على مدار الأيام الماضية، فجّرت أحداث وتصريحات، حالة من الجدل والمخاوف على الهوية
المصرية، وذلك بعد سنوات من التفريط في أصول ومقدرات وأراضي مصر وممتلكاتها، وتجريف أكبر دولة عربية سكانا والأعرق تاريخيا وتخريبها في كل مجالات العلم والعمل من زراعة، وصناعة، وتعليم، وفن، وثقافة.
وقبل أيام ماضية، خرجت للعلن تلك المؤشرات بصورة متتابعة، ما دفع خبراء ومراقبين ومتابعين وأكاديميين ونشطاء للقول إنها تشكل خطوة خطيرة نحو التلاعب بالهوية المصرية وتدميرها.
أولى تلك المؤشرات، المثيرة للجدل في الشارع المصري، كان تصريح وزير الآثار الأسبق، زاهي حواس، بعدم وجود دليل علمي على تواجد الأنبياء موسى وإبراهيم ويوسف في مصر.
وأوضح في مداخلة له على قناة "إم بي سي مصر" 30 نيسان/ أبريل الماضي: "لا يوجد دليل على مرور سيدنا موسى بمصر، أو دخول الأنبياء الثلاثة إلى مصر، ووفقا للاكتشافات الأثرية الحالية يمكنني القول إنه في الاَثار المصرية لا يوجد ذكر لأنبياء الله".
ثاني المؤشرات، كان تصريح الباحث في تاريخ مصر القديمة، وسيم السيسي، بتاريخ 5 أيار/ مايو الجاري، بأنه "ينبغي أن نتضامن مع التصريحات العلمية وليست الدينية، واليهود لم يكونوا داخل مصر حتى يخرجوا منها، وقصة شق سيدنا موسى البحر الأحمر غير صحيحة".
كذلك، جاء تصريح سمر فرج فودة، وهي نجلة العلماني المصري الشهير ليمثل المؤشر الثالث حيث قالت: "لسنا عربا ولسنا أفارقة، ولسنا دولة مسلمة".
وكتبت عبر صفحتها بـ"فيسبوك": "نحن لسنا عربا، نحن نتحدث اللغة العربية فقط ونجيد بقية اللغات. نحن لسنا أفارقة، بل تقع دولتنا في أطراف القارة الأفريقية شمالا بحكم الموقع. نحن لسنا دولة إسلامية، ولكن أغلب شعبنا يدين بالإسلام".
وأضافت: "نحن لسنا هذا ولا ذاك، نحن مصريون فراعنة، قبل كل شيء وأي شيء، أول حضارة في العالم، أول من علم الجميع جميع الفنون والعلوم والقوانين والطب والهندسة والدساتير والتوحيد والدين والنظام الدولي".
ويأتي رابع المؤشرات على ما يجري من محاولات من أجل تغيير
الهوية المصرية برعاية الدولة المصرية وبحضور إعلامي رسمي وفي المتحف المصري الكبير، حيث تم تدشين المؤتمر السنوي الأول لمؤسسة "تكوين الفكر العربي"، السبت الماضي، بزعامة مجموعة من العلمانيين والملحدين المصريين والعرب.
مؤسسة تكوين الفكر العربي، مقرها القاهرة، وتضم في عضوية مجلس أمنائها الكتاب: المصريين يوسف زيدان، وإبراهيم عيسى، وإسلام بحيري، والسوري فراس السواح، والتونسية ألفة يوسف، واللبنانية نادرة أبي نادر، وجميعهم شخصيات تؤمن بالفكر العلماني، ولها آراء وأفكار مثيرة للجدل، وصادمة للشارع العربي والإسلامي.
المؤشر الخامس يأتي أيضا برعاية الدولة المصرية، حيث أثار تدشين "اتحاد القبائل العربية"، الجدل والمخاوف على الهوية المصرية، والذي اعتبره البعض نموذجا من نماذج تفتيت الهوية المصرية.
ومطلع آيار/ مايو الجاري، وخلال مؤتمر شعبي بقرية "العجرة"، جنوب مدينة رفح في شمال شبه جزيرة سيناء، تم تدشين "اتحاد القبائل العربية"، برئاسة رجل الأعمال السيناوي إبراهيم العرجاني، وهو صاحب السجل الإجرامي السابق في عهد الرئيس الراحل، حسني مبارك.
