بعد فشل جولة التفاوض، وإصرار الجانب الإسرائيلي على عرقلة جهود الوسطاء، دخل خيار وقف الحرب في منعطف المجهول، وسط شبه يقين من كل الأطراف، أن الخيار العسكري، لن يضطر حماس إلى قبول شروط إسرائيل أو التنازل عن شروطها، وأن عملية رفح العسكرية، وتشديد الضغط على حماس من خلالها، لا تقنع أحدا بما في ذلك الجانب الإسرائيلي نفسه.
مؤشرات ذلك واضحة على الأقل من خلال ما يجري في الداخل الإسرائيلي، وأيضا من خلال تطور الموقف الأمريكي نفسه. في إسرائيل، يشكل «تهديد» عضو مجلس الحرب بيني غانتس بإمهال رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى الثامن من يونيو/حزيران حتى يكشف عن أهداف خطته لما تبقى من الحرب و«اليوم التالي» على السواء، علامة فارقة تنهي حكاية وحدة الجبهة الإسرائيلية.
كما تبين انتقادات وزير الدفاع يوآف غالانت لجدوى الحرب في ظل عدم وجود خطة سياسية لما يسمى بـ«اليوم التالي» أن خوض عملية رفح العسكرية، هو مجرد ملأ الفراغ، ريثما تظهر شروط أفضل لإنهاء الحرب، تعفي حكومة نتنياهو من المساءلة.
نتوقف أمريكيا على مؤشرين: الأول زيارة سوليفان إلى إسرائيل ومحاولته إقناع مسؤوليها بالانخراط في الرؤية السياسية الأمريكية لما بعد الحرب، والتي تقترح مجرد التزام بالانخراط في حل الدولتين في مقابل صفقة توسيع مروحة التطبيع في العالم العربي، لتضم السعودية. والثاني، هو جلسة الاستماع لوزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن التي نظمها الكونغرس الأمريكي، والتي أظهرت أنه بقدر عدم رغبتها في تمكين حماس من أي انتصار سياسي، بقدر انتقادها لعدم امتلاك
الاحتلال الإسرائيلي لأي رؤية لما بعد الحرب، بل لعدم امتلاكه لرؤية للحرب نفسها.
تقرر خلاصات هذه المسارات الأربعة هزيمة عسكرية وسياسية للاحتلال، ومحاولة إنقاذه بالخيار الأقل سوءا، أي الانخراط في الرؤية الأمريكية الجديدة
في المجمل، فإن المحصل من تطور الموقفين الإسرائيلي والأمريكي، أن الخيار العسكري، سواء بإدامة الحرب، أو تشديد الضغط على حماس في رفح، أو إعادة الحرب في بعض المناطق التي انسحب منها الجيش الإسرائيلي، كل ذلك، أثبت من خلال رد المقاومة عسكريا أنه لا يقدم إلا نتائج معكوسة، وأنه يجعل المقاومة لا تحيد عن شروطها في التفاوض، وأن التطورات التي تجري على عدد من المستويات الدولية، فضلا عن الحراك الداخلي التي تشهده إسرائيل وعدد من الدول الغربية، يلح على ضرورة الاشتغال على حل سياسي لما بعد الحرب، وأنه لا يمكن ترك الاحتلال الإسرائيلي في مستنقع الحرب دون إلزامه بالانخراط في رؤية سياسية لـ«اليوم التالي» تخرجه من الأزمة رغم إصراره على البقاء فيها.
في الشهور السبعة السابقة، كان خيار إنهاء الحرب معلقا على مدى قدرة الاحتلال الإسرائيلي على تحقيق الأهداف العسكرية، وقد أثبتت جولات التفاوض أن المقاومة لم تغير شيئا من سقف أهدافها السياسية، وأن استمرار الحرب، لم يغير إلا جوانب تكتيكية بسيطة، تتعلق بتقسيم المراحل، وعدد الأسرى
الفلسطينيين الذين ستتم مبادلتهم بالمحتجزين في المرحلة الأولى والثانية، فيما الثابت في كل هذه الجولات أن الاحتلال لم يحسم في قضية سلطة حماس على قطاع غزة وقدراتها العسكرية.
بعد فشل آخر جولة من المفاوضات ظهرت أربعة
مسارات لإنهاء الحرب، تسير بشكل متواز، وأحيانا بشكل متصادم في الرؤية، لكن التركيب الحاصل من دينامياتها، يسير في اتجاه تسريع وقف الحرب
بعد فشل آخر جولة من المفاوضات الجارية، ظهرت أربعة مسارات لإنهاء الحرب، تسير بشكل متواز، وأحيانا بشكل متصادم في الرؤية، لكن التركيب الحاصل من دينامياتها، يسير في اتجاه تسريع وقف الحرب.
