منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على
قطاع غزة في 7 من تشرين أول (أكتوبر) من العام 2023، عاد الحديث مجددا عن المحاور
الدولية مع الاصطفاف الغربي غير المسبوق إلى جانب الاحتلال الإسرائيلي في حربه ضد
الشعب الفلسطيني..
وبرزت إيران كواحدة من أهم الأطراف
المؤثرة في المشهد بالنظر إلى تبادل الضربات العسكرية بينها وبين الاحتلال
الإسرائيلي، الذي عمد إلى اغتبيال عدد من قادة الحرس الثوري الإيراني في العراق
وسوريا. وكان الاستهداف الإسرائيلي الأخير لقنصلية طهران في دمشق نقطة فاصلة في
هذه العلاقة، حيث أعلنت طهران أنها لن تصمت على هذا العدوان، وأنها سترد، وقد كان
لها ذلك حين أمطرت إسرائيل بعشرات الصواريخ والطائرات بدون طيار من إيران إلى
الأراضي اتلمحتلة مباشرة..
وقد أعاد هذا الاحتقان الذي ميز
العلاقات الإيرانية ـ الإسرائيلية على مدى العقود الماضية، وكذا اشتداد الحرب
الإسرائيلية على قطاع غزة، امكانية وحدة الصف السني ـ الشيعي في مواجهة هذا
العدوان، الذي زاده الدعم الأمريكي والغربي وحشية، على نحو ما كان أيام الحروب
الصليبية حين توحد الشيعة والسنة في مواجهة الصليبيين في عدد من المواقع..
وقد أثار الأستاذ الجامعي الموريتاني
الكاتب محمد مختار الشنقيطي ذلك من خلال عدد من تغريداته على صفحته على منصة
"إكس"، مستذكرا كتابه "أثر الحروب الصليبية على العلاقات السنية
الشيعية"، داعيا إلى توحيد الصفوف ليس في نصرة المقاومة الفلسطينية في قطاع
غزة، وإنما في الانحياز إلى الصف العربي والإسلامي في مواجهة حرب صلايبية جديدة
بقيادة إسرائيل ودعم الدول الغربية وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية.
وأعاد الدكتور الشنقيطي نشر قراءة
سابقة للكاتب والباحث السوري الدكتور عرابي عبد الحي عرابي عن كتابه المذكور، وهو
ما أثار جدلا فكريا بين النخب العربية والإسلامية، ليس فقط عن العلاقات السنية ـ
الشيعية، ولا الإيرانية ـ العربية، وإنما عن دور إيران في إضعاف العرب وتمكين
عدوهم منهم.
"عربي21"، تفتح نقاشا
فكريا عميقا حول كتاب الدكتور الشنقيطي أولا، وما إذا كان من الوارد أن يتم تحالف
سني ـ شيعي في مواجهة العدوان الإسرائيلي والغربي على فلسطين والعرب والمسلمين..
وبعد أن نشرنا رأي الدكتور عرابي عبد
الحي عرابي، ثم رأي الدكتور أحمد القاسمي الأستاذ الجامعي التونسي، ننشر اليوم رأي
الدكتور بلال التليدي الباحث المغربي في شؤون الفكر الإسلامي..
في تفسير التقارب السني الشيعي..
الراهن المفارق للتاريخ
سجل الشنقيطي في أطروحته في الفصل
الثالث المتعلق باكتشاف المصائر المشتركة، عددا من النماذج التي تؤكد حصول تحالف
أو توافق بين السنة والشيعة الإمامية في مواجهة الصليبيين، وذكر من ذلك مقاومة
طرابلس حصار الصليبيين لها عدة سنين بقيادة الأمير الإمامي فخر الدين بن عمار،
ودعم القادة السنة في دمشق وحمص، وتعبئة القاضي الإمامي أبي الفضل بن الخشاب جيشا
سنيا تركيا من ماردين إلى معركة سرمدا أو "حقل الدم" الحاسمة ضد القوات
الصليبية، ثم استدعاؤه الأمير السني آق سنقر لاستلام حلب من أيدي الأمراء
العاجزين، كما ذكر أيضا قتال سنة دمشق وحمص مع شيعة عسقلان أكثر من مرة ضد الفرنج،
والدعوات الملحاحة التي أطلقها الوزير الفاطمي طلائع بن رزيك إلى نور الدين زمكي
من الجهاد المشترك ضد الصليبيين، ثم توقف
طويلا عند علاقة صلاح الدين الأيوبي القوية بإماميي حلب ودمشق.
