أولا: الحكمة والحقائق
الحكمة تقضي بأن تربي ابنك الصالح وتمنحه شقة، خير من
أن تتركه شاردا وتبني له قصرا، كما أن قياس النمو الحضاري للمجتمع بالمفهوم الإلهي
في القرآن يقاس:
1- بصلاح معتقداته وتحسن أخلاقه وأدائه، وقوة وعيه وانتمائه
واعتزازه بذاته وشخصيته وهويته الإيمانية المتميزة المتمايزة عن كل ما سواها، الخاصة
الضاربة في أعماق التاريخ وصولا إلى سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم، وليس كما في
المفهوم البشري الغربي بالاقتصاد والقوة وتحسن مستوى أدوات الحياة.
2- بجودة تعايش هذا المجتمع على قواعد إيمانية ومصالح
عليا مشتركة للوطن، وليس على طبيعة وحركة المصالح الآنية المتقلبة فيما بينهم.
- كما أن محمدا صلى الله عليه وسلم وقادة ودعاة الإصلاح
وبناة الحضارة من بعده في تاريخ العالم الذي كتب الإسلام منه ستة قرون متتالية، قدموا
للناس الكتاب والإيمان ومنهج الحياة، وليس أدوات الحياة، حيث علموا الناس بمنهج
الإسلام كيف يصنعون هم أدوات الحياة.
حقائق بناء وتحولات الدولة
الحقيقة الأولى: بناء الهوية أولا
الحقيقة الميدانية والتاريخية والعلمية والدينية تؤكد
أن بناء الدولة يقوم أولا ببناء هوية المواطن والمجتمع بتأسيس مشروع واحد لهوية
الدولة، يعلن وينشر ليعرف ويبني ويعزز معتقدات قيم وحقائق ومفاهيم وأخلاق وممارسات
هذه الهوية في نفوس المواطنين سواء كان بناة الدولة:
أ- خارج السلطة: بتوظيف
القدرات الدعوية والتربوية والتدريبية والثقافية للحزب.
ب- على رأس السلطة:
بتوظيف وزارات ومؤسسات الدولة لبناء الإنسان من تربية وتعليم وبحث علمي وثقافة وإعلام
وأسرة وشؤون دينية، والشباب والرياضة، في تعليم وتمكين الهوية الوطنية للدولة، ويضع
نظاما وقوانين لضبط وترشيد وتوجيه الهوية لتنظيم عمل القطاع الخاص العامل في بناء
المواطنين أو المؤثر في قيمهم وهوياتهم وتشكيل تصوراتهم وقرارتهم، بما يؤسس ويبني
ويعزز الهوية الوطنية لدى الأجيال الجديدة، ويصحح ويعيد توجيه القناعات لدى كافة
المكونات الدينية والعرقية والفكرية للمجتمع ويصبغهم بها سريعا وتدريجيا، حتى
تتشكل ويتأصل لدى المواطنين الهوية الوطنية الكبرى الأم الأساسية، وتتضاءل وتذوب
فيها تدريجيا الهويات والأيديولوجيات الخاصة، وعندها يتحد ويحتشد المجتمع على
مشروع الدولة، ويتحول التنافس السياسي إلى كيفية تنفيذ مشروع الدولة المنبثق من
هوية الدولة، وليس التصارع على هوية الدولة.
أولا: الدليل الميداني الحديث والتاريخي
القريب: هذا ما قامت به هذه الدول على مرمى حجر من التاريخ:
- الدولة الأمريكية: 1776م تأسيس
الدولة الأمريكية على مشروع الهوية الوطنية الأمريكية والذي صنع منه الدستور الأمريكي
فيما بعد.
الدولة التركية العلمانية: 1923
تأسيس دولة تركية بهوية جديدة معاكسة تماما لهوية الشعب الحقيقية، والتي تم
إعلانها بكل قوة ووضوح وشفافية بالرغم من تعارضها مع الهوية الإسلامية الأساسية
للمجتمع بل والفطرة السوية للإنسان، ولكن قوة إعلانها ودعمها بأدوات تعزيزها
معنويا وماديا وقانونيا تسببت في سرعة تحول غالب المجتمع إلى الهوية العلمانية
الجديدة والتي تشبثت بها الأجيال التالية التي ولدت وتربت ونشأت فيها، بالرغم من
مخالفتها لهوية الآباء والجدود العظام.
