في الأنظمة القضائية لكل دولة قواعد وقوانين تحمي هيئة الحكم وهيئة الادعاء
العام من أي محاولة من الخصوم أو أي طرف ثالث لترهيب أو ترغيب هذه الهيئات. فلا يستطيع أي طرف من الأطراف تهديد أو رشوة أعضاء هذه الهيئات بهدف
منعهم من القيام بواجباتهم وفق ما ينص عليه القانون، وكل من يحاول القيام بأي فعل
من شأنه تعطيل
العدالة فإنه يتعرض لأشد العقوبات.
تهديد القضاة والمدعين العامين لا يحدث إلا في بلاد "الواق واق" و"جمهوريات
الموز" التي انفلت فيها عقد النظام والقانون، وتحكمها مافيات وبلطجية بشرعة
أحط من شرعة الغاب فلا أمن ولا سلام ولا عدالة.
القوى التي تدعي أنها ديمقراطية في الغرب تطبق قواعد القانون بصرامة في
الداخل فلا عدوان على حقوق الأفراد، ناهيك عن أن يجرؤ أحد على الاقتراب من هيئات
الحكم والادعاء العام تهديدا أو ترغيبا، في المقابل تعيث هذه الدول فسادا على
الصعيد الدولي، فالعدالة الدولية مفقودة عاجزة مشلولة أو أنها تُستخدم لتحقيق
أجندات سياسية.
في حرب الإبادة التي تشنها
إسرائيل في قطاع غزة؛ هبّت قوى الاستعمار الغربي
بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية لتوفير كافة وسائل الدعم العسكري والسياسي،
ووظفت كافة وسائل الإعلام الغربية لغسل جرائم إسرائيل وتبريرها فضلا عن تسويق
الرواية الإسرائيلية الكاذبة للأحداث.
وصل حد بلطجة هذه الدول لممارسة كل أنواع التهديد ضد أي دولة أو هيئة أممية تحاول التدخل من أجل وضع حد لما يجري، وإيصال ما يلزم من مساعدات لإطعام الجوعى وإيواء المهجرين وعلاج المرضى والجرحى، بل وصل التهديد لأعلى هيئة قضائية دولية (المحكمة الجنائية الدولية) إن حاولت ملاحقة المتهمين في هذه الجرائم
وصل حد بلطجة هذه الدول لممارسة كل أنواع التهديد ضد أي دولة أو هيئة أممية
تحاول التدخل من أجل وضع حد لما يجري، وإيصال ما يلزم من مساعدات لإطعام الجوعى
وإيواء المهجرين وعلاج المرضى والجرحى، بل وصل التهديد لأعلى هيئة قضائية دولية (المحكمة
الجنائية الدولية) إن حاولت ملاحقة المتهمين في هذه الجرائم.
التدخل السافر في التحقيق الذي يتعلق بالجرائم المرتكبة ليس حديثا، فهو يعود
إلى اللحظة الأولى التي أحالت فيها
فلسطين الجرائم إلى المحكمة، فانبرت العديد من
الدول الغربية لتعارض ذلك، وعندما فتحت المدعية العامة السابقة تحقيقا رسميا قامت إدارة
ترامب بفرض عقوبات عليها وعلى موظفين آخرين في مكتبها.
سلوك الدول الغربية في الملف الأوكراني كان على العكس تماما، فقد عملت على
تجنيد المحكمة لتحقيق أجنداتها السياسية. 43 دولة أحالت الجرائم المزعوم ارتكابها
إلى المحكمة وصبت في موازنة المحكمة الملايين، وهي نوع من الرشوة ليقوم مكتب
الادعاء العام بتحقيقات سريعة ضد طرف واحد صدرت على إثرها وفي زمن قياسي مذكرات
توقيف بحق الرئيس فلاديمير بوتين وعدد من المسؤولين الروس.
قام كريم خان بفتح تحقيق رسمي في الجرائم المزعوم ارتكابها من الجانب الروسي
فقط بتاريخ 2 آذار/ مارس 2022، أي بعد أقل من شهر من بدء الحرب (24 شباط/ فبراير 2022)،
وبعد سنة فقط وبتاريخ 17 آذار/ مارس 2023 أصدرت غرفة ما قبل المحاكمة مذكرات توقيف
بحق بوتين ومسؤولة أخرى في مكتبه، وبتاريخ 5 آذار/ مارس 2024 أصدرت ذات الغرفة
مذكرات قبض بحق شخصين اثنين.
