كم بودنا أن ندفع الخيال إلى مقارنة بين أثر طوفان نوح وطوفان
غزة،
فالاستعارة مليئة بالدلالات والأمل، رغم أننا لا نزال نتابع مسلسل القتل والتدمير
بشفقة العاجز المغلوب على أمره. لقد جدد الله الخلق بعد طوفان نوح، ونود أن نراه
يتجدد بعد طوفان غزة. إننا نرى تغييرا عميقا يجري في أماكن كثيرة من العالم، لم تكن
أكثر التحليلات تفاؤلا تتوقعه، ولكنه يحصل الآن وهنا، ويوشك أن يفعل فعل الطوفان
الأول. ماذا سيكون مصير الأنظمة والنخب العربية، خاصة التي وقفت متفرجة على غزة، ومارس بعضها السخرية والشماتة، وأغرق الكثير في الكيد لغزة كي لا يحدث هذا التغيير
العظيم؟ يبدو أن الشماتة ستغير موضعها، لتسخر غزة ممن خذلها وتملي شروط المنتصر.
المقارنة جائزة بين الطوفانين
ليس لدينا عن الطوفان الأول إلا الرواية القرآنية نصدقها، وقد أعاد الله زرع
خلق جديد فجعل الطوفان استئنافا للخلق، لقد كان تغييرا جذريا. ونرى غزة تفعل ذلك وإن
لم تغرق الكرة الأرضية بماء منهمر، إنما أغرقته بحالة من الصحو الأخلاقي، ولنقل
طهرته من درن الصهيونية.
في الخيال العسكري والسياسي للكيان ولمناصريه العرب والغربيين، أن غزة أصغر
وأهون من أن تصمد في معركة طويلة، وأن محقها بسرعة كان ممكنا للعودة إلى حالة
السلام المزيف التي فرضت على المنطقة، لكن غزة قالت العكس وهي في الشهر السابع من
حربها، لا تزال تربط ساقي العدو في رمال غزة وتضربه على قفاه وهو يتخبط؛ إذا انسحب
انهزم وإذا بقي انهزم.
التغيير الطوفاني الذي نراه ونتمناه (ونحن نخلط دوما بين ما نرى وما نود)، أن حزام التطبيع العربي فقد ثقته في العدو، ولذلك بدأ في إلقاء جُمل مناورة عن
مستقبل غزة، وهو يقترب مما قالت قيادة
المقاومة من أن غزة لأهلها يديرونها بهواهم.
لقد راهن هذا الحزام دوما على العدو ليحتمي به، وكان دوما مستعدا لأعلى الأثمان
الأخلاقية والسياسية على حساب شعوبه، ليبقى الحكام في مواقعهم تحت ذريعة فن الممكن. أما اليوم، فالكيان لم يعد يشكل ملجأ حاميا لهذا الحزام، وهو يزداد هوانا وضعفا
ويتحدث الكثير عن نهايته الوبيلة (من كان يظن ذلك ممكنا؟)، ولا نراه إلا يفكر في
وسيلة أخرى للاحتماء من شعوبه التائقة للحرية.
إنهم في وضعية ابن نوح الضال الذي أراد الاعتصام بجبل فقال له النبي: "لا
عاصم اليوم من أمر الله". إننا نسمع غزة تقول لحزام التطبيع العربي قبل أن
تكلم الكيان: لا عاصم اليوم من طوفان غزة. غزة لأهلها في اليوم التالي تترجم على
الأرض بنهاية اتفاقيات أوسلو ومحو نتائجها من المستقبل الفلسطيني، ما يعني أن شلة
التطبيع في الضفة فقدت دورها ومكانتها وفقدت رواتبها التقاعدية. ولا نفسر لهفة
عباس على دخول غزة إلا بشعوره بنهاية دوره ونهاية التطبيع الأمني المقدس.
غني عن القول أن نهاية أوسلو والبدء من غزة لن يكون بسرعة رصاصة قناص، ولكن
الذي صبر لحرب الشهور السبعة (سنقول حرب سنة كاملة)، يقف الآن في موقف من يملي
شروطه. ماذا يبقى للأنظمة العربية الوظيفية التي خلقت لحماية الكيان بعد الطوفان؟
إن السؤال موضوع الآن على طاولات هذه الأنظمة، وهي تعاني للعثور على إجابة وتتشبث
بالكيان أكثر مما يتشبث به مواطنوه المهزومون.
