على ذكر المصالح الفردية والجماعية المتناقضة والمتضاربة التي تحدثنا
عنها في مقالنا السابق، التي ما تزال تتلاعب اليوم بالمنظومة التربوية (بين
الفرنسية والإنجليزية) أكثر من الأمس، يقول الخبير في الرياضيات الأستاذ الدكتور أبو
بكر خالد سعد الله في مقال له في جريدة الشروق الجزائرية ليوم 3 تشرين الأول/أكتوبر 2004: "كان
أصحاب التصحيح الثوري مدركين لضرورة الرقي باللغة
العربية بعد الاستقلال،
باعتبارها ثابتة من الثوابت الوطنية، فعملوا على زحزحة تدريس اللغة الفرنسية
تدريجيا في المدرسة الابتدائية، حتى جعلوها تدرس ابتداء من السنة الرابعة، أما
خبراء عهد المصالح، فرأوا عكس ذلك، وجعلوا تدريس اللغة الفرنسية ينزل (دون تدريج)
من السنة الرابعة إلى السنة الثانية، وقاموا بذلك بعد إعداد مخطط على المقاس ظل
سرا إلى اليوم، سموه (إصلاح المنظومة التربوية) وما هو بإصلاح، كما أن خبراء هذه
المنظومة في السابق كانوا يؤمنون بأنه لا تناقض بين تدريس الرياضيات والعلوم
باللغة العربية، لتحتل مكانتها بين
اللغات العالمية الأخرى، وبين التفتح على
العالم الخارجي. أما خبراء "المصالح"، فهم مقتنعون بأن العلة في
التعليم عندنا، تكمن في تدريس الرياضيات باستخدام الرموز العربية، وتكمن أيضا (حسب
دعواهم) في تدريس
العلوم باللغة العربية، وكأن اليابان ثاني دولة في المجالين
الاقتصادي والتكنولوجي يدرس أطفاله وطلبته العلوم بلغة أخرى غير اليابانية. بل إن
تعليم اللغات الأجنبية في اليابان يبدأ من سن 12 سنة. وهل إسبانيا والبرتغال وإيطاليا
وبولندا وغيرها تدرس العلوم بغير لغاتها؟".
فلماذا لا يقتدي هؤلاء "المَصالحيون" المزورون والمتاجرون
المدّعون للوطنية عندنا زورا وبهتانا، بل وإجراما، بتعامل الوطنيين الفرنسيين أنفسهم
مع قوانين اللغة الفرنسية المطبقة بكيفية مقدسة هناك، أشبه في صرامتها بمحاربة لباس
بناتنا المسلمات على أرضها في مدارسها وشوارع مدنها وشواطئ بحارها!؟
ولماذا لا يقتدون أيضا بالتطبيق الصارم لقوانين اللغة العبرية في
"فلسطين المحتلة"، التي ينتمي لفيفها الحالي إلى أكثر من 120 قومية وجنسية
أصلية، ويتحدثون في أسرهم ومحيطهم الخاص بعدد لغاتهم ولهجاتها المحلية، من فلاشات أثيوبيا
واليهود العرب (من عمان إلى تطوان!؟) إلى يهود فرنسا وألمانيا وبولونيا والاتحاد
السوفييتي سابقا، وأوكرانيا لاحقا؟
لا نتصور عاقلا واحدا يحب الخير لوطنه، يرفض تعلم اللغات الأجنبية وإتقانها، سواء لأسباب اجتماعية أو مهنية أو اقتصادية أو ثقافية أو دينية، ولكن في المقابل، لا يمكن أن نتصور عاقلا واحدا يحب الخير لوطنه وأمته يقبل التعليم باللغات الأجنبية، على حساب لغة الوطن والسيادة والوحدة الترابية والشعبية، والإشعاع الحضاري للوطن والأمة بين الأوطان وسائر الأمم الحية المستقلة في العالم!
علما أن كل هؤلاء الأقوام، لا يجمعهم تحت قبة "الكنيست" أو
دواليب الإدارة والمحيط وأجهزة الإعلام والمؤسسات التعليمية والعلمية في هذا
الكيان، من الحضانة حتى معهد وايزمان للدراسات النووية، سوى اللغة العبرية الوطنية
والرسمية الوحيدة المطبقة هناك بالفعل (وليس بالقول) بحكم احترام مبدأ دولة
القانون في هذا الكيان، الذي يوجد له مجلس أعلى للقضاء ومحكمة عليا تحميه وتعاقب
(دون استثناء) كل المتلاعبين فيه وبه، ابتداء من أبسط موظف إلى أعلى لواء في الجيش
ورئيس الوزراء، ذاته (يهود أولمرز) الذي خرج من السجن قبل سنوات قليلة فقط تنفيذا
للقانون فوق الجميع.. والباب مفتوح لكل المعتدين على القانون
العبري من مثله في أية رئاسة للدولة والحكومة.
