في كتابه الصادر عن مكتبة الأسرة عام 2006، يتتبّع الباحث المصري ياسر أحمد حسن مسار الجمهورية التركية على الصعيد السياسي خاصّةً، مبتدئًا بفترةٍ تسبق تأسيسها بقرنٍ من الزمان، حيث يرى أنّ للتحوّلات التي صبغَت الحياة السياسية في الأناضول مقدّماتٍ تعود إلى القرن التاسع عشر، وتحديدًا إلى الإصلاحات الإدارية التي قام بها السلطان محمود الثاني (1808-1839م) من تقسيم الحكومة إلى وزاراتٍ وإداراتٍ وإنشاء مجلس شورى الباب العالي وتعديل نظام الضرائب بحيث تتحدد حسب دخل الفرد، إلى غير ذلك. ويتلو ذلك صدور فرَمان التنظيمات المشهور باسم "الخطّ الهمايوني" إثر وفاة محمود الثاني وتولّي خليفته عبد المجيد (1839-1861م). وتكمن أهمية هذا الفرَمان في نصِّه الرسميّ على تساوي رعايا السلطنة في المواطنة والحقوق والواجبات دون تمييزٍ على أساس الدين أو الانتماء القومي. ورغم أنّ ذلك قد يجد مسوّغاته في الدين الإسلامي بصفته المَرجع الأعلى لدولة
الخلافة العثمانية، إلا أنّ الباحث يلفتنا إلى أهمية الثورات ذات الطابَع القوميّ التي ثارت في أرجاء السلطنة في حثّ أولي الأمر على اتّخاذ مِثل تلك القرارات. وتُتوَّج تلك القرارات الإصلاحية بصدور أول دستورٍ عثمانيٍّ رسميٍّ عام 1876م، وبعَلمنة التعليم والقانون في السَّلطنة، ما يَعني أنّ انحسار الطابَع الدينيّ للدولة في الأناضول قد بدأ قبل إلغاء الخلافة بعُقودٍ طويلة.
فلسفات الإنقاذ، وأتاتورك التاريخي:
إزاء انكسارات السلطنة العثمانية في حروبها المتتالية، ظهرَت فلسفاتٌ مختلفةٌ لإنقاذها، ففلسفة الرابطة العثمانية تقوم على صياغة علاقة الدولة برعاياها بعيدًا عن انتماءاتهم المذهبية والعِرقية، وتساويهم في الحقوق والواجبات. وفلسفة الرابطة الإسلامية تُعيد صياغة روابط الدولة على أساس فكرة الاتحاد الإسلامي، عائدةً إلى التطبيق الكامل للشريعة. وفلسفة الرابطة التركية تتبنّى الفكرة القومية التي برزَت بقوّةٍ في أوربا القرن التاسع عشر، ورأى كثيرون أنها أساس ما حقّقَته الأمم الأوربية من تقدُّم.
وفي الكتاب إلماحٌ مهمٌّ إلى تحامُل التيارات الإسلامية في عصرنا على مصطفى كمال
أتاتورك. ففكرة القومية التركية التي بزغَت من خلال جهود علماء اللغة التركية مثل ضياء جوق آلـﭗ Ziya Gökalp (1875-1924) وجدَت لها غذاءً لدى أهل الأناضول في انفضاض قطاعٍ كبيرٍ من رعايا السلطنة المسلمين من حَول الخلافة العثمانية، لاسيّما في إعلان (الشريف حسين) عن إعلان (الثورة العربية الكبرى) على الحكم العثماني عام 1916 وتحالُفه مع البريطانيين ضدّ الخلافة، ما يعني أنّ أتاتورك وكثيرين غيره كانوا محمَّلين بمرارةٍ إزاء الشعورب الإسلامية غير التركية. ولذا، فإنه لمّا خرجَت السلطنة مهزومةً في الحرب العالمية الأولى وقُسِّمَت أراضيها بين القوى الأوربية المنتصرة طِبقًا لمعاهدة سيـﭭـر عام 1920م Treaty of Sévres؛ ثمّ ظهرَت المقاومة العسكرية لتحرير الأناضول بقيادة أتاتورك؛ وانخرط فيها الأتراك، تتنازعُهم الدوافع الإسلامية والقومية؛ ثمّ انتصرَت المقاومة عام 1922 واستُعيدَت الأرض ونُسِخَت سيـﭭـر باتفاقيّة لوزان 1923م Treaty of Lausanne، كانت الرابطة القومية وحدها – دون الدينية – هي الأساس الذي أقام عليه أتاتورك ورفاقُه الجمهورية الجديدة.