سقوط السردية المؤسسة للكيان
بعيدا عن غزة في الجغرافيا وقريبا منها سياسيا وأخلاقيا ما يجري في جامعات
العالم؛ من سقوط نهائي لسردية الضحية الكونية المسكينة. لقد اتضح في العقول، الشابة منها على الخصوص، الفرقُ الجوهري بين اليهودية والصهيونية، فاليهود
والمسيحيون والمسلمون يقفون في صف واحد ضد الصهيونية. إن ما يجري لا يقل عن ثورة
ثقافية كونية تعيد بناء التاريخ وتصحح المواقف والمفاهيم، وعندما يربط دافع
الضرائب الأمريكي والغربي بين رفاهه الشخصي في بلده ورفاه المواطن الإسرائيلي، فإنه
يعيد ترتيب حساباته الفردية ليقول: لن أدفع ضرائب تعود نتائجها على غيري، فرفاه
الكيان من حرمان هذا المواطن الذي غفل عما يُفعل به، وهو الآن يستفيق على خديعة
كبيرة عاشت فيها أجيال كثيرة. والأمر لا يتعلق عندها بموجة ظرفية محدودة من
التعاطف الأخلاقي والإنساني مع أطفال غزة؛ بقدر ما هو وعي بهذا الخديعة، إنه يكتشف
بؤسه الشخصي، لقد كان ينفق من ماله على الكيان ويبقى عاريا مريضا وجائعا.
لقد بدأنا نسمع كلاما بصوت جهير: إذا لم أشارك في المحرقة فلماذا أدفع كلفتها؟ والسؤال
سيتحول في زمن قصير لا يتجاوز دورتين انتخابيتين إلى موقف جذري لن يهرب منه
السياسيون مهما استعانوا عليه بأموال الشركات الداعمة للكيان. هذا أثر الطوفان؛ المواطن
الغربي يقف الآن ضد شركاته ويحاسب سياسييه، ولا نستبعد ولادة نخبة سياسية تبني على
هذا الوعي وتخوض غمار السياسة دون دعم صهيوني، فتكون مقدمات الخطاب الانتخابي هي
الحق الفلسطيني. لقد كانت الصهيونية العالمية هي من تعين الرؤساء عبر المسرحيات
الانتخابية، ونعتقد أن المسرحية قد انتهت.
لا نخوض في نوايا الذين بكوا على غزة وقالوا: "لا يمكن هزم الصهيونية"،
رغم أنهم يرون شلة أوسلو وما كبدته المسالمة العاجزة من خسائر، لكن الذي أطلق حرب
الطوفان لا نظنه كان غافلا عن فارق القوة العسكرية والثمن المحتمل في المواجهة.
لقد غامر بحرب غير متكافئة وحقق مكاسب ولا يزال يراكم قبل وضع السلاح، ونراه يفاوض
من موقع المنتصر. لقد أمكن هزم الصهيونية وكشف هوانها العسكري أولا ثم الأخلاقي،
فهي ليست أكثر من آلة قتل أطفال عزل.
لم يغب عن أنظارنا قوة الشركات الدول التي لا تزال في صفها، ولا نستهين
بالكيد السياسي الطويل النفس، وفي ذاكرتنا ثورة الطلاب سنة 1968 وكيف أفلحت
الشركات في تمييعها وتحويلها إلى ثورة حريات جنسية وأفرغتها من مضامينها التحررية
الكونية، وقد يفعل بثورة الطلاب الآن شيء مماثل. لكن قبل أن تفلح في ذلك سيكون
المقاوم الفلسطيني قد خرج من النفق وحكم أرضه وأعاد ترتيب قوته على معركة أكثر
فعالية وذات طابع هجومي يستهدف بقية الأرض المحتلة، فنحن نرى غزة قد تحررت، ولن
يجرؤ القاتل إذا انسحب منها على العودة إلى أرضها وسمائها، سيحسب الكلفة ألف مرة
ويحجم.