وفي سادس المؤشرات تواصل الدولة المصرية هدم آثار مصر الإسلامية في القاهرة الفاطمية والمملوكية، ما يثير المخاوف على التاريخ المعماري والأثري للعاصمة المصرية.
ولذا توجّهت "عربي21" إلى عدد من المثقفين والباحثين المصريين، بتساؤلاتها: هل بدأت خطط هدم الهوية المصرية؟، وما دور النظام المصري فيها؟، وما هدفه منها؟، وما احتمالات نجاحها أو ما مدى تماسك الهوية المصرية؟.
"هوية مصر الإسلامية أرسخ من أن تهز"
وقال الكاتب الصحفي المصري ونائب رئيس تحرير صحيفة "الأهرام" الأسبق أسامة الألفي: "بلا شك إن هوية مصر الإسلامية تمر بمفترق طرق خطير، وتتعرض لاستهداف ممنهج إن لم يقض عليها فهو يضعفها، يحدث ذلك في غيبة من وعي الدولة بأهمية هوية مصر الإسلامية، وضرورتها في الحفاظ على تكاتف الشعب ووحدة الوطن".
وأضاف لـ"عربي21": "لأول مرة في تاريخ مصر نجد السلطة الحاكمة تؤسس لكيان مواز، وتسند رئاسته إلى شخص تدور حوله أقاويل شتى لا تسر، أبرزها علاقته المشبوهة بأعداء البلاد الصهاينة، وقيادته لمليشيا غير نظامية، مشابهة لـ(قوات الدعم السريع) التي أسسها الرئيس السوداني السابق عمر البشير، وأسند قيادتها إلى المدعو حميدتي".
وتابع: "الزّعم بأن هذا الكيان اللقيط يكمل عمل القوات المسلحة، لا يضفي فقط الشرعية عليه لكنه أيضا يُسقط هيبة القوات المسلحة، والأدهى أنه يتعارض مع المادة (رقم 74) من الدستور المصري".
وذكر أن المادة تنص على أنه (للمواطنين حق تكوين الأحزاب السياسية، بإخطار ينظمه القانون، ولا يجوز مباشرة أي نشاط سياسي، أو قيام أحزاب سياسية على أساس ديني، أو بناء على التفرقة بسبب الجنس أو الأصل أو على أساس طائفي أو جغرافي، أو ممارسة نشاط معاد لمبادئ الديمقراطية، أو سري، أو ذي طابع عسكري أو شبه عسكري، ولا يجوز حل الأحزاب إلا بحكم قضائي).
الألفي، يرى أن "تأسيس ما يسمى (اتحاد القبائل العربية)، وسط مظاهر احتفالية أقرب إلى الرسمية، يفتح الأبواب مشرعة لتأسيس كيانات أخرى موازية لكيان الدولة، مما يشكل خطرا على استقرار البلاد وأمنها، فمثل هذه الكيانات لن تؤدي إلا إلى التقسيم والتفتيت، ولن يأتي خير من ورائها، ولنا فيما يحدث في السودان عبرة ومثل".
ويرى أنه "إذا قيل إن تأسيس (اتحاد القبائل العربية)، يهدف لحماية سيناء من أطماع الصهاينة، والتصدي لجيش الاحتلال إذا ما حاول تهجير الفلسطينيين إلى سيناء، دون التعرض لخطر كسر كامب ديفيد، وما قد يتبع ذلك من عقوبات أمريكية على مصر، فالرد أن مجرد محاولة العدو تهجير الغزاويين إلى سيناء هو كسر لمعاهدة السلام، فهل ستتصدى ميليشيات يقودها شخص معروف بعلاقاته مع الصهاينة لهذا؟".
وقال إن "نقض المعاهدة يوجد المبرر لتواجد الجيش المصري لحماية حدود البلاد، لا إسناد هذه العملية لميلشيا، تشكل جيشا موازيا، وتعرض وحدة البلاد للخطر إذا ما طمع قائدها في مزيد من السلطة، وهو ما لا شك أنه فاعل ذلك متى أحس بقوته تتنامى، فإن السلطة لغير المسؤول مفسدة تجر إلى الويلات".