إلغاء الخلافة، وعهدُ الجمهورية الأول:
ألغى المجلس الوطني الكبير للحركة التركية الخلافةَ العثمانية في 3 مارس 1924 بعد أن أبقى عليها صُوريًّا فترةً بعد إلغاء السَّلطنة العثمانية. ومن المهم أن نشير إلى أنّه يبدو أنّ أتاتورك لم يكن يريد مواجهةً مع العالَم الإسلامي، فقد ألغى الخلافة "العثمانية" بالتحديد، وعرض منصب الخليفة على الزعيم الوطني الليبي أحمد الشريف السنوسي، شريطة أن يُقيم خارج الأناضول، لكنه رفضَه وأعلن تأييده للعثماني الأخير عبد المجيد الثاني.
حكم أتاتورك الجمهورية حتى وفاته عام 1938، مُقيمًا دولة الحزب الواحد (حزب الشعب الجمهوري) الذي أسسه على مبادئه "الكمالية"، متمثّلةً في الجمهورية والقومية والعلمانية والشعبَوية والإصلاحية وسيطرة الدولة على الاقتصاد. وخلال ذلك قطع حِبالًا كثيرةً كان يُفترَض أن تربط جمهوريته إلى ميراثها العثماني الإسلامي، فعمل على تتريك الأذان، وحظَر خروج مَظاهر التديُّن إلى خارج المسجد، وتبنّى نظام الكتابة اللاتيني بدلًا من العربي (ما يتجاوب ودعوة المفكّر العلماني عبد الله جودَت 1986– 1932)، إلى غير ذلك من الإجراءات التي سارَت بالتوازي مع اشتداد قبضة الدولة على مَفاصل الحياة في الجمهورية الوليدة. ويتكرر كثيرًا في ثنايا الكتاب ذلك الشِّعار الذي أطلقَه أتاتورك "ما من صديقٍ للتركي في هذا العالَم إلا التركي"، ما يتجاوب والمرارة التي كان يستشعرها أتاتورك إزاء رعايا السلطنة العثمانية من ناحيةٍ، وإزاء الغرب الأوربيّ – رغم اعتقاده الراسخ في أنّ التقدُّم يعني السير على خُطى الأوربيين – من ناحيةٍ أخرى. وفي الفصول الأخيرة يُورد كاتبُنا احتجاجَ بعض السياسيين الأتراك المتأخّرين بسيرة أتاتورك إزاء الغرب في دَفعهم بأنه لو كان حيًّا لاستنكر من الأساس فكرة سعي
تركيا إلى الانضمام للاتحاد الأوربي. كما يُورد من سيرته في الرياسة أنه ركّز جهوده في تحديث الأناضول بالطريقة التي كان مقتنعًا بها، ولم يقُم بزيارةٍ خارجيةٍ واحدةٍ إلى خارج الجمهورية!
التعدّدية الحزبية وبداية التصالح مع الميراث الإسلامي:
من المفارَقات الثابتة في تاريخ العمل السياسي التركي حسبَ رؤية الكتاب، أنّ كثيرًا من الخطوات التي خطَتها نُخبة الجمهورية التركية في سعيها نحو الغرب كان يؤدي إلى تنامي ظهور التيار الإسلامي على مسرح السياسة، ذلك التيار الذي كان ومازال يحاول تدريجيًّا وَصلَ ما انفصلَ من روابطَ بين المجتمع التركي وإرثه الإسلامي الذي تبرّأ منه أتاتورك!
هكذا أقرّ ثاني رؤساء الجمهورية (عصمت إينونو) نظام التعددية الحزبية عام 1945 بعد أن وضعَت الحرب العالمية الثانية أوزارَها، اقترابًا من الغرب الأوربي. وبناءً على ذلك تأسس الحزب الديمقراطي المنتمي إلى يمين الوسَط بزعامة عدنان مندريس، وتدريجيًّا صعد الحزبُ إلى مقاليد الحُكم، حتى تقلّد مندريس رياسة الوزراء، فتصالح مع مظاهر الدين، فرُفع الأذان بالعربية، وأُقِرّت الصفة الشرعية لمَدارس "إمام – خطيب" – التي تخرّج فيها فيما بَعدُ إردوغان – وسمح ببناء مساجد جديدةٍ، إلى آخر تلك المظاهر.
مؤسسة الجيش وحماية الكمالية:
خلال عُمر الجمهورية قام الجيش بثلاثة انقلاباتٍ ناجحةٍ، كان أوّلها عام 1960 لإزاحة مندريس عن السُّلطة بتهمة خرق الدستور والاختلاس من ميزانية الدولة وتنظيم مذبحة اسطنبول لليونانيين عام 1955. وكأيّ حدَثٍ في التاريخ، يختلف الحُكم عليه حسب زاوية النظر وخلفية المتأمِّل، إلا أنّه يبدو أنّ مسألة خرق الدستور تحديدًا في تركيا تكاد تعني حصرًا الخروج على مبادئ الكمالية فيما يتعلّق بمحاصرة المَظاهر الدينية.
