يروي طبيب الأسنان الإسرائيلي وضابط الاستخبارات السابق، يوفال بيتون، كيف استقبل بداية عملية "طوفان الأقصى" في 7 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، قائلا إنه "كان يعرف على وجه اليقين من الذي دبر الهجوم، يحيى
السنوار، زعيم حماس في
غزة والسجين رقم 7333335 في نظام السجون الإسرائيلي منذ عام 1989 حتى إطلاق سراحه في 2011".
وقال بيتون إنه "كان يتعذب بسبب القرار الذي اتخذه قبل ما يقرب من عقدين من الزمن أثناء عمله في مستوصف السجن، عندما هرع لمساعدة السنوار الذي كان يعاني من مرض غامض وميؤوس منه"، وكيف أنه طلب من الإدارة الإسرائيلية الإفراج عن السنوار ضمن صفقة شاليط في 2011.
جاء ذلك بحسب ما أفاد به الطبيب لصحيفة "
نيويورك تايمز"، وكيف أن "الرجلين كونا علاقة من نوع ما، حيث إنهما كانا عدوين لدودين لكنهما مع ذلك أظهرا احتراما متبادلا وحذرا".
وكشف بيتون أنه عمل كطبيب أسنان ومن ثم كضابط استخبارات كبير في مصلحة السجون الإسرائيلية، وأمضى مئات الساعات في التحدث وتحليل السنوار، الذي تمكن خلال الأشهر السبعة منذ أكتوبر 2023 من الإفلات من القوات الإسرائيلية.
رأى بيتون أن "كل ما مر بينه وبين السنوار كان إلى حد ما بمثابة هاجس للأحداث التي ستحدث الآن"، معتبرا أنه "فهم الطريقة التي يعمل بها عقل السيد السنوار بشكل جيد أو أفضل من أي مسؤول إسرائيلي، لقد كان يعلم من تجربته أن الثمن الذي سيطلبه زعيم ’حماس’ مقابل الرهائن قد يكون ثمنا لن ترغب إسرائيل في دفعه".
ونقل التقرير قول السنوار ذات مرة لصحفي إيطالي: "السجن يبنيك، ويمنحك الوقت للتفكير في ما تؤمن به، والثمن الذي ترغب في دفعه مقابل ذلك".
وذكر التقرير أن رحلة السنوار بدأت عام 1989، بعد عامين من اندلاع الانتفاضة الأولى، احتجاجا على احتلال "إسرائيل" للضفة الغربية وقطاع غزة، وكان يبلغ من العمر 27 عاما وعمل رئيسا لجهاز الأمن والدعوة "مجد" الذي تعقب وعاقب
فلسطينيين متهمين بالتعاون مع المخابرات الإسرائيلية.
وكشف أن السنوار حاول الهروب عدة مرات، حيث إنه قام ذات مرة بحفر حفرة في أرضية زنزانته خلسة على أمل حفر نفق تحت السجن والخروج عبر مركز الزوار، ووجد طرقًا للعمل ضد "إسرائيل" مع قادة "حماس" في الخارج، وإدارة تهريب الهواتف المحمولة إلى السجن واستخدام المحامين والزوار لنقل الرسائل.
وأضاف أنه في كثير من الأحيان، كانت الرسالة "تدور حول إيجاد طرق لاختطاف جنود إسرائيليين لمقايضتهم بالسجناء الفلسطينيين"، وبعد سنوات، سيقول السنوار: “بالنسبة للأسير، فإن أسر جندي إسرائيلي هو أفضل خبر في الكون، لأنه يعلم أن بصيص أمل قد فُتح له”.
وأصبح السنوار يجيد اللغة العبرية، مستفيدا من برنامج جامعي عبر الإنترنت، وكان يتابع الأخبار الإسرائيلية لفهم عدوه بشكل أفضل، وقد أسفر التفتيش الروتيني لزنزانته عن عشرات الآلاف من الصفحات المكتوبة بخط اليد بالعربية، وهي ترجمات السنوار لسير ذاتية كتبها الرؤساء السابقون لجهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي "شين بيت".