ويعتقد الأديب والمفكر المصري أن "إنشاء كيان ما يسمى (تكوين) في مظاهرة شبه رسمية أيضا في المتحف المصري الكبير، يمثل تحديا جديدا لهوية مصر الإسلامية، فنظرة إلى أسماء المؤسسين تكشف ما يراد من تأسيس هذا الكيان الهدام".
ولفت إلى أن "منهم إبراهيم عيسى، يوسف زيدان، إسلام بحيري، وفاطمة ناعوت، وجميعهم عرف عنهم تبني الفكر الهادم للشريعة المنكر للسنة، والتونسية ألفة يوسف وهي لا دينية، والسوري فراس سواح وهو أيضا لا ديني، والملحدة اللبنانية نائلة أبو نادر التي تنكر الأديان".
وتساءل: "أي تجديد للفكر الإسلامي قد يأتي من أمثال هؤلاء؟ فضلا عن أن مسمى هذا الكيان اللقيط ورعاية الإمارات له يكشفان غرضه، فالتكوين اسم أول أسفار التوراة، والإمارات ترعى ما يطلق عليه (الديانة الإبراهيمية)، والربط بين الأمرين يكشف حقيقة (تكوين) إبراهيم عيسى وشركائه".
هنا يثير الألفي، السؤال: "ما معنى تصادف مؤتمر تأسيس (اتحاد القبائل العربية) المنعقد في سيناء، وكيان (تكوين) في المتحف المصري الكبير، مع بدء الاجتياح الصهيوني لرفح جنوب قطاع غزة؟، ثم ما تأثير كل هذا على الهوية الإسلامية لمصر؟".
وختم بالقول: "شخصيا لا أؤمن بالمصادفات، والأيام المقبلة ستكشف الكثير من الروابط بين الأحداث الثلاثة، والأسرار التي يجهلها الناس، فما من سر يخفى في النهاية عن الشعوب، فالتاريخ يحفظ كل شيء، فقط ما أوقن به أن هوية مصر الإسلامية أرسخ من أن تؤثر فيها مثل هذه الأحداث العابرة التي لن تدوم".
"مفتعل ومصطنع"
وفي قراءته، قال الكاتب والباحث المصري أسامة الهتيمي: "ليس من الموضوعية النظر إلى بعض التصريحات أو بعض المواقف التي يمكن اعتبارها محاولات لهدم الهوية المصرية في الوقت الراهن دون اجترار ذكرى الكثير من المحاولات السابقة والممتدة لعقود تعود لزمن الاحتلال الإنجليزي لمصر".
الهتيمي، وفي حديثه لـ"عربي21"، أوضح أن "أبرزها كتابات رائد ما يسمى بالليبرالية المصري، أحمد لطفي السيد، ودعوته إلى ما يسمى بالفرعونية المصرية رافضا الهوية الإسلامية التي كانت في منأى آنذاك عن النيل منها".
ولفت إلى قوله في أحد مقالاته بصحيفة "الجريدة" الناطقة باسم حزب "الأمة": "يجب على المصريين أن لا يجعلوا الدين بأي حال من الأحوال أساس عملهم وولائهم السياسي، وأن عليهم أن يتخلوا عن التعصب الديني لأن مثل هذا التوجه السياسي ذريعة لبقاء البريطانيين في مصر".
وألمح الباحث المصري، إلى أن "المندوب السامي البريطاني اللورد لويد، الذي أتى بعد اللورد كرومر، قال في مذكراته إن (الفضل في تأسيس حزب الأمة، وما تبعه من تيار سياسي يعود إلى كرومر في الواقع لا للطفي)".
وخلص للقول: "وعليه فإن الصراع على الهوية في مصر يعود لنحو 120 عاما، حيث برزت 3 تيارات حول هذه القضية، تيار يدافع عن الهوية الإسلامية، وآخر عن الهوية العربية، وثالث عن الهوية المصرية الفرعونية".