وما يلفت الانتباه أكثر أنه في معظم القضايا التي حقق ويحقق فيها مكتب
الادعاء العام تناول كل أطراف الصراع، لكن الجرائم المرتكبة من قبل الجانب
الأوكراني كانت استثناء، فالمدعي العام لم يذكر في أي من مذكراته الرسمية أنه
سيحقق في جرائم ارتكبها الجانب الأوكراني، وهي كثيرة وفق منظمات حقوقية مستقلة.
وعلى صعيد الجرائم المستمرة التي ترتكبها إسرائيل في فلسطين وعلى وجه الخصوص
حرب الإبادة في قطاع غزة، لم يتخذ كريم خان أي إجراء عملي منذ توليه منصبه في حزيران/
يونيو 2021، واقتصر موقفه بعد أحداث السابع من تشرين الأول/ أكتوبر على بيانات
صحفية ومقابلات لذر الرماد في العيون.
نشط كريم خان في مختلف القضايا المعروضة على مكتبه ومنها السودان وليبيا
وفنزويلا وغيرها، وبالطبع أوكرانيا كما أسلفنا، واستثنى فلسطين من أجنداته بداعي
أنه لا توجد إمكانيات مادية لدى المحكمة لاستكمال التحقيق الرسمي في الجرائم
المرتكبة.
ونحن نقترب من اكتمال عشر سنوات على إحالة الجرائم المرتكبة بأنواعها المختلفة،
والذي يصادف 13 حزيران/ يونيو 2024، ظهرت تسريبات في الصحف الإسرائيلية وعلى لسان رئيس
حكومة الاحتلال أن مكتب الادعاء العام في المحكمة الجنائية الدولية ينوي إصدار مذكرات
توقيف بحقه وبحق مسؤولين إسرائيليين آخرين، وتوعد وطالب دولا في مقدمتها الولايات المتحدة
لكي تتدخل وتمنع ذلك.
وبتاريخ 20 أيار/ مايو 2024 أصدر المدعي العام بيانا خلص فيه إلى أن جرائم
حرب وجرائم ضد الإنسانية ارتكبت من الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، وبناء عليه
تقدم بطلب إلى الغرفة التمهيدية طالبا الإذن بإصدار مذكرات قبض ضد
نتنياهو وغالانت
والسنوار والضيف وإسماعيل هنية.
من الواضح أن خطوة المدعي العام جاءت متأخرة جدا، وهناك جرائم قبل أحداث
السابع من تشرين الأول/ أكتوبر مثل الاستيطان؛ لو اتخذ المدعي العام فيها إجراء
لأحدث فرقا، كما أنه بدا معنيا في طلب إصدار مذكرات التوقيف أن تشمل الطرفين حتى
يبدو متوازنا ويخفف من حجم الهجوم عليه من الجانب الإسرائيلي وحلفائه، لكن أنّى له
ذلك!
مشوار العدالة والانتصاف للضحايا طويل، فحتى لو صدرت مذكرات التوقيف فهذا لا يعني أن توقيف المشتبه بهم ومحاكمتهم ستتم على الفور، فنحن نعلم أن نتنياهو وغالانت لن يسلموا أنفسهم للمحكمة، ومع مبدأ المحاكمة الحضورية الذي تقوم عليه المحكمة فإن المحاكمة الغيابية غير واردة
لم يسبق أن أعلن المدعي العام الحالي أو المدعون العامون السابقون أن طلبوا إصدار
مذكرات توقيف في أي من القضايا التي عُرضت عليهم، فما درج عليه مكتب الادعاء العام
أنه يعلن عن مذكرات التوقيف حال صدورها، كما لم يسبق أن أعلن عن لجنة درست حيثيات القضية
من خارج المحكمة كما بيّن في بيانه أمس، وهذا يؤشر إلى أن مكتب الادعاء العام يعامل
هذه القضية بخصوصية بالغة، وهو ما يُخل بالمبادئ الأساسية التي تقوم عليها المحكمة
وهي معاملة كافة القضايا المعروضة عليه بإجراءات واحدة.