المسار الإسرائيلي التقليدي، والذي يراهن على تشديد الضغط العسكري على حماس في رفح وغيرها من مناطق غزة التي قرر الجيش الإسرائيلي «تكرار» العمليات العسكرية فيها، لإجبار حماس على تخفيض سقف تطلعاتها، أو على الأقل المساهمة في مزيد من تقليص قدراتها العسكرية، وقد ظهر من خلال تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في الأسبوع الجاري، بداية الإقرار بانكسار أهدافه، خاصة حينما قال بأنه «فعل أقصى ما يمكن فعله في تقليص قدرات حماس القتالية وتصفية عدد من كتائبها العسكرية» لكن واقع العمليات العسكرية، وحجم الخسائر التي تكبدها الاحتلال مباشرة بعد شن العملية العسكرية على رفح، خاصة في شرقها، وفي جباليا وحي الزيتون، تبين محدودية هذا المسار، وأنه يقود إلى ما هو أسوأ من نتائج الجولة السابقة من المفاوضات.
المسار الأمريكي الجديد، والذي يراهن على تقديم مخرج آخر للاحتلال الإسرائيلي، فبدل الحديث عن حل الدولتين، وإقامة الدولة الفلسطينية، يتم إقناع الاحتلال الإسرائيلي اليوم، بمجرد تقديم تنازل تكتيكي، من خلال التصريح بأنه سيعمل على التمكين لخيار الدولتين، وبدل الرفض المطلق لفكرة إدارة غزة من قبل السلطة الفلسطينية، يتم إقناعه بالتخلي عن فكرة الإدارة الإسرائيلية لقطاع غزة، سواء مدنيا أو عسكريا أو أمنيا والانفتاح على خيارات أخرى يشترك فيها فاعلون فلسطينيون وعرب وأوربيون. بيد أن هذا المسار يصطدم بالتركيبة السياسية للحكومة الإسرائيلية، فالقبول بهذا الحل، يعني تفجير الحكومة اليمينية، وبالتالي وضعها في دائرة المساءلة.
المسار الثالث، ونعني به المسار الذي تمضي فيه محكمة العدل الدولية، والذي أدخل الاحتلال الإسرائيلي في حرج شديد وغير مسبوق، إذ لأول مرة يعلن فيه المدعي العام في المحكمة الدولية عزم المحكمة إصدار مذكرات توقيف في حق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت بجرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب، فهذا المسار القضائي، الذي تتلوه خطة إصدار المحكمة لقرار توقيف المعنيين بالأمر، ومحاكمتهما دوليا، أربك الحسابات الأمريكية، ودفعها للتحرك بسرعة من أجل فرملة المسار ومنع مترتباته السياسية، إذ بدأت فعليا تمارس ضغوطا شديدة على محكمة العدل الدولية وتفكر في خيارات للرد عليها.
والأهم من ذلك كله، أجبر هذا المسار واشنطن لتسرع من ضغوطها على الاحتلال الإسرائيلي لوقف الحرب، والانخراط في الرؤية الأمريكية لما بعدها، خاصة وأنها تعلم أن فصائل المقاومة الفلسطينية ربحت من هذا القرار تحييد استعمال المعاناة الإنسانية سلاحا لكسر إرادة المقاومة، وأن القادم في خيارات محكمة العدل الدولية هو إصدار قرار بوقف الحرب.
المسار الرابع، هو الذي انخرط فيه عدد من الدول الأوروبية، بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، ونقصد بذلك في خطوة أولى إسبانيا وإيرلندا والنرويج، والذي يعتقد أن تنسج على منواله دول أوربية أخرى أضحت ترى أن امتصاص الحراك الداخلي، وممارسة ضغوط فعلية على الاحتلال الإسرائيلي بعد إصراره على الاستماع فقط لمتطرفيه، هو القيام بهذه الخطوة وإجباره على مواجهة استحقاقاتها سياسيا.
واشنطن أبدت قلقها الشديد من هذه الخطوة التي باتت تسميها بالأحادية، لأنها تدرك أنها تسير في اتجاه معاكس لإرادتها، فهي اليوم لا تريد أكثر من اعتراف إسرائيلي بالالتزام المستقبلي للعمل بحل الدولتين، لكن اعتراف هذه الدول بالدولة الفلسطينية، يجبر الأمم المتحدة على قبول واقع اعتراف دولي بهذه الدولة، مما يعني إحراج الاحتلال الإسرائيلي، ووضعه أمام مسؤولياته الدولية.
في المحصلة، تقرر خلاصات هذه المسارات الأربعة هزيمة عسكرية وسياسية للاحتلال، ومحاولة إنقاذه بالخيار الأقل سوءا، أي الانخراط في الرؤية الأمريكية الجديدة، وهو ما لا يضمن له القضاء على حماس عسكريا ولا الوثوق بإمكان إنهاء سلطتها على قطاع غزة، ولا إدارته عسكريا أو مدنيا، وأن ما يمكن أن يحصل هو مجرد وعود مقابل وعود، أي وعود بالاندماج في المحيط الإقليمي (التطبيع مع السعودية) مقابل وعود بالمضي في اتجاه حل الدولتين، لكن ثمن ذلك أن يقدم الاحتلال حكومة نتنياهو قربانا لهذه الصفقة، وأن يمضي صفقة أسرى بأكثر شروط حماس.