وقد علل الشنقيطي حصول التقارب في
هذه النماذج بثلاث عوامل، أولها التقارب المذهبي، وثانيها القرب الجغرافي، وثالثها
ما أسماه بالسلبية السياسية للشيعة الإمامية، الذين لم يكونوا يشكلون تحديا سياسيا
جديا بالنسبة للسنة ما قبل الدولة الصفوية على عكس ما كانت تشكله الإسماعيلية من
تهديد للسنة ودولتهم.
أطروحة الشنقيطي في بعدها العلمي والبحثي تكشف عن مساحات التواصل والقطيعة في العلاقات السنية الشيعية، وتكشف أثر الحروب الصليبية في تكييف هذه العلاقة، وتبين في زاوية أثر التقارب بين السنة والشيعة في صد العدوان الخارجي، وتأثير القطيعة في إضعاف الكيان السياسي الإسلامي وتعظيم التهديد الغربي، وتسهيل سيطرته على مقدرات الأمة، وتبين في زاوية أخرى، مخاطر تشغيل أطروحة المكر السياسي، التي تداهن الأجنبي في سبيل تحقيق الأمان من تهديده، وإضعاف المكون الإسلامي الخصم.
وعرض الشنقيطي في الفصل الرابع
لنموذج آخر لما يسمى بتقارب الضرورة، بين أهل السنة والإسماعيلية بشقيها الفاطمية
والنزارية، وبين في هذا الفصل كيف سلك الفاطميين مسلك البيزنطيين في المكر السياسي
في التعامل مع الفرنجة، فحاولوا في البداية احتواء العاصفة الصليبية حتى لا تتجاوز
شرق الأناضول وشمال الشام وتوجيهها لصالحهم لتكون حاجزا بينهم وبين القوى
السلجوقية السنية القادمة من الشرق، والمصرة على انتزاع مصر من الفاطميين وإرجاعها
إلى حظيرة الأمة الجامعة، وكيف خاب ظن الفاطميين في الفرنجة لما سيطروا على القدس
التي كانت تحت نفوذ الفاطميين يومها، إذ كان الفاطميون يرمون محاولة ضرب الطرفين
السني والفرنجي بعضهما ببعض حتى يضعفوا الطرفين معا، ويخفضوا من حجم التهديد السني الذي كان يلاحق دولتهم.
وتوقف الشنقيطي عند تحول موقف الفاطميين، واضطرارهم إلى جهاد الصليبيين لما اقترب
التهديد منهم وأصبح وجوديا، وكيف تطور الأمر، فاضطروا في النهاية لتسليم مصر
للقيادة السنية، بعد أن أصبحت على شفا السقوط في أيدي الفرنجة.
في حين، توقف عند
تحول موقف النزاريين، أو ما يسمى بالحشاشين بالشام، وكيف حولوا سياسة الاغتيالات
التي كانوا يستهدفون بها قادة السنة إلى استهداف قادة الفرنجة بإيعاز من أهل السنة
لما حصل تحول الموقف واضطروا إلى دعمهم (في عهد صلاح الدين) في جهادهم ضد
الصليبيين، ليخلص في الأخير إلى المصير الذي انتهت إليه الإسماعيلية، إذ
"تحولت إلى جماعة مسالمة تعيش على هوامش المجتمعات الإسلامية دون مطامح
سياسية أو بأس عسكري".
