مشاهد قمع المتظاهرين والمعتصمين، واعتقال أساتذة الجامعات والطلاب
في كبرى الجامعات الأمريكية غريبة على الممارسة الديمقراطية الأمريكية، وتمثل صدمة
حقيقية لكل دعاة الحريات، والتي كانت الولايات المتحدة الأمريكية تعد من أوائل
الدول الرائدة في الدعوة إليها وتطبيقها.
تلك المشاهد الغريبة والصادمة تثير علامات استفهام كثيرة حول سلوكيات
الأجهزة الأمنية الأمريكية الموغلة في القمع والعنف ومصادرة الحريات، والاعتداء
على الحقوق التي طالما تغنت بها الديمقراطية الأمريكية، بل جعلتها عنوانا لمعاركها
الخارجية لإشاعتها في تلك المجتمعات، والمطالبة بالمحافظة عليها، وتجذيرها
وترسيخها في دول العالم الثالث الضالعة بالممارسات الديكتاتورية القمعية ووأد
الحريات.
فما الذي أفقد المؤسسات الأمريكية العريقة في ديمقراطيتها، والراسخة
في تبنيها ودعوتها للحريات عقلها الموجه والمتحكم في مسار الأحداث؟ وما أسباب ذلك
وحيثياته؟ وما دور اللوبي الصهيوني في أمريكا في هذا السياق؟ وما مآل تلك
الاحتجاجات الطلابية الواسعة، وما الذي ستحدثه في مستقبل الحياة الأمريكية؟
الكاتب والمحلل السياسي
الفلسطيني المقيم في أمريكا، الدكتور أسامة
أبو ارشيد رأى أن ممارسات الأجهزة الأمنية الأمريكية القمعية "تعبر بالدرجة
الأولى عن الانحياز المؤسسي والبنيوي في الولايات المتحدة لصالح إسرائيل، الذي
نجده على مستويات عدة، وليس محصورا في المجالات السياسية والعسكرية، بل إننا نجده حتى
في المؤسسات الأكاديمية، كما رأيناه في التعامل مع مخيمات الاعتصام الطلابية ضد
حرب الإبادة الإسرائيلية في
غزة".
واستدرك بالقول: "لكننا إذا عدنا إلى التاريخ فثمة سوابق وشواهد على
تحلل تلك المؤسسات من القيم التي تزعمها وتدعيها، منها ما كان إبان حركة الحقوق
المدنية في ستينيات القرن الماضي، ومنها الحركة المناهضة للحرب في فيتنام في
ستينيات وحتى منتصف سبعينيات القرن الماضي".
وأضاف: "وكذلك ما كان في ثمانينيات القرن الماضي خلال معارضة
نظام الأبارتايد في جنوب أفريقيا، لكن ما نتحدث عنه هذه المرة يمكن اعتباره حالة
استثنائية، والسبب في ذلك أن الجامعات الأمريكية زعمت أنها تعلمت من أخطائها في
الماضي، وأنها يجب أن تكون معاقل للتفكير الحر، والحريات الأكاديمية وحرية
التعبير، رأينا من قبل سوابق كما حدث سنة 2010، لكن لم تنحدر الممارسة القمعية إلى
هذا المستوى في تشويه الاحتجاجات الطلابية المناهضة للإبادة الجماعية في
غزة"؟
د. أسامة أبو ارشيد.. كاتب ومحلل سياسي فلسطيني مقيم في أمريكا
وأرجع أبو ارشيد سبب لجوء الجامعات الأمريكية (في غالبها الأعظم)
لقمع الحركة الطلابية الحالية إلى أنها لا تريد أن تتخلى عن تواطؤها وانحيازها
لإسرائيل واستثماراتها فيها"، مضيفا أن "ما تنبغي الإشارة إليه في هذا
السياق أن كثيرا من المتبرعين الكبار لهذه الجامعات إما صهاينة أو لديهم موقف مؤيد
لإسرائيل، وهم يهددون الآن بسحب تبرعاتهم وتمويلهم، وهي بعشرات ومئات الملايين".