"ادرس عدوك"
وفقا للدكتور بيتون، فإن السنوار قام خلسة بمشاركة الصفحات المترجمة حتى يتمكن السجناء الآخرون من دراسة تكتيكات الوكالة في "مكافحة الإرهاب"، وكان يحب أن يطلق على نفسه لقب "المتخصص في تاريخ الشعب اليهودي".
وقال السنوار لرفاقه ذات مرة: “لقد أرادوا أن يكون السجن قبرا لنا، وطاحونة لطحن إرادتنا وعزيمتنا وأجسادنا، لكن الحمد لله، بإيماننا بقضيتنا حولنا السجن إلى أماكن للعبادة ومدارس للدراسة".
بصفته طبيب أسنان في "إسرائيل"، تلقى بيتون أيضا تدريبا في الطب العام، وكثيرا ما كان يتم استدعاؤه لمساعدة أطباء السجن الثلاثة الآخرين، أو خياطة الجروح أو المساعدة في التشخيص الصعب، وعندما خرج من مقابلة مرضاه أوائل عام 2004 وجد العديد من الزملاء المرتبكين بشكل واضح يحيطون بالسنوار المشوش.
وكشف التقرير أن بيتون كان يعمل على إقناع السنوار وآخرين بالتعاون مع الباحثين الإسرائيليين الذين يدرسون "التفجيرات الانتحارية"، لكن في غرفة الفحص، لا يبدو أن السيد السنوار يعرفه عندما قال له: "من أنت؟".. "هذا أنا، يوفال".
ونقل التقرير عن بيتون قوله إن السنوار رد عليه قبل أن يصف أعراضه: "آه آسف – لم أتعرف عليك".
وكان يقوم إلى الصلاة ثم يسقط، وأثناء حديثه بدا وكأنه ينجرف داخل وخارج الوعي، لكن بالنسبة للدكتور بيتون، فإن العلامة الأكثر دلالة كانت شكوى السنوار من ألم في مؤخرة رقبته.
قال طبيب الأسنان لزملائه إن هناك خطأ ما في دماغه، ربما بسبب سكتة دماغية أو خُراج، كان بحاجة للذهاب إلى المستشفى، على وجه السرعة.
وتم نقله بسرعة إلى مركز سوروكا الطبي القريب، حيث أجرى الأطباء عملية جراحية طارئة لإزالة ورم في المخ قاتل إذا ترك دون علاج. وبعد بضعة أيام، زار الدكتور بيتون السنوار في المستشفى، بصحبة ضابط السجن الذي تم إرساله للتحقق من الترتيبات الأمنية، وكان على السرير وموصّلا بالشاشات وجهاز وريدي، لكنه مستيقظ، وحيانا وطلب السنوار من الضابط المسلم أن يشكر طبيب الأسنان.
يتذكر الدكتور بيتون قائلا: “طلب منه السنوار أن يشرح لي ماذا يعني في الإسلام أنني أنقذت حياته، كان من المهم بالنسبة له أن أفهم من أحد المسلمين مدى أهمية ذلك في الإسلام، وأنه مدين لي بحياته".
وجاء في التقرير أن السنوار نادرا ما تحدث إلى سلطات السجون الإسرائيلية، لكنه بدأ يجتمع بانتظام مع طبيب الأسنان لشرب الشاي والتحدث.
وكان بيتون رجلا ثرثارا ويتزاحم في كثير من الأحيان مع السجناء الآخرين، ويحثهم على التحدث عن عائلاتهم أو رياضاتهم، لكن مع السنوار، كان الحديث كله عبارة عن أعمال وعقيدة.
وقال بيتون: “المحادثات مع السنوار لم تكن شخصية أو عاطفية"، إذ كان يحفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب، وطرح بهدوء المبادئ الحاكمة لمنظمته.