- الدولة اليابانية: 1947 البناء الحديث لليابان بعد الحرب تأسس على مشروع الهوية الوطنية اليابانية الجديدة
لإعادة البناء النفسي والمادي للشعب الياباني بعد الهزيمة في الحرب العالمية
الثانية.
- دولة الكيان الصهيوني المغتصب لفلسطين:
1948م قامت على هوية وطنية لشعب الكيان كأساس مزيف اجتمعت عليه بقية المقومات
الخارجية والداخلية لتأسيس وبناء الدولة المغتصبة.
- دولة سنغافورة: 1972 بداية تأسيس وبناء دولة سنغافورة المستقلة على مشروع لبناء المواطن والشعب
السنغافوري اسمه الهوية الوطنية لسنغافورة.
ثانيا: الدليل العلمي:
الإنسان هو أساسُ كل حضارة بشرية، فهو الأصل، والأساس
بما يمتلك من عقيدة ومفاهيم وقيم تشكل قوة هويته التي تنتج القوة المعرفية والعلمية
والتكنولوجية التي تعزز قوة الإنتاج والاقتصاد المصدر لبناء القوة العسكرية
والسياسية. هذا ما أكده مالك بن نبي في رؤيته لفلسفة "الإنسان والحضارة من
خلال الدراسات المعاصرة- التأصيل والأبعاد"، فقد اعتبر مالك أن الإنسان هو المحور
الذي يدور عليه الواقع منه المبدأ وإليه ينتهي، وأنه مقياس الحضارة.
- وفي تحليله لعناصر الحضارة وتحديد أعمدة البناء الحضاري
وضع معادلة الحضارة = إنسان + تراب + وقت. وتكمن أهمية الإنسان كعنصر مركزي في هذه
المعادلة في كون العناصر الحضارية الأخرى صامتة لا تنطق إلا بلسان الإنسان، وهو من
يعطيها دلالة وقيمة وكل بناء سليم للإنسان تربويا وثقافيا يعني بالضرورة إكساب
الزمن والتراب الشرطية والقيمة الحضارية..
- كذلك ما أكده ابن خلدون من أن العمران يبدأ من
الإنسان، وأن الحضارة تنتهي عندما تفقد في شعورها معنى الإنسان.
كل ذلك وغيره الكثير والكثير من مفكري الشرق والغرب
بما يقرر بأن أساس وبداية البناء الراسخ للدولة يبدأ بالإجابة على سؤال من نحن؟
وتصميم مشروع واحد جامع للهوية الوطنية، تنطلق منه كل نظم بناء التعليم في الدولة
من تربية وتعليم وثقافة وإعلام... الخ.
ثالثا: الدليل الديني الشرعي
ما قرره القرآن الكريم من سنن وقوانين للتغيير والإصلاح
والبناء:
- قانون التدافع: "وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ
النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ
عَلَى الْعَالَمِينَ" (البقرة).
- قانون التغيير: "إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ
مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ" (الرعد).
- "ذَلِكَ بأَن اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا
نِعْمَة أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وأَنّ
اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" (الأنفال).
- قانون الغلبة: "كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ
أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ" (المجادلة).
- "وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ
اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ" (الحج).
- "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ
الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى
لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا" (النور).
الحقيقة الثانية: عمق أزمة الهوية التركية
الهوية التركية تعاني أزمة عميقة تبدأ من السردية
التاريخية المزيفة لتاريخ الأمة العثمانية الذي تم تشويهه وتجريمه وتقزيمه وإحلاله
بسردية كاذبة لعلمنة وتتريك وصبغ المجتمع التركي بالقومية الطورانية غير الحقيقية،
عبر خمسة كتب كانت المصدر والمرجع الأساس لهذا التحول ومعيارا لقياس هوية الأجيال الثلاثة الجديدة التي تعاقبت حتى الآن، بما يعني أن تحدي الهوية التركية عميق وصلب ويحتاج
إلى استجابة علمية وثقافية وهوياتية حقيقية لتصوب هذا التزييف العلمي والإحلال
البشري الذي تم على الهوية التركية، والذي يحتاج إلى مشروع وطني كبير للهوية
الوطنية التركية، تلتزم الوزارات الست لبناء الإنسان بتطبيقه حتى تقضي على ازدواجية
الهوية التركية وتهديدات تفكك وانقسام المجتمع التركي والاختراقات والاستقطابات الأجنبية
له، ويستعيد للأمة التركية هويتها الواحدة ووحدتها واحتشادها لخدمة الأمن القومي التركي.