في الواقع، لا يمكن أن نجادل كثيرا
في العوامل الثلاثة التي فسر بها الشنقيطي التقارب السني الشيعي في مواجهة
الصليبيين خاصة في الشام (حلب وطرابلس)، فما ذكره من التقارب المذهبي والاعتقادي،
شيء يبينه الفارق الكبير بين الإمامية والإسماعيلية، فعلماء السنة، وفي مقدمتهم
أبي حامد الغزالي، كما هو مبين في "فضائح الباطنية"، كان ينبه إلى مخاطر
الفرقة الإسماعيلية أكثر من الإمامية، وكان يسوغ قتال الإسماعيلية خلافا للإمامية،
وقد ظل علماء السنة، خاصة في الشام، لا
يرون بأسا في التعايش مع الإمامية، بخلاف
بغداد التي كان الصراع على أشده بين الحنابلة وبين الإمامية. ثم إن الوزن السياسي
للشيعة الإمامية في الشام كان ضعيفا مهزوزا، وكان الكيان السياسي الإمامي عبارة عن
كيانات سياسية محدودة في حلب وطرابلس، عبارة عن إمارات ضعيفة، وكانت الضرورة
السياسية تلح عليها بالتماس الدعم من الدولة السلجوقية القوية، أكثر من التماسها
من الدولة الفاطمية المشرفة على السقوط والانهيار، وذلك بعد أن ثبت لها أن استعمال
المكر السياسي مع الفرنجة، جعل إمارة طرابلس في بؤرة التهديد الصليبي (تحول موقف
ابن عمار من الصليبيين من المهادنة إلى القتال والتقارب مع السنة في بغداد ودمشق).
هذا فضلا عن عامل القرب الجغرافي، الذي كان يحتم على الإمارة الإمامية في حلب
وطرابلس أن تطلب الدعم من الحواضر الأقرب إليها جغرافيا، أي من دمشق بالنسبة إلى
طرابلس، ومن الموصل بالنسبة إلى حلب، وليس من القاهرة مركز ثقل الدولة الفاطمية،
التي تعتبر بعيدة جغرافيا.
لا نجادل في هذه العوامل الثلاثة،
لكن الرهان الحالي، يبين تغير وزن الفاعل الشيعي، فالأمر لا يتعلق بدولة منهارة
(الدولة الفاطمية)، المختلفة عقديا ومذهبيا عن الإمارات الإمامية الضعيفة سياسيا
والبعيدة جغرافيا (حلب وطرابلس)، كما يتعلق الأمر بنموذج جديد من الإمامية في
إيران (الإمامية الاثني عشرية) التي تحولت إلى تحد عقدي وسياسي كبير للسنة منذ
قيام الدولة الصفوية. كما تغيرت المؤشرات السوسيولوجية والجغرافية المذهبية بشكل
كبير، فلم يعد الأمر يتعلق بدولة شيعية إسماعيلية تحكم أغلبية من السنة كما كان
الحال في مصر، ولم يعد النفوذ الشيعي مطوقا بتهديدات عسكرية تقض مضجعه كما كان حال
حلب وطرابلس والقاهرة، بل تشكلت دولة شيعية قوية تتميز بتجانس عقدي شامل على
أراضيها (تركيبة دينية شيعية إمامية اثنا عشرية مع أقلية سنية جد معزولة في
إيران)، وهي تتمتع بقوة سياسية تستمدها من شرعية الحكم (الثورة الإيرانية)، وتوجد
من الناحية الجغرافية بمنأى عن أي تهديد إقليمي مباشر (دول الجوار ضعيفة سياسيا
وعسكريا)، ولا تراهن على تكوين كيانات سياسية دولتية شيعية، بقدر ما تراهن على
تشكيلات عسكرية، تشكل حزامها الأمني الإقليمي، وتؤسس لهذه الأحزمة في بيئات
الاضطراب السياسي (اليمن وسوريا والعراق) أو في البيئات الطائفية التي يقوم
استقرارها السياسي على التوافق الطائفي (لبنان)، وتؤسس لنمط علاقات دولية تجمع بين الانسياب في الشرعية الدولية، وبين
الانتفاع بعائدات المحاور الإقليمية التي تشتغل بمنطق المليشيات كما هو الحال في
سوريا والعراق، أو بمنطق المقاومة الشرعية للاحتلال كما في لبنان أو بمنطق مقاومة التحالف الدولي كما في
اليمن، وتستفيد من تناقضات الوضع الدولي، وتقيم علاقات مع محور موسكو بكين لتقوية
نفوذها السياسي والعسكري، وتشغل أوراقا
كثيرا في التفاوض غير المباشر مع الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي،
حتى تبقي على معادلة "لا حرب لا سلم، وإنما الضغط لتحسين التموقع".
الطرف السني الوحيد الذي يقاوم الاحتلال الصهيوني عسكريا وسياسيا هي المقاومة الفلسطينية، وتكتفي دول أخرى في أقصى حد بالدعم الإعلامي وأحيانا السياسي كما هو الحال بالنسبة لقطر وتركيا، وتقوم الدول العربية بمحاولات جد محتشمة لتبرئة نفسها أمام شعوبها.