فهذا هو معنى السيادة الحقيقية والهوية الثقافية المرتبطة أساسا،
باللغة الوطنية والرسمية وحدها؛ لأن الهوية العرقية للحيوان فقط، أما هوية الإنسان
فبالثقافة فقط (أنظر كتابتا: الهوية الوطنية، الحقائق والمغالطات، دار الأمة
الجزائر 1995).
وللعلم هنا، نذّكر المؤمنين من (العرب وغير العرب)، وللتاريخ كذلك
نقول؛ بأن في حكومة هذا الكيان وزارة للأديان رغم أنها ثلاثة فقط هناك (وهي
اليهودية والمسيحية والإسلام)، ولكن لم يكن ولن يكون أبدا لهذه الحكومة وزارة للغات
المحلية أو الأجنبية، رغم أن هذه اللغات تعد بالعشرات وبعدد الجنسيات الأصلية
لسكان الكيان كما أسلفنا.
وهنا نعود لهؤلاء الخفراء الاستحلاليين الذين ما فتئوا يرددون، من
كبيرهم إلى صغيرهم، جهلا أو تجاهلا، واستخفافا بعقول الجزائريين، يرددون ضرورة
الانفتاح على اللغات الأجنبية، وكأنهم "اكتشفوا البارود"، فنقول لهم للمرة الألف، بأن تعليم اللغات الأجنبية ضرورة علمية
ومرحلية، أما التعليم بها فهو جريمة هوياتية وقومية، وأن الفرق بينهما كالفرق بين
العلم والجهل، والموت والحياة، والليل والنهار، والجنة والنار.
ولا نتصور عاقلا واحدا يحب الخير لوطنه، يرفض تعلم اللغات الأجنبية وإتقانها،
سواء لأسباب اجتماعية أو مهنية أو اقتصادية أو ثقافية أو دينية، ولكن في المقابل، لا يمكن أن نتصور عاقلا واحدا يحب الخير لوطنه وأمته يقبل التعليم باللغات
الأجنبية، على حساب لغة الوطن والسيادة والوحدة الترابية والشعبية، والإشعاع
الحضاري للوطن والأمة بين الأوطان وسائر الأمم الحية المستقلة في العالم!
فهناك فرق قاتل إذا بين استعمال اللغات الأجنبية في مجال البحث
العلمي والانفتاح على العالم الخارجي في عصر الفضاء والفضائيات، وطي المسافات بين
الكواكب والقارات في لحظات، وبين استعمال هذه اللغات الأجنبية القاتلة في قطاعات
السيادة والإدارة والهوية والشخصية.
كما أن هناك فرقا بين اللغة الأجنبية المفيدة والبريئة، والجرثومة الأجنبية
المقيتة والكورونة المميتة، وهناك أيضا فرق بين اللغة الأجنبية الضرورية واللغة الأجنبية
الثانوية.
فبالنسبة لعلاقة اللغة الأجنبية بالسيادة الوطنية، يمكن أن نذّكر هنا
كل الذين يعقلون، ممن لهم علاقة بهذا الوطن، أن أحسن مثال لذلك هو العملة الوطنية
السيادية والرسمية بالنسبة للعملات الأجنبية، (الصعبة وغير الصعبة)، مهما تكن
ضعيفة أو قوية بالنسبة للعملة الوطنية.
فمثلما لا يتصور عاقل أي دولة وطنية ذات سيادة محترمة في هذا العالم
تقبل رسميا بتداول العملات الأجنبية داخل التراب الوطني مباشرة، دون تحويلها في
البنك إلى العملة الوطنية، كما لا يتصور عاقل أيضا أي دولة وطنية من هذا النوع
الشرعي ترفض عند الاستطاعة أن تكون خزانتها الوطنية مليئة بشتى العملات الأجنبية
المفيدة، الصعبة منها وغير الصعبة.
هناك فرق قاتل إذا بين استعمال اللغات الأجنبية في مجال البحث العلمي والانفتاح على العالم الخارجي في عصر الفضاء والفضائيات، وطي المسافات بين الكواكب والقارات في لحظات، وبين استعمال هذه اللغات الأجنبية القاتلة في قطاعات السيادة والإدارة والهوية والشخصية.
ولكن، مثلما تحدد الدول الشرعية المنتخبة والسيدة مجال استعمال
العملات الأجنبية داخل البلاد (في البنوك والمناطق الحرة، كالمطارات وغيرها)، تحدد
هذه الدول السيدة كذلك مجال استعمال اللغات الأجنبية في المخابر والجامعات والمناطق
السياحية وغيرها.