وأضاف: “ترى حماس الأرض التي نعيش عليها على أنها الأرض المقدسة.. هذه لنا، ليس لديك الحق في العيش في هذه الأرض، عقيدته لم تكن سياسية، بل كانت دينية".
وأثناء تفتيش زنزانته، صادر الحراس رواية مكتوبة بخط اليد في نهاية عام 2004، بعد الجراحة، وكانت عن العلاقة بين الرجل والمرأة والأسرة في الإسلام، وتم تهريب نسخة واحدة منها على الأقل.
يذكر التقرير أن رواية "الشوكة والقرنفل" هي "قصة عن بلوغ سن الرشد تحدد حياة السيد السنوار: الراوي، وهو صبي متدين من غزة يدعى أحمد، يخرج من مخبئه خلال حرب عام 1967 إلى الحياة، تحت الاحتلال الإسرائيلي، وقسوة الاحتلال تتسبب في غليان صدور الشباب".
شخصية السنوار
وفي بئر السبع، كان السنوار بلا شك رئيسا للسجن، كما قال الطبيب بيتون، لكنه لم يظهر ذلك أو يتفاخر به، لقد كان زاهدا متواضعا يتقاسم واجبات الطبخ والأعمال المنزلية الأخرى مع نزلاء أصغر سنا.
وفي كل أسبوع أو نحو ذلك، كان يصنع كنافة مرتجلة، وهي حلوى فلسطينية مكونة من الجبن الحلو والمعجنات المبشورة المنقوعة في شراب حلو.
وقال بيتون إن "السجناء كانوا ينتظرون الكنافة دائما، لقد أحبوا ذلك حقا، وكذلك فعلت وفهمت أن كسر الخبز معا وسيلة لتعزيز العلاقة، لقد حاولت، وهو سمح بذلك، إنهم يجيدون فعليا كيفية صنع الكنافة".
ووصف الطبيب السنوار بأنه "قاس وماكر ومتلاعب، ورجل موثوق لديه القدرة على تجميع الحشود، يحتفظ بالأسرار حتى داخل السجن بين السجناء الآخرين، ومع ذلك، فقد كان هناك قدر معين من الصدق في المعاملات في محادثاتهم".
صفقة شاليط
وبعد عام 2007، حاول الطبيب توجيه العلاقات التي بناها مع السنوار وغيره إلى دور جديد، وذلك بعدما تقدم بطلب ليصبح ضابطا في جهاز مخابرات السجون، وبعد دورة قصيرة تم تعيينه في سجن كتسيعوت في عام 2008.
وأوضح أن الرجل الذي "لا يفهم دوافع وجذور عدوه، لن يتمكن من منع تلك المنظمات من فعل ما تريد".
وبعد عملية اختطاف جلعاد شاليط، حاولت الحكومة الإسرائيلية، التي تعمل من خلال قناة خلفية مع فريق من الوسطاء الدوليين، التفاوض على تبادل الأسرى، بينما تم تكليف بيتون باستخدام علاقاته مع قادة "حماس" المسجونين لجمع معلومات استخباراتية.
وبحلول عام 2009، وافقت "إسرائيل" من حيث المبدأ على تبادل 1000 أسير فلسطيني مقابل شاليط، في حين كان السنوار “يدير المفاوضات من داخل السجن مع مجموعة من الإخوة الذين كانوا معه أيضًا”.
وكانت هناك مشكلة واحدة فقط: على الرغم من وجوده في القائمة، إلا أن السنوار لم يعتقد أن الصفقة كانت جيدة بما فيه الكفاية، وفقًا لـ غيرهارد كونراد، ضابط المخابرات الألماني المتقاعد الذي شارك في التوسط في صفقة شاليط.
وقال كونراد إن السنوار كان يصر على تحرير “من سموا بالمستحيلين”، وهؤلاء هم الرجال الذين يقضون عدة أحكام بالسجن مدى الحياة، وهم رجال مثل السيد البرغوثي وعباس السيد، الذين كانوا العقل المدبر للهجوم في عيد الفصح الذي أدى إلى مقتل 30 شخصًا في فندق بارك.