وإذا كان الأمر على هذه الشاكلة
بالنسبة إلى الطرف الشيعي، فإن الطرف السني نفسه، لا تتوافر فيه كل أو أغلب السمات
التي اتسمت بهت المكونات السنية زمن الحروب الصليبية.
صحيح أن طابع التشرذم، وسيادة ثقافة
الأنانية السياسية هي سمة مشتركة بين الماضي والحاضر في الطرف السني، لكن ثقافة
المقاومة ومواجهة الخطر الصهيوني المدعوم أمريكيا، لا تتبناه أي دولة سنية، بما في
ذلك تركيا القوية، التي تناصر بخطابها علنا المقاومة الفلسطينية، ولكنها لم تستطع
أن تفعل أكثر من توقيف التبادل التجاري مع الكيان الصهيوني، بعد انتقادات كثيرة
لانخفاض سقف الدعم للمقاومة الفلسطينية، دفعت كثيرا من المحللين السياسيين أن
يفسروا تراجع حزب العدالة والتنمية في
الانتخابات المحلية بالتخاذل في نصرة الفلسطينيين في مواجهتهم للعدوان الإسرائيلي
على غزة. فالطرف السني الوحيد الذي يقاوم الاحتلال الصهيوني عسكريا وسياسيا هي
المقاومة الفلسطينية، وتكتفي دول أخرى في أقصى حد بالدعم الإعلامي وأحيانا السياسي
كما هو الحال بالنسبة لقطر وتركيا، وتقوم الدول العربية بمحاولات جد محتشمة لتبرئة
نفسها أمام شعوبها.
كثير من مثقفي السنة وباحثيهم
وعلمائهم ينتقدون على إيران موقفها من الحرب على غزة، ويعتبرون أنها تغلب مصلحتها
القومية على القضية الفلسطينية، ويستدلون على ذلك بانخفاض مستوى دعم المقاومة
اللبنانية للمقاومة الفلسطينية، وتسقيف حزب الله للمواجهة العسكرية مع الكيان
الصهيوني (ضبط إيقاعها حتى لا تصل إلى درجة الحرب المفتوحة)، وينتقدون السقف
الواطئ للرد الإيراني على استهداف الكيان الصهيوني لقادة الحرس الثوري في السفارة
الإيرانية في دمشق، ويعتبرون خطابات حسن نصر الله مجرد استهلاك إعلامي لا فائدة
منه، وبعضهم يتبنى نظرية المؤامرة ويزعم وجود تحالف ضمني وتوطؤ إيراني أمريكي، وأن
الخطر الإيراني الشيعي هو أخطر على الأمة من الخطر الصهيوني نفسه، لكن، في
المحصلة، وبالنظر إلى
التاريخ، ومفارقاته مع سمات الراهن الحالي، يبدو الموقف
الإيراني أكثر تقدما من كثير من مواقف الدول السنية، فواضح أنها تعتمد محددات مدروسة في توجيه
سياستها الخارجية، وطريقة تعاطيها مع
الحرب على غزة، فما يحكم هذه السياسة هو
ثابت إبعاد شبح المواجهة المباشرة مع الغرب، ومحاولة إدارة هذه المواجهة بشكل غير
مباشر بسقف الممكن، وذلك من خلال تحريك المحاور الإقليمي، والتحكم في بعض أوراق
الضغط الإقليمية على الولايات المتحدة الأمريكية، إذ ضمنت من خلال تحريك ورقة
الحوثيين، تحقيق هدفين: تهديد التجارة الدولية في البحر الأحمر، ورهن الموقف
السعودي والمصري، حتى لا تتحول أي دولة من
هاتين الدولتين للعب ضد منظومة أمنها القومي.