ويستعرض الكتاب بشيءٍ من التفصيل تدخّلاتِ المؤسسة العسكرية في شؤون الحُكم، فالانقلاب الثاني الناجح كان عام 1971، وكان هدفه الإطاحة بحكومة سليمان دميريل التي وقفَت عاجزةً أمام تظاهرات حزب النظام الوطني الذي أسسه نجم الدين أربكان ذو الخلفية الإسلامية. وبناءً على ضغوط الجيش حلّت المحكمةُ الدستورية حزبَ أربكان.
وربما يكون الانقلاب الثالث عام 1980 هو الوحيد الذي لم يتماسّ مع مسألة الإسلام السياسي، إذ تحرّك الجيش لإنهاء الفوضى الناجمة عن مواجهات اليساريين واليمينيين القوميين في الشارع التركي.
عام 1997 لم يَقُم انقلابٌ بالمعنى المعتاد في تاريخ السياسة التركية، وإنما أصدرَت المؤسسة العسكرية مذكّرةً تنتقد أداء أربكان الذي كان رئيسًا للوزراء في ذلك الوقت على رأس حزب الرَّفاه. وبموجبها استقال من منصبه.
وجديرٌ بالذكر أنّ الكتاب ينتهي ومؤلفه يتساءل عن مستقبل تدخّلات الجيش في السياسة التركية، على خلفيّة مساعي تركيا الحثيثة آنذاك لعضوية الاتحاد الأوربي، واشتراط هذا الأخير تحييدَ المؤسسة العسكرية حتى يكتمل الشكل الديمقراطي للجمهورية، اتّساقًا مع مبادئ كوبـنهاغن للدُّوَل أعضاء الاتّحاد. وربما لم يدُر بخلَد الباحث أنّ السلطة المدَنية المنتخَبة ستستطيع أن تُحبط آخِر محاولةٍ من الجيش (منظّمة إرغينكون Ergenekon التي تضمُّ أعضاءً من جنرالات الجيش إلى جانب بعض السياسيين السابقين والنخبة الكمالية) للانقلاب على الحُكم، بعد عَقدٍ من صدور الكتاب، وتحديدًا عام 2016.
ملفّ العلاقة بالغرب:
يستعرض الكتاب تطوُّر العلاقات التركية الأوربية منذ مَطلع الخمسينات، إذ قررَت النخبة الحاكمة – وعلى رأسها مندريس – الانضمام إلى حلف شمال الأطلنطي NATO عام 1952، في خطوةٍ تسعى إلى إعلان الاصطفاف ضدّ طموحات الاتحاد السوفياتّي الذي ورثَت الجمهوريةُ التركية عداوتَه من السلطنة العثمانية. ويمرّ الباحث بالتضحيات التي قدّمتها الدولة التركية في سبيل التمتع بالحماية الأمريكية، ابتداءً من مشاركة الجيش التركيّ للقوات الأمريكية في حربها على الشيوعية في كوريا عام 1950. كما يصدمنا خلال ذلك بتخلّي أمريكا عن حليفتها تركيا في المنعطَفات التاريخية الحرِجة، لاسيّما حين فكّرَت تركيا في إنزال قوّاتٍ في قبرص لحماية الأقلية التركية من اعتداءات القبارصة اليونانيين عام 1964، وبعد عشرة أعوامٍ من ذلك التاريخ، أي عام 1974، حين نُفِّذ هذا التدخل العسكري التركي فعلًا، تلقّت تركيا ضربةً مزدوجةً من أمريكا وأوربا بحظر توريد السلاح إليها.
وبعد الفتور المؤقَّت للعلاقات التركية بالغرب فيما تلا ذلك من السبعينات، شهدت الثمانينات ومَطلع التسعينات اقترابًا كبيرًا من أمريكا بالتحديد على يد (تورغوت أوزال) -رئيسًا للوزراء ثمّ رئيسًا للجمهورية- المتأثر بالثقافة الأمريكية في كلّ شيءٍ، حتى إنه يُقال إنه عرض على الأمريكيين أن يَجتاح لهم شمال العراق خلال حرب الخليج الأولى (1990- 1991) بُغية تشتيت قوة الجيش العراقي بين مِطرقة الأمريكان وسندانه!
