كتاب عربي 21

تطبيع تسكنه الجغرافيا وجغرافيا يسكنها التطبيع.. قاموس المقاومة (28)

"تقضم الأرض وتتسع حدودها بمقدار ما تشنه من عدوان ظالم تقره منظومة دولية متواطئة"- الأناضول
لا زالت الجغرافيا تعطي دروسها في ضرورة المقاومة الحضارية والشاملة للتطبيع؛ بما تؤكده هذه الدروس من نشأة دولة إسرائيل المزعومة والمصطنعة.. أين كانت إسرائيل قبل العام 1948؟ إنها طارئة على جغرافيا المنطقة؛ نسجت منذ قيامها جملة من الأكاذيب المصطنعة بغطاء تاريخي مزعوم وبغطاء ديني مرسوم؛ وفي ظروف تاريخية مشبوهة ووجود يهودي في الحضارة الغربية مأزوم.

بدأ الأمر باصطناع دولة تسكنها عوامل فنائها لولا مصالح من اصطنعها ودافع عن وجودها وحمى عربدتها وعدوانها؛ وباسم الدولة القومية التي فرضت رسمها ضمن حدودها؛ فأين حدود دولة الكيان الصهيوني المزعومة؟ إنها تقضم الأرض؛ وتتسع حدودها بمقدار ما تشنه من عدوان ظالم تقره منظومة دولية متواطئة؛ جعلت مستحيلات إسرائيل ممكنات وممكنات العرب مستحيلات.

وإنني لأتدبر قول أستاذي المرحوم الدكتور عز الدين فودة؛ في منازعة حدودية، هكذا صُور الأمر للأسف الشديد حول شريط حدودي يسمى "طابا"؛ قبلت إسرائيل فيه التحكيم المُدعى لتثبت لنفسها وكيانها استحقاقا لها. صدع أستاذنا وبأعلى صوت رافضا مبدأ التحكيم المزعوم والمرفوض في حق معلوم؛ أنه "لا تحكيم في سيادة"، رافضا كل حيلة في قبول المساومة في حق وعلى حق.

بدأ الأمر باصطناع دولة تسكنها عوامل فنائها لولا مصالح من اصطنعها ودافع عن وجودها وحمى عربدتها وعدوانها؛ وباسم الدولة القومية التي فرضت رسمها ضمن حدودها؛ فأين حدود دولة الكيان الصهيوني المزعومة؟ إنها تقضم الأرض؛ وتتسع حدودها بمقدار ما تشنه من عدوان

إنها قصة حقيقة الجغرافيا التي لا يمكن أن ينازعها أحد أو يشكك فيها عاقل. وللجغرافيا قصص أخرى ترفض مع التاريخ الحق زيف الادعاءات التي يحملها التطبيع الجغرافي بأشكاله المختلفة؛ ومعنى الجغرافيا الشامل الذي لا يقف عند الحدود المكانية ويتعرف على مكنون المكان وما يحمله من قدرة ومُكنة ومرتبة ومكانة. من قصص الجغرافيا الشاملة التي تتمثل في هدف العدو الغاصب؛ العلاقة بين المركز والأطراف والتي يجب أن يعيها أصحاب الأرض والجغرافيا كما يعيها العدو الاستيطاني المحتل الغاصب في استغلاله هذه الاستراتيجية في تفكيك المنطقة وإعادة تركيبها وتشكيلها والحفاظ على تقسيمها وتجزئتها؛ ألا وهي إضعاف المركز وسياسات شد الأطراف، وتوهين القلب الجغرافي بالتأثير الفعال بشد الأطراف وتراكم إضعاف المركز.

هذه الخطة ليست بعيدة عن التطبيع استراتيجيات وأدوات؛ مجالات ومنظومات. تم ذلك تطبيعيا في مصر والدول المحيطة بالكيان وأرض فلسطين الضائعة والمغتصبة؛ باتفاقات الحصار لمقاومة فلسطين وقيام من كان عليه أن يقوم بإدارة صراع حضاري ومصيري ووجودي مع العدو الظاهر الفاعل بإحكام سياسات التبعية والتجزئة معا، ثم القيام بالتسلل الى الأطراف وتطبيعها مع العدو، فيزداد القلب إنهاكا وضعفا، ويقوى العدو قدرة وتمكينا ليفرض خطة سلامه المزعوم بعد أن حرث الأرض لاستسلام مضمون.

ففي قلب الجغرافيا تقع سياسات شد الأطراف العربية أولا ودول المحيط ثانيا، والتي تمثل المجال الحيوي لاستراتيجيات التطبيع وعملياته ضمن سياسات عدة يتبناها العدو ويعمل على امتدادها وتمكينه. مقال مهم يقع في قلب الجغرافيا المكانية والبشرية ضمن سياسات شد الأطراف وإضعاف المركز والقلب؛ كتبه الأستاذ القدير فهمي هويدي قبل ما يقرب من عشرين عاما (1 حزيران/ يونيو 2004) في صحيفة الخليج الإماراتية، مشيرا إلى تلك الاستراتيجيات الخطيرة المقترنة بسياسات شد الأطراف، والتي اتخذت أشكالا كثيرة وساحات خطيرة ضمن "توثيق علاقات التعاون والتحالف مع أهم الدول المحيطة بالعالم العربي، تطبيقا لسياسة "شد الأطراف" التي استهدفت إقامة ما عرف بحلف المحيط.

