بالنسبة إلينا، نحن المدافعين عن قضية
فلسطين، نعتبر
الأرض المغتصبة منذ عام 1947 قضية محورية في رؤيتنا للسياسة في المنطقة، بل إن كل
ما يجري في المنطقة يتصل بها دون أي شك أو لبس، بدءا من التضييق على حرية الرأي
والتعبير في صحيفة صغيرة في دولة غير مؤثرة في الإقليم، وانتهاء بالسيطرة على
أنظمة الحكم في المنطقة أو إسقاط بعضها إذا اقتضى الأمر. وما بين أدنى تأثير
وأقصاه، فإن قضية فلسطين تحتل اهتماما بارزا في مركز صنع القرار المحلي والإقليمي
والدولي؛ خوفا من تبعات أي تحرك إيجابي في هذه المستويات الثلاثة تجاه حقوق
الفلسطينيين، أو إنهاء مشروع الاحتلال.
مرت القضية بكل محاولات الإضعاف على مدار تاريخها، وهذا
الإضعاف كان منذ حرب عام 1948 عندما دخلت الجيوش العربية فلسطين لتُحدث هزيمة
مربكة للعالم العربي، صانعة بذلك أسطورة الجيش الذي لا يُقهر؛ على وقع انتصاره على
ست دول عربية مجتمعة، في حين أن الجيوش العربية دخلت فلسطين بأكثر من 20 ألف جندي
فقط، أمام أكثر من 100 ألف من عصابات الصهاينة، ومنها تشكيلات حاربت في الحرب
العالمية الثانية فاكتسبت قدرة قتالية لم تتوفر للجيوش العربية التي كانت واقعة
تحت الاحتلال، ولم تخض معركة حقيقية، وبعض أفرادها لم يمسكوا بأسلحة حاربوا بها،
بل قرأوا عنها في الكتب وأمسكوها في فلسطين للمرة الأولى، كما روى الفريق الشاذلي
عن تجربته في الحرب.
كان الفلسطينيون ولا زالوا يحملون عبء القضية وحدهم دون مِنَّة من أحد، بل إن كل تدخل عربي يكون ضدهم لا داعما لهم، ثم جاء السابع من تشرين الأول/ أكتوبر ليضع فلسطين في محور العالم كله لا المتعاطفين مع القضية فقط
كانت النتيجة هزيمة عسكرية مذلة، واحتلال أكثر من نصف
الأراضي التي خُصصت للفلسطينيين في قرار التقسيم عام 1947، ثم جاء عام 1967
بعنترية ناصر وخطاباته الشعبوية، وإغلاقه المضائق بقرار يخدم صورته الذهنية في
المجتمعات العربي، بحسب شهادة محمد فائق، رجل المخابرات ووزير الإرشاد القومي في
عهده، لتنتهي مغامرته الشخصية باحتلال سيناء المصرية وكامل فلسطين والجولان
السوري، فترسخت صورة الجيش الذي لا يُقهر على يد زعيم الهزائم وبطل الخطابات
الشعبوية، وبدأت صفحة سوداء جديدة في القضية الفلسطينية، لم تُطْوَ بعد.
جاءت ثورات الربيع العربي نهاية 2010 ومطلع 2011 لتعطي
دفعة جديدة في آمال الفلسطينيين والمؤيدين للقضية، وما لبثت أن تحولت الثورات إلى
كرات نار أحرقت الجميع، وبالطبع نال الفلسطينيون قدرهم من هذه النار.
حاول القادة والحكام المنبطحون أمام التوجيهات الأمريكية
أن يطَأوا فلسطين بأقدامهم، كما وطأوا كرامة شعوبهم بعد نكسة الثورات، فوقف
الفلسطينيون أمام مخططات تصفية القضية وحدهم، تارة بالاحتجاجات السلمية، كما فعلوا
في الشيخ جراح وهَبَّتيْ باب الرحمة وباب الأسباط، وتارة بالقوة في معركة سيف
القدس، وبالفعل جمَّدوا مشروعات تصفية القضية ولو جزئيا، فكان الفلسطينيون ولا
زالوا يحملون عبء القضية وحدهم دون مِنَّة من أحد، بل إن كل تدخل عربي يكون ضدهم
لا داعما لهم، ثم جاء السابع من تشرين الأول/ أكتوبر ليضع فلسطين في محور العالم
كله لا المتعاطفين مع القضية فقط.