ولا يمكننا اختزال التفاصيل الغنية التي يوردها الكتاب في بضعة أسطر، إلا أنّ الخلاصة أنّ شَعرة معاوية التي احتفظ بها الغرب ممثّلًا في الاتحاد الأوربي وأمريكا في علاقته بتركيا شهدَت كثيرًا من الاقترابات من الجانب التركيّ حتى مَطلع الألفية الحالية، مقابل الكثير من التعنُّت الذي ليس له من سببٍ عميقٍ يبرّره من جانب الغرب إلا ميراث العداء القديم بين الخلافة العثمانية وأوروبا، ولذا صاحبَ صعودَ الأحزاب الديمقراطية المسيحية وصعودَ اليمين في أوربا في مَطلع الألفيةِ ابتعادٌ أوربيٌّ عن تركيا وازديادٌ في تعنُّت المَطالب الأوربية إزاء عملية انضمامها إلى الاتحاد الأوربي.
ما بعد الكتاب:
تواكب نهاية الكتاب صعود حزب العدالة والتنمية ممثّل التيار الإسلامي إلى سُدّة الحُكم، ووصول رجب طيّب إردوغان إلى منصب رئيس الوزراء عام 2003. والمهمُّ في أحداث نهايته هو توثيق التحوُّلات التي طرأت على السياسة التركية الخارجية في تلك الفترة، فبعد أن كانت تركيا حليفًا موثوقًا لأمريكا في حرب الخليج الأولى، صوّت البرلمان التركيُّ بأغلبيّته عام 2003 ضدّ اشتراك تركيا في الحرب على العراق، وبرَّرَت نسبةٌ لا بأس بها من المصوِّتين موقفَها بأنه من غير المعقول أن تشارك تركيا المسلمة في حربٍ على شعبٍ مسلم. وبعد أن ألغَت تركيا عقوبة الإعدام وسمحَت بالبث الإذاعي والتلفازي بالكُردية وخطَت بعض الخطوات في اتّجاه الاعتراف بقبرص، بدأَت مفاوضات الانضمام الفعلي إلى الاتحاد الأوربي في أواخر عام 2005.
واليوم وقد مضى على صدور الكتاب ثمانية عشر عامًا، نتطلع صوب تركيا فنجد أنّ ما حدث من تحوّلاتٍ في هذه الفترة يحتاج كتُبًا لشرحه وتحليله. فالاتحاد الأوربيّ قد جمّد مفاوضات انضمام تركيا إليه منذ عام 2016 على خلفية اتهامها بانتهاكاتٍ لحقوق الإنسان وثغراتٍ في حُكم القانون. والعلاقات التركية الإسرائيلية التي كان الساسة الأتراك يُفاخِرون بتميُّزها ويعتبرونها بوّابةً إلى ضمان متانة العلاقة بالولايات المتحدة شهدَت توتُّراتٍ كثيرةً على خلفية اعتداءات دولة الاحتلال على غزة بدءًا من عام 2008 حتى مايو الجاري، إذ أوقفَت تركيا تجارتها مع دولة الاحتلال تمامًا وانضمّت إلى دعوى جنوب أفريقيا ضدّها في محكمة العدل الدولية. والعلاقات التركية العربية بدَورها شهدَت مدًّا وجَزرًا على الأصعدة كلِّها، وصولًا إلى زيارة إردوغان لمصر في فبراير الماضي. والديمقراطيّة التركية الفريدة تمامًا في محيطها الإقليمي شهدَت هي نفسُها تغيُّرًا جذريًّا بالاستفتاء الذي أُجري عام 2017 على إلغاء منصب رئيس الوزراء وتحويل نظام الحُكم من بـرلمانيٍّ إلى رياسيٍّ، فأصبحَت المواجَهات الكثيرة التي أوردها الكتابُ موضوعُ هذا المَقال بين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء شيئًا من قَبيل الماضي وأَثارةً من آثار التاريخ!
وأخيرًا وليس آخِرًا، فإنّ دعاوَى القومية التركية التي نشِطَت منذ القرن التاسع عشر، والتي تمخّضَت عن قيام الجمهورية التركية على أنقاض السلطنة العثمانية، قد ظهرَت في تجلٍّ حديثٍ بقيام منظمة الدول التركية عام 2009، والتي ضمَّت تركيا وكازاخستان وأذربيجان وقيرغيزستان وأوزبكستان، مع وجود تركمانستان والمجر على مقعدَي المراقِب. ربما كان هذا التحرُّك من الدولة التركية شكلًا من أشكال محاولة التعويض عن جُمود المفاوضات مع الاتحاد الأوربي، وربما هو بحثٌ متجددٌ عن الهويّة وعن المستقبل.
والخلاصة أنّ ما جرى في النهر من مياهٍ منذ عام 2006 يستدعي أن تُكتب بحوثٌ مستفيضةٌ وتُنجَز قراءاتٌ واعيةٌ من المَعنيين بالشأن التركي في عالمنا العربي، خاصةً أنّ روابط التاريخ والعقيدة والجِوار تفترض وحدةً في المصير بين العرب والأتراك، مهما حاول أيٌّ من الجانبين إغفال هذه الحقيقة.