الأفق الذي يدعو إليه الشنقيطي، مهم
من جهة التنظير، وجوهري من جهة التأسيس التاريخي، لأنه يخفف من تأجيج الخلاف
الطائفي والمذهبي، ويخفض سقف الاتهامات السنية الشيعة بشأن الاشتغال ضد مصالح
الأمة وخدمة الأهداف الأجنبية، لكن من جهة الواقع، أمور كثيرة تحول دونه، منها
أولا، أن الدول السنية، توجد على مسافة أبعد من نصرة المقاومة ومواجهة الاحتلال،
وثانيا أن الصراعات الإقليمية بين مركز الثقل السني (تركيا) ومركز الثقل الشيعي
(إيران)، أصبح ممتدا في جغرافيات متعددة (سوريا، العراق، أذريبيجان، أفغانستان)،
وثالثها أن التحالفات السنية الشيعية مع القوى الدولية في هذه الجغرافيات زاد
الأمر تعقيدا، فجعل من إمكانية التقارب أمرا متعذرا، ففي الحالة السورية، وبسبب من
التحالف السوري الإيراني الروسي، والتحالف التركي السوري (المعارضة)، والتحالف
السوري (المعارضة) السعودي الأمريكي، لم يعد هناك إمكانية لتصور تقارب بين الدول
السنية (السعودية، تركيا) مع الدولة الشيعية (إيران)، ورابعها، أنه انضاف إلى
قائمة عوامل الصراع البعد الأمني بمفهومه المعاصر، فإيران الشيعية، بتشغيل محاورها الإقليمية أضحت
تمثل خطرا على الأمن القومي السعودي (من جهة اليمن) والتركي (من جهة العراق
وسوريا). وهو ما يجعل جهود التأسيس للذاكرة أو للمستقبل بين السنة والشيعة، رهانا
مجتمعيا أو نخبويا أكثر منه رهان الدول.
خاتمة:
يمكن القول بأن أطروحة الشنقيطي في
بعدها العلمي والبحثي تكشف عن مساحات التواصل والقطيعة في العلاقات السنية
الشيعية، وتكشف أثر الحروب الصليبية في تكييف هذه العلاقة، وتبين في زاوية أثر
التقارب بين السنة والشيعة في صد العدوان الخارجي، وتأثير القطيعة في إضعاف الكيان
السياسي الإسلامي وتعظيم التهديد الغربي، وتسهيل سيطرته على مقدرات الأمة، وتبين
في زاوية أخرى، مخاطر تشغيل أطروحة المكر السياسي، التي تداهن الأجنبي في سبيل
تحقيق الأمان من تهديده، وإضعاف المكون الإسلامي الخصم.
فهذه الخلاصات مفيدة من جهة الاعتبار التاريخي
واكتساب رؤية سياسية لبناء الموقف من القوى الغربية، لكن الاشتغال على بناء مستقبل
العلاقة بين السنة والشيعة، وترميم مآسي الذاكرة التاريخية، لا تكفي فيه هذه
الدروس، فليس التأسيس لجبهة المقاومة للعدو الصهيوني والأمريكي (جبهة سنية شيعية)،
هي الدرس التاريخي المستفاد في إصلاح العلاقات السنية الشيعية، فالمواجهة، بشروطها
الراهنة، تحكمها معطيات الجغرافيا السياسية، وموازين القوى، والخيارات المتاحة،
ودراسة الكلفة، وحجم العوائق السياسية الموضوعية، فلا يمكن لإيران اليوم، ولا لأي
دولة سنية، أن تلقي بكل هذه الاعتبارات، وتنتج موقفا مبدئيا في دعم المقاومة، كما
يبين ذلك الدرس التاريخي، فضلا عن ان يتم الرهان على تحالف سني شيعي في ساحة
المواجهة المباشرة للعدو الصهيوني، فأقصى ما يمكن أن يستلهم من الدرس التاريخي
المتعلق بالحروب الصليبية (التهديد الأجنبي) أن يتم الوعي بخطرين اثنين: الأول: أن يتم الاكتفاء باعتماد
سياسة "عقلانية أنانية" تروم إبعاد "الشر"
و"التهديد" عن كيان الدولة السنية أو الشيعية، وتنسى أن التهديد سيصلها بعد ذلك، وستكون في وضع أضعف لن تقوى معه على
المواجهة. والثاني، أن يتم تأجيج الاستقطاب الطائفي باستعمال ورقة التخاذل في دعم
القضية الفلسطينية، واتهام الأطراف بعضها لبعض بالتواطؤ مع الأجنبي لتصفية القضية
أو استعمال القضية الفلسطينية لخدمة المصالح القومية للدولة السنية أو الشيعية.
اقرأ أيضا: الحروب الصليبية.. التحالف السني الشيعي والوعي بمخاطر التأجيج الطائفي (1 من 2)