمع، والنظرة الاشتراكية تنتصر لحق المجتمع،
والنظرة الكليانية الشمولية في كل تعابيرها تنتصر لكيان الدولة، فعلى أي أساس يتم
التعليل، وهل يخضع لتأثيرات هذه النظرات الفكرانية التي تؤثر في العقل النظري؟ أم
أن العقل الاجتهادي معني ببسط القواعد التي تبين العلائق المفترضة بين الأفراد
الواقعة تحت جنس قيمة الحق، وطرق الجمع بينها في حال التداخل وطرق الترجيح بينها
في حال التعارض، وأي الرؤى الفكرانية أقرب إلى تحقيق النظرة المتوازنة في صهر
المركب الثلاثي: الفرد/ الجماعة/ الدولة؟
الإشكال السادس: الاطراد
فقد انبنت فكرة التعليل في الأدبيات الكلامية والأصولية على فكرة
دوران العلة مع الحكم وجوبا وعدما، وهو ما يسميه الأصوليون بالطرد، أي أن الحكم لا
يتخلف في حال وجود علته، ويتخلف في حال عدم وجود علته، وهو رأس التفكير الفقهي
(القياس) والقانوني.
المشكلة في القيم، كما تبين ذلك في إشكال الانضباط، أنه من الصعب إن
لم يكن من المستحيل تصور الاطراد بين الحكم والقيمة، وذلك بسبب عدم انضباط القيمة،
وخفاء معناها واضطرابها، وما كانت هذه صفته، استحال معه تحقق الاطراد، واستحال معه
تصور بناء فقهي قانوني.
فإذا كانت العقوبة الشرعية أو القانونية مناطة بالسرقة، وكان
اقترانها بعدد من الأوصاف مستلزما لتشديد العقوبة (مثل استعمال العنف أو السلاح
الأبيض أو التواطؤ الجماعي وغيره)، فإن التعليل بالقيم تنعدم فيه هذه الأمارات
والقرائن التي تبين أحوال التشديد وأحوال التخفيف، مما يبرره قانون الاطراد، أي
اطراد العلاقة بين الحكم وبين العلة أو العلل المقترنة بها، فالذي يعلل بالقيم،
ينيط الحكم بحصول الظلم والضرر في السرقة، فيحكم قيمة العدل وجبر الضرر ويرتب
العقوبة، ولا يلتزم الضابط الذي عنده تتبين أحوال التشديد والتخفيف، مما يرتبط
بعلاقة الحكم بمختلف الأوصاف الظاهرة المنضبطة التي تبين مراتب الحكم بحسب التشديد
والتخفيف.
الإشكال السابع: القطعية
ولازمه أن التعليل بالقيم يشترط التواطؤ على قطعيتها، والقطيعة
تستلزم تخريجها بوجه الاستقراء المفيد للقطع، وهو الأمر الممتنع، بحكم حداثة
الدراسات في مجال القيم، وعدم وجود نموذج للاستقراء يفيد قطيعة القيم المخرجة من
نص القرآن.
ينتج عن هذا الإشكال كما بينا في الإشكال الأول، أن تتفرع الاتجاهات
في التعليل بناء على تقدير خاص لمفهوم القطعية لكل اتجاه على حدة، بأن القيمة التي
يعلل بها هي القيمة القطعية وأن غيرها ليس كذلك أو لا تتجاوز درجة الظنية، وهو ما
ينتج فوضى تشريعية لا يمكن تصور مساحتها، في ظل عدم وجود قواعد متواطأ حولها، تحدد
طرق استقراء القيم التي تفيد القطع من الطرق التي تفيد الظن أو تؤكد وهمية بعض
القيم وعدم استحقاقها لتكون مناطا للتعليل.
هذه إشكالات سبعة، نوردها على سبيل فتح مسارات للنظر والبحث في
مضمونها ومعضلاتها، لعل الباحثين ينظرون بعين ناقدة لعدم وضوح بعض التصورات،
واستحالة تنزيلها، فضلا عن خطورة مترتباتها، فشرط بناء أي أطروحة أن تكون متصورة، وأن يحصل قدر من الاقتناع بإمكان
تحققها، وان تختبر قدراتها الإجرائية.