وأردف: "وقد لجأت هذه الجامعات لقمع الحركة الطلابية المناهضة
للإبادة الجماعية في غزة لأنها لا تستطيع أن تخوض حوارات بناءة وشفافة مع الطلاب،
لأنها منطقيا ستظهر بمظهر المدافع عن جريمة الإبادة في قطاع غزة، وهي لا تريد أن
توضع في ذلك الموضع، لذا تضطر إلى قمع الرأي حتى لا تتم إدانتها أخلاقيا بأنها غير
قادرة على إدانة جريمة بحق البشر والتي يراها العالم كله، ومن ثم تستمر بالاستثمار
وبناء علاقات أكاديمية مع إسرائيل".
وعن دور اللوبي الصهيوني بما تقوم به الجامعات الأمريكية من قمع
طلابها لفت أبو ارشيد إلى أن "اللوبي الصهيوني يمارس بالفعل دورا تحريضيا،
وهو متورط في كل ما يجري عبر ابتزازه لهذه الجامعات بأنها معادية للسامية،
ويطالبون الجامعات بالتعدي على الحقوق الدستورية، أو ما يعد قيما أمريكية أساسية
وراسخة في الوعي الأمريكي، وفي القوة الناعمة الأمريكية سواء أكانت حقيقية أم
مدعاة".
واستبعد أن تحدث التحركات الطلابية الحالية تغييرا جذريا في المدى
القريب، لكنها تثير نقاشا مجتمعيا لتعلقها بأرقى الجامعات الأمريكية، وبشريحة
شبابية، فهي أقرب ما تكون إلى معارك الأفكار التي تأخذ وقتا، لكن ثمة تحولات في
أوساط كثير من الطلاب، حتى من غير المنخرطين في الاعتصامات، وأغلبهم لا يعرفون عن
فلسطين الكثير، بعد أن لاحظوا وجود حالة استثنائية حينما يتعلق الأمر بإسرائيل،
وهو ما سيكون له مردود سلبي على صورة إسرائيل ونفوذ اللوبي الصهيوني في أمريكا".
من جهته قال الأكاديمي المغربي، أستاذ العلوم السياسية والقانون
الدستوري، الدكتور عبد العلي حامي الدين: "لا بد من الاعتراف أولا بأن هذه
الصحوة الملفتة للضمير العالمي في مختلف القارات، وخروج الملايين من الناس للتضامن
مع الشعب الفلسطيني هو حدث غير مسبوق في تاريخ القضية الفلسطينية منذ نكبة 1948،
والذي يجد أسمى تجسيد له في الاحتجاجات الطلابية التي تعيشها أعرق الجامعات
الأمريكية، وهو ما يعتبر بمثابة منعطف تاريخي كبير لا يمكن تجاوزه بسهولة".
وتابع بأن "هذه الصحوة هي من التحولات الاستراتيجية الكبيرة التي
حصلت بسبب عملية يوم السابع من أكتوبر المجيدة وما تبعها من صمود أسطوري للمقاومة
الباسلة أمام عدوانية جيش
الاحتلال الصهيوني المدعوم أمريكيا وأوروبيا، وانطلاقا
مما سبق يمكن فهم رد فعل الإدارة الأمريكية اتجاه هذه الاحتجاجات واعتمادها أسلوب
القمع والتشهير وتزوير الحقائق تجاه الطلاب وأساتذة الجامعات المتضامنين مع القضية
الفلسطينية".
د. عبد العلي حامي الدين.. أكاديمي مغربي وأستاذ العلوم السياسية
والقانون الدستوري
وأردف "فكل السردية الرسمية التي بناها الآباء المؤسسون
للصهيونية العالمية بدأت تنهار، وتنهار معها المقومات الفكرية والإيديولوجية
المؤسسة للتحالف الأمريكي الإسرائيلي" ذاكرا أن سبب لجوء المؤسسات الأمنية
الأمريكية لقمع الاحتجاجات الطلابية يرجع إلى "محاصرة هذا الوعي السياسي
الجديد، الذي بات يؤثر في الشباب الأمريكي الذي يدرس في أعتى الجامعات الأمريكية،
والذي سيكون غدا معنيا بصناعة القرار داخل المؤسسات الأمريكية، فالأمر يتعلق بتحول
ثقافي واستراتيجي كبير" على حد قوله.