خمسة كتب أدارت سياسات ومشاريع التتريك غيرت
هوية
تركيا:
1- كتاب ماذا يمكن أن يكسب الأتراك من الحرب العالمية
الأولى.
2- كتاب الطورانية: مفهوم
القومية التركية الطورانية وأهدافها.
3- كتاب سياسة التتريك (1928م): تتريك العناصر التركية
في الدولة العثمانية.
4- كتاب الكمالية (1936): الأمة التركية تنسلخ من
شرقيتها وتتجه نحو الغرب.
5- كتاب الروح التركية (1944)، تكين الب- مئير كوهين:
التأسيس للروح التركية القومية بديلا عن الروح الإسلامية، وفك ونزع وعزل تركيا عن
محيطها الإسلامي.
الحقيقة الثالثة: الحرب العالمية الهجينة داخليا وخارجيا
على تركيا بصفتها المؤهل الأول لإحياء وقيادة العالم الإسلامي
1- لا شك أن الخسارة التاريخية لحزب العدالة والتنمية في
الانتخابات المحلية في آذار/ مارس 2024م، خسارة لتركيا وللأمة الإسلامية ولأحرار
العالم الساعين لتحرير العالم من ربق الاستعمار والعبودية والاستغلال والاستنزاف لصالح
النظام العالمي الأمريكي الصليبي الصهيوني الاستعماري.
وحقيقة انتخابات البلديات التركية أنها معركة سياسة
داخلية هامة من منظومة عمليات ثقافية واقتصادية واجتماعية وعسكرية وسياسية، داخليا
وخارجيا، متنوعة ومتوازية زمنيا كجزء من حرب هجينة ممتدة في تركيا والعالم.
2- وواجب وعمل الوقت هو البحث في الأسباب، ومن منطلقات
ونظم تفكير مختلفة وضعت الكثير من الأسباب التي أتفق مع أغلبها ولكن ليس كأسباب بل
كنتائج لأسباب أخرى عميقة، أخصص لها هذه السلسلة من المقالات كرؤية فكرية ودعم فني
وجزء من واجب ديني؛ على كل مفكر وعالم ونخبة مسلمة في أي مجال من مجالات بناء
المجتمع والدولة والأمة الإسلامية الواحدة رحمة للعالمين، أن يتقدم الجميع بما
لديه لدعم وتعزيز نجاح المشروع الإسلامي في تركيا واستعادة الأمة التركية إلى قيادة
الأمة والعالم الإسلامي كما كانت، وذلك لعدة أسباب:
أولا: لأنها الأمة الأخيرة
في استلام الرسالة والأمانة من الرسول صلى الله عليه وسلم ثم الخلفاء الراشدين ثم
الأمويين والعباسيين، وكانت أقوى وأطول القوميات حفظا للأمانة لمدة 603 أعوام
متتالية.
ثانيا: لأنها الأمة
القوية في ذاتها الشخصية والتي ما زالت تحتفظ بأكبر قدر من مقوماتها وقدرتها على الصعود
واستعادة حقها المسلوب ومكانتها الحقيقية، وإحياء وقيادة الأمة الإسلامية مرة
ثانية وفي تاريخ الإسلام الذي هو الجزء الأكبر والأهم من تاريخ العالم، ذلك أنه إذا
غابت وانحرفت قوميات عن وعيها وحضورها الإسلامي حفظ الله تعالى لرسالته غيرها من
القوميات الراسخة القوية لنيل شرف تحمل مسؤولية إعادة الإحياء الإسلامي ثانية،
وهنا أصبح واجب الوقت ملزما لكلا الطرفين:
أ- قيادة الأمة التركية وواجب الإفصاح عن ذلك ورفع
الراية وبيان البوصلة لتوحيد وحشد الأمة.