فبالنسبة لعلاقة اللغات الأجنبية بالبحث العلمي، والتقدم التكنولوجي
(حصان طروادة عندنا) الذي هو حق يراد به باطل مهين وقاتل، فنقول بأن البحث العلمي
في مرحلة ما بعد التدرج، بقدر ما هو ضروري لكل دولة مستقلة وغير تابعة لغيرها، تطمح
إلى أن توجد لها مكانا محترما بين الدول المتقدمة في العالم، فإن هذا المسعى لا يتأتى
لها بلغة أجنبية واحدة ووحيدة.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى ليس بمقدور بشر أن يتعلم كل المواد العلمية
بكل اللغات الأجنبية، ولذلك فمنطق الدولة المستقلة المتحضرة المنفتحة على العالم
المتحضر والمتقدم في هذا المجال الحيوي، يقتضي من ساستها المنتخبين الشرعيين كما
هو معترف بهم وطنيا ودوليا، أن ينتهجوا أسلوب النحلة الشغالة، فيوجهون مجموعة من أبناء
الوطن الموهوبين والنجباء والنابهين، وهم لا يتجاوزون نسبة 3% من مجموع أفراد
المجتمعات المتحضرة في العالم (ولكل وطن نصيبه من الموهوبين في قدرات ذاتية معينة)، يتم إرسالهم إلى التخصص في اللغات الأجنبية الحية والمفيدة، ليتولوا مهمة الترجمة
والنقل العلمي من تلك اللغات المتقدمة تكنولوجيا (كل فيما يتميز به من مخترعات،
كروسيا واليابان وأمريكا وألمانيا والصين وكوريا وفينلندا وتركيا وإيران
وأوكرانيا)، إلى اللغة الوطنية والرسمية للبلد الطامح للسير في مدارج العلا والاستقلال
العلمي والتكنولوجي، التي نصِر دائما على أن تكون اللغة الوطنية والرسمية هي
وحدها لغة التعليم والتحصيل داخل الوطن، مثلما تفعل فرنسا في فرنسا وألمانيا في ألمانيا
واليابان في اليابان والصين في الصين وإنجلترا في إنجلترا وروسيا في روسيا وكوريا
في كوريا بجنوبها وشمالها، وتركيا في تركيا (والعالم الناطق بالتركية المزمع إنشاؤه
مستقبلا إن شاء الله).
وليست هذه اللغة وحدها المتعلمة بطبيعة الحال كما ذكرنا، عملا بمقولة
"لكل لسان إنسان" التي يغالط بها بعض الاستحلاليين عندنا دون تفكير أو إمعان،
وفي هذه الحالة، أي تعلم اللغات وليس التعليم باللغات كما أسلفنا، لا يوجد حد (على
المستوى الفردي) لإتقان أي عدد من اللغات الأجنبية، بعد اللغة الوطنية بطبيعة الحال، إلا حد القدرة الذاتية للإنسان التي لها حدود بشرية لا تتعداها.
وفي الختام، يمكن حصر المقاييس الوطنية والسيادية الأساسية للتعامل
باللغات الأجنبية ظاهر الوطن فيما يلي:
1 ـ أن يكون للغة الوطنية والرسمية مكان الصدارة في الإدارة والحياة
العامة والاستعمال اليومي الشفهي والتحريري، كما هو الحال السائد على سبيل المثال
في "جزيرة" أو جزائر وزارة الدفاع الوطني حاليا (فيما نعلم حتى الآن).
2 ـ أن تغرس المناهج التربوية (الباديسية النوفمبرية وليس الباريسية
الديسمبرية) في نفوس الناشئة (يا نشء أنت رجاؤنا وبك الصباح قد اقترب) حب الوطن
بكل رموزه المقدسة، وفي مقدمتها حب اللغة الوطنية، كمبدأ لا يقبل المساومة والنقاش،
مثل العلم والنشيد والعملة، إن لم يكن حب اللغة وتقديسها أكثر من ذلك؛ لكونها
مرتبطة ارتباطا عضويا بالهوية كما أثبتنا. في مقال سابق (عن العلاقة العضوية بين
الثقافة والهوية).
3 ـإعطاء الأولوية القصوى في سلم كشف النقاط على مستوى التعليم
المتوسط والثانوي للغة الوطنية مثلها مثل الرياضيات أو أكثر، بالتوازي مع رفع
مستوى العلامة المقصية للطالب بالنسبة للغة الوطنية في الامتحانات العامة، كما هو
الحال في ألمانيا والصين واليابان وكوريا وتركيا، حيث ينقصون من المعامل التنقيطي
لمواد اللغات الأجنبية، ويرفعون من الحد الأدنى للرسوب بالنسبة للغة الوطنية؛ للحث والحض
على التمكن منها وإعطائها الأهمية التي تليق بها عند الناشئة.