وردا على سؤال
"عربي21" حول سياق هذا الأسلوب القمعي،
ومقارنته بسوابق تاريخية فقد لفت حامي الدين إلى أن "هذا الأسلوب ليس جديدا في
التاريخ الأمريكي، فقد شهدت مرحلة الخمسينيات من القرن الماضي ما يعرف
بـ"المكارثية"، نسبة إلى عضو مجلس الشيوخ الأمريكي (جوزيف مكارثي) الذي
كان رئيسا لإحدى اللجان الفرعية بالمجلس، واتهم عددا من موظفي الحكومة، وبخاصة
وزارة الخارجية بتهمة الشيوعية، التي كانت مقرونة بتهمة التآمر والخيانة دون أي
اهتمام بالأدلة، وقاد إلى حبس بعضهم".
وأضاف: "فما تعيشه أمريكا حاليا هو نوع من المكارثية الجديدة
والإرهاب الثقافي الذي تغذيه اللوبيات الصهيونية القوية في الولايات المتحدة
الأمريكية والمتغلغلة في الإدارة والاقتصاد والإعلام وفي الجامعات أيضا، وهذه
التغذية تتم عن طريق لعب دور الضحية التي تعاني من "التيارات المناهضة
للسامية"، بل وصل الأمر إلى الاستعداد لسن قانون يجرم التضامن مع الشعب
الفلسطيني بدعوى تجريم معاداة السامية".
وفي ذات الإطار اعتبر الباحث السوري في الشؤون الاستراتيجية
والعلاقات الدولية، أحمد رمضان "ما نشاهده في الولايات المتحدة الآن هو نتيجة
صراع محتدم منذ عقود بين اليمين المحافظ (ومن ضمنه التيار الإنجيلي المتشدد)،
واليسار الليبرالي الأقرب للدولة العميقة، وهذا الصراع يتجلى في ميادين السياسية
والاقتصاد ومؤسسات المجتمع المدني".
وأضاف أنه "ومنذ بدء حقبة ترامب لم تعد هناك آلية تضبط الخلاف
بينهما، إذ اعتبرت الانتخابات مزورة، وهي آلية الفصل السياسي، ووُصف القضاء
بالمنحاز، وهو آلية الضبط الحقوقي والقانوني، وجرى تحدي إجراءات الدولة في عدة
ميادين، بل وصل حد التهديد بالانفصال، كما حدث في تكساس".
أحمد رمضان.. باحث في الشؤون الاستراتيجية والعلاقات الدولية
ووصف رمضان في حواره مع
"عربي21" الحراك الآن في الجامعات
والنقابات والمؤسسات الإعلامية والمدنية بأنه "تعبير عن مستوى الشرخ الداخلي،
والذي فجرته الحرب على غزة، وانحياز إدارة بايدن الفظ لجانب إسرائيل، والتغطية
عليها في الجرائم التي ارتكبتها، وهو ما أحدث شرخا كبيرا بين الأقوال والأفعال
وبين القيم والممارسات، وهذا أمر مرشح لمزيد من التصعيد، إذ وصل الصراع اليميني
المحافظ واليساري الليبرالي نقطة حرجة، وستمتد آثاره العنيفة على الفضاء الأوروبي
وإسرائيل بوصفها دولة اشتقاق عن النموذج الغربي".
وعن تداعيات الحركة الاحتجاجية الطلابية ومآلاتها فإنه رأى أنها
"تؤسس لمرحلة جديدة، بدأت بتصدع السردية التي جرى تسويقها لقرن كامل عن إسرائيل والمنظومة الغربية، وسيكون للجامعات وللمراكز العلمية دور مهم في تفكيك ذلك، وإعادة بناء سردية أقل انحيازا وأقرب للواقع، كما سيلعب المجتمع المدني،
وقواه النقابية والطلابية دورا في إعادة التوازن للسياسة الغربية تجاه العالمين
العربي والإسلامي، وفي مقدمة ذلك قضية فلسطين".
وأشار في ختام حديثه إلى أهمية "تحرك النخبة العربية بإيجابية
للالتقاء في مساحة مشتركة مع النخبة الغربية، وبناء علاقات تعاون وشراكة، بدلا من
حالات الهيمنة والتدخل والاحتلال التي طبعت العقود الماضية".