وأوضح أنه "صراع لم ينته لشيء، ولم يُحسم لصالح طرف، وإن كان على المستوى العملي أكدت الوقائع أن الصراع مفتعل ومصطنع، إذ السؤال لماذا افتراض الصدام بين الهويات الثلاث رغم أن تقاطعهم هو عين المصلحة للوطن ولبقية الأوطان؟".
وأضاف: "وهنا يجدر بنا أن نشير إلى أن المحاولات حول تجديد هذا الصراع على الهوية لن تتوقف، فهي جزء من جدل ثقافي في اعتقادي أنه فوقي وعقيم ودون جدوى خاصة، وأن الوعي الجمعي المصري يدرك مرامي القائمين عليه".
ويرى الهتيمي، أنه "ومن ثم فإن المكاسب التي يمكن أن يحققها مثيرو هذا الجدل بين الحين والآخر هي مكاسب لحظية نتيجة ملابسات ظرفيه، سرعان ما ستنقضي وتعود الأمور إلى ما كانت عليه".
وختم مؤكدا أنه "في هذا الإطار فلا خوف على الهوية المصرية؛ فهي قادرة على نفض نفسها من كل الغبار الذي يمكن أن يعلق بها إثر جهود فئة تتعاطى مع إشكاليات فكرية ومصيرية من منطلق (السبوبة)، وبدعاوى زائفة حول التجديد والتنوير، وهي الدعاوى التي ليست إلا قفزا وتجاوزا وتعاميا عن الثوابت الوطنية والقومية والدينية".
"دور مدهش للنظام"
وفي رؤيته، أعرب الكاتب والباحث المصري محمد فخري، عن أسفه قائلا: للأسف، وبدون الاعتماد على نظرية المؤامرة لتفسير كافة الأحداث؛ كل الشواهد والأدلة الثابتة الآن تؤكد وجود تنظيمات وترتيبات ممولة تجري في الغرف المغلقة، وسرعان ما يعلن عن نتائجها وتنفذ على الأرض بكل وضوح ووقاحة".
فخري وفي حديثه لـ"عربي21"، يرى أن "الخطير في الأمر أن ذلك يتم برعاية ودعم أجهزة النظام، بل وتنفذ الأخيرة نصيبها من الخطط الممنهجة لهدم الهوية المصرية وخصوصا في شقها الإسلامي باعتباره مكون وملمح أساسي تمتد جذوره لأكثر من ١٤ قرنا من الزمان".
وأكد أنه "لم يتخيل أحد في يوم ما، أن تُهدم آثار وتحف وعمارة مقابر القاهرة الإسلامية"، مضيفا: "ويمكن لأى متابع أن يرى كيف احتفى علماء الحملة الفرنسية بعمارة (القرافة) التي رسموها ضمن مجلدات (وصف مصر)".
ويرى أنها "عمارة تفوق في جودتها وجماليتها وخصوصيتها معظم العمارات السكنية التي يعيش فيها المصريون الآن، وإزالة تلك الآثار هو إزالة لملمح مهم من وجه مصر وهويتها، وحتى الآن تتواصل معاول الهدم والتدمير تحت ستار من التعتيم الكامل".
وأشار إلى أنه "لا يعلم أحد مثلا أن الأحد الماضي قد تم القبض على باحث دكتوراه في الآثار الإسلامية وبصحبته طالب وطالبة أثناء تصويرهم آثار تدمير المقابر التاريخية، وللأسف أفرج عن الطالبة والطالبة بعد قضاء ليلة في الحجز، في حين أحيل الباحث إلى الأمن الوطني لتوجه له العديد من التهم".
ويرى الباحث المصري أن "المدهش في الأمر هو أن النظام المصري، يدعم دعاة الإلحاد والطعن في أصول الدين ويوفر لهم المنابر ويفسح أمامهم المساحات تحت لافتة تجديد الخطاب الديني".
وختم حديثه بالقول: "أرى أن الإسلام كهوية ومكون حضاري هو حائط الصد الأخير ومنبع المقاومة ولب الصراع، من جهة بين الاستبداد المدعوم من الغرب بمساعدة الصبيان وغلاة الأقليات في الداخل وبين معظم الأغلبية المسلمة التي تقاوم الطمس والتخريب والتغريب والصهينة".