4 ـ أن يفٌضل من يجيد اللغة الوطنية على اللغة الأجنبية عند الاختيار
في التوظيف العمومي وغيره.
5 ـ أن يقتصر استعمال اللغة الأجنبية على المجال الدراسي والبحث
العلمي، وتبعد اللغة الأجنبية من الاستعمال في الحياة العامة والإدارة والإعلام والثقافة
بكل فروعها، كما هو الوضع في فرنسا مثلا بقانونها السمعي البصري للإذاعة والتلفزيون، الذي يمنع منعا باتا تمرير البرامج، وحتى الإشهار باللغات الأجنبية دون ترجمة، ولو
مكتوبة في أسفل الشاشة المرئية.
6 ـ أن تطبق التعليمات الخاصة بقانون اللغة الوطنية بصرامة، كما
تطبقها وزارة الدفاع الوطني الحالية في كل الهيئات والفروع التابعة لها كما هو
معلوم. كما قال منشط الاحتفالات هذا العام في أكاديمية شرشال؛ بأن الفارس لا يركب
حصانين ولا يرفع رايتين ولا يتحدث لسانين، وقضي الأمر الذي فيه تستفتيان.
فإذا توفرت هذه الشروط، وروعيت بإخلاص، وطبقت بنزاهة من طرف المعنيين
بشؤون البلاد، كما هو منصوص عليها في قانون اللغة الوطنية المجمد منذ صدوره مع
مشروع قانون إدانة جرائم الاستعمار، فإذا طبقت هذه الشروط مثل كل الدول المستقلة
ذات السيادة، قولا وفعلا، فلن ينجم عن الانفتاح اللغوي أو إتقان اللغات الأجنبية أي
ضرر على السيادة الوطنية، بل وعلى الاستقلال والوحدة الاجتماعية والسياسية للمجتمع
على وجه العموم، مثلما قال مالك بن نبي في النص السالف الذكر.
العلماء الكبار وحدهم هم الذين يحتاجون إلى إتقان اللغات الأجنبية لإتمام بحوثهم ودراساتهم، أما الذين دونهم من المواطينن كافة على جميع المستويات، فلا يدركون المعرفة العلمية إلا بلغتهم الوطنية الأصلية.
وإذا حبا الله المجتمع كما قلنا، ببعض المتفوقين ذهنيا من ذوي
القدرات اللغوية العالية، فيجب أن يٌستغلوا علميا (بمخططات إصلاحية تربوية وطنية
مدروسة)، كالنحلات الشغالة لإنتاج العسل للجميع، بما ينقلونه من شتى اللغات الأجنبية
عبر القارات إلى اللغة الوطنية في البلاد العربية، ليتمثلها الملايين من أفراد
الشعب العربي العاديين في المؤسسات التعليمية والتكوينية باللغة الوطنية وحدها، كما
سبق التحديد. وقد ذكرنا الأمثلة الحية على ذلك من مختلف الدول المتقدمة والمتحكمة
في هذا العالم.
وهنا نؤكد، بأن الدراسات والبحوث العلمية والنفسية واللغوية حتى في
فرنسا ذاتها، تثبت أن العلم لا يمكن أن يفهم وأن ينتشر إلا في نطاق اللغة الأصلية أو
اللغة الأم، وليست "لغة الأم"؛ لأن هذه الأم قد تكون أجنبية (متزوجة
بمواطن عربي)، وقد تكون أمية (لا تقرأ ولا تكتب).
فالعلماء الكبار وحدهم، هم الذين يحتاجون إلى إتقان اللغات الأجنبية لإتمام
بحوثهم ودراساتهم، أما الذين دونهم من المواطينن كافة على جميع المستويات، فلا
يدركون المعرفة العلمية إلا بلغتهم الوطنية الأصلية.
وهنا، يحق لنا أن نتساءل عن الاقتداء بتجارب الدول والأمم المتطورة والمتحضرة،
هل يكون بالصعود إلى الأعلى وارتقاء المعالي، وتجشم التضحيات، أم إن هذا الاقتداء
يكون بالهبوط إلى ما دون الحضيض بالدعوة إلى الإدمان على مص ضرع البقرة الأجنبية (الإنجليزية
أو الفرنسية) والتشبث بذيلها، والتبرك بزبلها في منتهى الذل والتبعية، فلا علم أتقناه
ولا شأو بلغناه ولا شرف أبقيناه ولا علف شبعناه ولا حضيض برحناه.