وقال بيتون إن صالح العاروري، مؤسس كتائب القسام، الجناح المسلح لحركة حماس، وقائد أسرى الضفة الغربية، أدرك أنه "يتعين عليهم تقديم تنازلات – وأننا لن نطلق سراح الجميع، لقد كان أكثر واقعية".
وإدراكا منه أن الخلاف بين السنوار والعاروري يمكن أن يستخدم لدفع مفاوضات شاليط، فقد دفع الطبيب بيتون رؤساءه إلى التوقيع على خطة تهدف إلى تعميق الانقسام، من خلال جمع مسؤولي السجن لـ 42 سجينا من ذوي النفوذ في الضفة الغربية من ثلاثة سجون منفصلة ووضعهم قريبا من العاروري ليساندوه، لكن تبين أن الضغط على السنوار كان أصعب بكثير.
ورأى بيتون ما كان يواجهه في عام 2010، عندما حاول السنوار، وسط مفاوضات شاليط المتوقفة، إجبار جميع سجناء "حماس" البالغ عددهم 1600 على الانضمام إلى إضراب عن الطعام كان من شأنه أن يؤدي إلى مقتل العديد منهم.
ولم يكن الهدف حتى إطلاق سراح السجناء، بل مجرد إطلاق سراح اثنين من الحبس الانفرادي الطويل الأمد.. في تلك اللحظة، قال الدكتور بيتون، "أدرك أنه لن تكون هناك صفقة شاليط أبدا طالما بقي السنوار في الطريق".
قال بيتون: "كان على استعداد (يقصد السنوار) لدفع ثمن باهظ مقابل المبدأ، حتى لو لم يكن الثمن متناسبا مع الهدف".
وحتى بعد أن نجح مفاوضو شاليط في إقناع الإسرائيليين في عام 2011 بالإفراج عن سجناء إضافيين، ليصل العدد الإجمالي إلى 1027 - بما في ذلك بعض "المستحيلين"، وإن لم يكن جميعهم تقريبا - فقد ظل السيد السنوار معارضا.
ولكن بحلول هذه المرحلة، تم إطلاق سراح السيد العاروري من السجن وكان عضوًا في فريق التفاوض التابع لحركة حماس، بقيادة أحمد الجعبري، القائد الأعلى الذي قاد الغارة التي أدت إلى أسر شاليط.. وتحت ضغط من الوسطاء المصريين، خلص الفريق إلى أن هذه كانت الصفقة الجيدة التي سيحصلون عليها.
"لا تفرجوا عنه"
في 18 تشرين الأول/ أكتوبر 2011، وقف بيتون في ساحة سجن كتسيعوت، يراقب السنوار وهو يستقل حافلة متجهة إلى غزة، بعد أن شهد القوة المقنعة لقيادة السنوار عن قرب، كشف أنه حث المفاوضين على عدم إطلاق سراحه، إلا أنه تم نقض قراره، باعتبار أن زعيم "حماس" الحالي في غزة "لم تكن يداه ملطختين بالدماء اليهودية".
وقال بيتون: “اعتقدت أنك بحاجة إلى النظر إلى قدرات السجين لاستخدام قدراته ضد إسرائيل وليس فقط ما فعله – إمكاناته”.
وأشار الطبيب إلى لقطات الفيديو التي أظهرت السنوار عابسا في حفل استقبال الأسرى، ومن ثم خرج في مقابلة قال فيها: "لن ندخر أي جهد لتحرير بقية إخوتنا وأخواتنا، نناشد كتائب القسام أن تقوم باختطاف المزيد من الجنود لمبادلتهم بحرية أحبائنا الذين ما زالوا خلف القضبان".. لقد أخبرنا بما سيفعله.. لم نرغب في الاستماع".