والتساؤل الكبير يبقى: لماذا اقتصر طلب الادعاء العام على إصدار مذكرات توقيف
بحق اثنين فقط من الجانب الإسرائيلي على الرغم من أن لائحة الأسماء المعروفة وترتكب
بنشاط جرائم خطيرة في قطاع غزة طويلة منهم وزراء ورتب عسكرية، مثل رئيس الأركان هاليفي
وأعضاء ما يسمى مجلس الحرب؟!
مشوار العدالة والانتصاف للضحايا طويل، فحتى لو صدرت مذكرات التوقيف فهذا لا
يعني أن توقيف المشتبه بهم ومحاكمتهم ستتم على الفور، فنحن نعلم أن نتنياهو
وغالانت لن يسلموا أنفسهم للمحكمة، ومع مبدأ المحاكمة الحضورية الذي تقوم عليه
المحكمة فإن المحاكمة الغيابية غير واردة، على خلاف ما هو معمول به في الإجراءات
الجنائية الوطنية.
ومع ذلك فإن هذا لا يقلل من أهمية صدور مذكرات التوقيف وهو ما طالبنا به
مرارا وتكرارا منذ سنوات، فاليوم ورغم أن الطلب جاء متأخرا كان له وقع الصاعقة على
الجانب الإسرائيلي وبدأت تصدر التهديدات من هنا وهناك، لدرجة أن وزير خارجية
إسرائيل أعلن عن تشكيل غرفة حرب لمواجهة المحكمة.
مذكرات التوقيف إن صدرت ستعمّم من خلال الشرطة الدولية
"الإنتربول" على شكل نشرات حمراء، وهو ما يجعل نتنياهو وغالانت حبيسي الجغرافيا
ولا تستطيع أي دولة من الدول الأطراف استقبالهما على أراضيها، وهو ما يوجب على
الدول الداعمة لإسرائيل وفي نفس الوقت هي عضو طرف في المحكمة أن تراجع مواقفها من
دعم حرب الإبادة، فهي بكل وضوح شريكة في الجرائم التي يرتكبها نتنياهو.
لا يجوز أن تقف المحكمة والدول الأطراف صامتة في مواجهة التهديدات والعربدة التي تمارسها إسرائيل وحلفاؤها على المحكمة، فإن لم يكن للمحكمة أظافر وأسنان تحمي موظفيها بشكل حاسم فعلى العدالة الدولية السلام
طبعا الولايات المتحدة نددت بخطوة المدعي العام، وبريطانيا اعتبرتها
"غير مفيدة"، ودول غربية قليلة أيدته مثل أيرلندا وسلوفينيا وبلجيكا،
ووصل الحد بالبلطجة أن أعلن عضو الكونجرس ليندسي جراهام أنه سيقدم مشروع قانون
للكونجرس لفرض عقوبات على أعضاء المحكمة، وقبله وبتاريخ 24 نيسان/ أبريل 2024 وقع
12 سيناتورا رسالة موجهة إلى كريم يهددونه بفرض عقوبات عليه وعلى المحكمة.
فبالأمس كانوا يدعمون عمل المحكمة ووفروا لها كل الموارد في قضية أوكرانيا
ضد روسيا واليوم هم يعارضون عمل المحكمة ويهددون باتخاذ إجراءات ضد العاملين في
المحكمة لشل عملها، وهذا ما يحتم على مدعي عام المحكمة والداعمين لها وعلى وجه
الخصوص الدول الأطراف اتخاذ إجراءات لردع هؤلاء.
المادة 70 (د) من اتفاقية روما تتيح للمحكمة ملاحقة أي شخص يحاول القيام بأي
وسيلة ممارسة الترهيب على أحد من موظفي المحكمة بغرض منعه من القيام بواجباته، كما
فرضت ذات المادة على الدول الأطراف ملاحقة كل من يرتكب جريمة إعاقة العدالة وفق
قوانينها المحلية.
لا يجوز أن تقف المحكمة والدول الأطراف صامتة في مواجهة التهديدات والعربدة
التي تمارسها إسرائيل وحلفاؤها على المحكمة، فإن لم يكن للمحكمة أظافر وأسنان تحمي
موظفيها بشكل حاسم فعلى العدالة الدولية السلام.