ربما تكون الملاحظة الأبرز هي تحول الأنظمة المطالبة
لمجتمعاتنا بالالتزام بحقوق الإنسان إلى مجتمعات قمعية على مستوى الصحافة وحرية
التظاهر، ما يعطي مثالا حيّا على الكلمة النبيهة والحكمة البليغة للإمام الحسن
البصري الذي قال: "كانوا يتساوون في وقت النّعَم، فإذا نَزَلَ البلاء
تباينوا"، ولو قالها أحد فلاسفة الغرب لكانت منقوشة في مكان مرموق.
ما نستدل به من كلمة الإمام البصري، أن الناس يبدون
متسامحين وعقلانيين ومتقبلين للخلاف ما داموا في دَعَة ونعمة وعافية، ولكن عند
وجود الاختبار فإن الطباع الحقيقية لكل شخص تبدو بجلاء. ويمكن فهم هذا على مستوى
القوة كذلك، فالقوي إلى درجة اليقين بأن سلوكا ما لن يضر بمكانته وهيبته، قد
يتسامح عما يسيء إليه، لكن إذا شعر بأن مكانته ستضطرب فإنه يتحول إلى شخص أقل
تسامحا وربما شرسا.
هذه هي الحالة التي أصابت أوروبا وأمريكا على وقع طوفان
الأقصى، فالمطالبات بالديمقراطية كانت شرسة إزاء الحركات السياسية الإسلامية،
وكانت مزعجة للأنظمة القمعية في بلادنا، وهي مطالبات وممارسات توقفت تماما عند
اختبار فلسطين، وأصبحنا نشهد بقوة ما يسمى بـ"الاستثناء الفلسطيني" من
حرية التعبير، وما يمكن أن نسميه بـ"الاستثناء
الإسرائيلي" من حرية
النقد،
هذه هي الحالة التي أصابت أوروبا وأمريكا على وقع طوفان الأقصى، فالمطالبات بالديمقراطية كانت شرسة إزاء الحركات السياسية الإسلامية، وكانت مزعجة للأنظمة القمعية في بلادنا، وهي مطالبات وممارسات توقفت تماما عند اختبار فلسطين، وأصبحنا نشهد بقوة ما يسمى بـ"الاستثناء الفلسطيني" من حرية التعبير، وما يمكن أن نسميه بـ"الاستثناء الإسرائيلي" من حرية النقد
ورغم أن هذا الوضع قديم، لكنه كان يجري على استحياء قبل طوفان الأقصى،
فأصبحت الشرطة أكثر شراسة مع المحتجين، وأصبحت الجامعات ساحات لتدخلات الشرطة دون
حرج، وبات الاعتراف بدولة الاحتلال معيارا للتجنيس في دول، وغير ذلك من القيم التي
أصبحت مهدرة بصورة فجة على وقع حدث كبير، أراد الفلسطينيون منه إخبار العالم أنهم
على الخارطة ولو كانوا وحدهم في مواجهة طمس هويتهم وقضيتهم.
اليوم يريد نتنياهو والاحتلال استخدام نفس الفعل
الفلسطيني ولكن في خطاباته ومناوراته، لا في أفعاله، فالفلسطينيون فعلوا ما يثبت
أنهم ماضون في طريقهم ولو كانوا وحدهم، بينما يقول قادة الاحتلال إنهم سيستمرون في
معركتهم ولو كانوا وحدهم، وهذا خطاب المناورة، بينما يأخذون الأسلحة بعشرات
المليارات من راعيتهم الأمريكية، وأثبتوا أنهم ليسوا قادرين على خوض معركة
"حقيقية" دون أمريكا الدولة الأكثر إجراما في التاريخ المعاصر.
ما تقدمه الدول التي تُصرُّ على وصف نفسها بأنها
"دول العالم المتحضر" يعيد تأسيس كل المفاهيم الأخلاقلاية والسياسية
والفلسفية التي نشأت ونضجت في العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، خاصة ما
يتعلق بالأقوال المثالية والمزاعم الأخلاقية، والترويج للديمقراطية وقيم
"العالم الحر"، كما نسف تماما مقولة إن "إسرائيل الديمقراطية
الوحيدة في المنطقة"، فهذه الديمقراطية تشن حربا "انتقامية"
بالمعنى الحرفي للانتقام، وفي سبيل ذلك تقتل النساء والأطفال والشيوخ بينما ترتعد
أمام مقاومين حفاة يتسابقون على من سيكون له شرف وضع عبوة العمل الفدائي.