ب- توجه كل المسلمين المخلصين في العالم لتقديم كل ما
يمتلكون ويستطيعون معنويا وماديا لخدمة نجاح الأمة التركية، وقد حدث بالفعل وعاينه
العالم في الكثير من المدن في العالم.
ومعلوم أن إعلان ووضوح وثبات القيادة التركية وعدم ترددها أو تلونها ورفع الراية عالية واضحة؛ سيكون
العامل الأساس في وحدة واحتشاد كل مسلمي العالم في كل دولة ومدينة وقرية وشارع في
العالم لخدمة المشروع التركي الإسلامي، وأن القيادة التركية كلما ترددت أو تأخرت في
إعلان ذلك أصابت مسلمي العالم بالخيبة والحيرة والريبة والتقهقر إلى الخلف والركون
والسكون تحت نظمهم المستبدة.
ثالثا- لأنها الأمة
الأقرب لسد فراغ مقعد المشروع الإسلامي العالمي وفرض نفسها على مزاحمة
المشاريع
الأخرى على مائدة قيادة العالم.
رابعا: لما تبقى للأمة
التركية من أرصدة الخلافة العثمانية من الاحترام والحب والولاء والنصرة والتأييد في
نفوس الجيل الثالث الذي يعيش الآن، من مفاهيم وتصورات عن الدولة العثمانية التي
كانت هي أمته ودولته الكبرى الأساس حيثما يعيش في أي بقعة من العالم، وهي المقدمة في
ولائه على الدولة القومية التي صنعها الاستعمار بديلا عن الخلافة العثمانية والأمة
الإسلامية، ليقزم الإسلام وأهله ويستعبده ويستنزف موارده، وهذه هي:
الحقيقة الرابعة: أن
تركيا هي القائد الممثل للمشروع الإسلامي الممثل لطموحات وآمال كل مسلمي العالم من
كل القوميات، وأمل الأمة في جمعها وإدارة واستثمار ما يمكنه من قدراتها الإصلاحية،
دولا وتنظيمات ومفكرين وعلماء ونخبا وأفرادا. هذه الحقيقة يدركها العالم كله،
ويعمل على مواجهتها وتدميرها، سواء أعلنت تركيا ذلك أم لم تعلنه.
الحقيقة الخامسة: الأسئلة الكبرى لفهم تعثر العدالة
والتنمية من مدخل تحولات هوية الدولة خمسة أسئلة كبرى لا بد أن توضع على مائدة وأولويات
المفكر وصانع القرار التركي:
س1: هل يمكن إقامة الدولة التركية على
الاقتصاد والسلاح فقط دون إعادة إصلاح وإعمار هوية المجتمع؟
س2: من نحن؟ هل نحن زعماء سياسيون محليون
فقط أم قادة إصلاحيون عالميون للأمة التركية، قلب الأمة الإسلامية والمشروع العالمي
الرابع في مخاض النظام الدولي الجديد؟
س3: ما مقومات العمران؟ بناء الإنسان
والأسرة والمجتمع أم تشييد المباني والجسور والمصانع والسلاح فقط؟
س4: ما المقومات الخاصة للمشروع الإسلامي
لتركيا الجديدة؟ وهل يقبل إخفاءه وتأجيل إعلانه؟ أم أن قوته تكمن في إعلانه
والتعريف به وبيان مميزاته ومفاصلته عما سواه من المناهج الأرضية والاعتزاز، حتى
يفهمه المجتمع ويؤمن به ويلتزم به ويضحي من أجله لأن من أهم خصوصيات الإسلام أن لا
يقوم إلا على القناعة والإيمان وأكتاف أهله؟
س5: الاستمرار في الاندماج والتعايش تحت
السقف الممنوح من النظام الدولي؟ أم استغلال البيئة الاستراتيجية الدولية الحالية
ورفع السقف وكسر الحاجز، وفي ذلك فتوحات كبيرة لموارد وقدرات إسلامية عالمية راسخة
ومنتشرة في كل مدن ودول العالم ولكنها كامنة تنتظر من يحييها ويوحدها ويحشدها نحو
بوصلة المشروع الرابع الذي ينتظره العالم، ولا يتم ذلك إلا بمشروع وخطاب الهوية؟