والدول التي توجهت إليها الأنظار هي تركيا أولا، وإيران ثانيا، وإثيوبيا ثالثا. وهو ما اعتبر -بحسب تعبير الكاتب- "الركن الركين في جدار السياسة الخارجية الإسرائيلية". في منتصف الخمسينات نجحت الجهود "الإسرائيلية" في إقامة علاقات خاصة مع تركيا في مختلف المجالات، بعد ذلك مباشرة بدأ التحرك صوب إيران، الذي أداره فريق من الخبراء "الإسرائيليين"، الذين كان بعضهم من أصول إيرانية. ولاستكمال بناء صرح "حلف الجوار" للاستعانة به للضغط على العرب وتهديد أمنهم، جرت اتصالات نشطة مع إثيوبيا، علنية وسرية، لكي تكتمل زوايا المثلث عند مركزه الجنوبي من الوطن العربي، بعدما اكتمل من ناحيتيه الشرقية والشمالية.

أشار هويدي إلى كتاب صدر بمناسبة انفصال جنوب السودان عن شماله، وخطورة ذلك من الناحية الجيوسياسية على المنطقة في سبيل تمكين مفهوم السلام الإسرائيلي أو الاستسلام العربي، وتطبيعه وتطويعه ضمن مسيرة خضوعه وخنوعه.

يقول هويدي: "الاعتراف "الإسرائيلي" الذي أعنيه وارد في كتاب من مئة صفحة صدر في العام الماضي عن "مركز ديان لأبحاث الشرق الأوسط وأفريقيا"، التابع لجامعة تل أبيب. عنوان الكتاب هو: "إسرائيل" وحركة تحرير جنوب السودان نقطة البداية ومرحلة الانطلاق. أما مؤلفه فهو ضابط سابق (عميد متقاعد) تبين معلوماته أنه وثيق الصلة بدوائر القرار في المخابرات "الإسرائيلية" (الموساد)، اسمه موشى فرجي".

ويضيف: "أهمية الكتاب تكمن في أمرين، أولهما أنه يشرح بالتفصيل الدور الكبير الذي قامت به المخابرات "الإسرائيلية" في مساندة حركة تحرير الجنوب، سواء على صعيد الإمداد بالسلاح والخبراء والمال. أو على صعيد حشد التأييد الدبلوماسي والسياسي لمصلحتها. الأمر الثاني الذي لا يقل أهمية أو خطورة أنه يشرح على وجه الخصوص بالتفصيل أيضا استراتيجية "إسرائيل" لإضعاف العالم العربي بوجه عام، وإضعاف مصر على وجه الخصوص".

"لعلي لا أبالغ إذا قلت -والكلام لهويدي- إن الكتاب في مجمله بمثابة تسجيل "بروتوكولات" الاستراتيجية "الإسرائيلية" في المنطقة. ذلك أنه يتضمن كما هائلا من المعلومات المثيرة التي تسلط الضوء على سياساتها وممارساتها في العالم العربي أفريقيا".

فمن جغرافيا المكان وحرث الأرض لتطبيعات مستقبلية، إلى جغرافيا البشر الذي تم مبكرا في محاولة هندسة القبول لهذا الكيان الدخيل المصطنع، وكان من الضروري تقليل مناعة الجسم والكيان العربي إلى درجاته الكبرى تم منذ إنشاء الكيان الصهيوني.

ومن هنا لا بد أن نتذكر كلمات بن جوريون القليلة والخطيرة الدالة على صناعة مثل هذه السياسات المتعلقة بالتعامل مع الأقليات: "نحن شعب صغير، وإمكانياتنا ومواردنا محدودة، ولا بد من العمل على علاج هذه الثغرة في تعاملنا مع أعدائنا من الدول العربية، من خلال معرفة وتشخيص نقاط الضعف لديها؛ وخاصة العلاقات القائمة بين الجماعات والأقليات العرقية والطائفية، بحيث نسهم في تفخيم وتعظيم هذه النقاط، لتتحول في النهاية إلى معضلات يصعب حلها أو احتواؤها".

هذا الكلام وجهه ديفيد بن جوريون، أول رئيس وزراء لـ"إسرائيل" إلى قيادات الجيش وغيرهم من عناصر المؤسسة الأمنية وأجهزة الاستخبارات والمهمات الخاصة. وفي أعقابه صدرت الأوامر إلى الأجهزة "الإسرائيلية" بأن تتولى الاتصال بزعامات الأقليات في المنطقة، وتوثيق العلاقات معها.

هذه الاستراتيجية تمثلت في عقد تحالفات مع الأقليات العرقية والطائفية في الوطن العربي، إذ اهتمت "إسرائيل" بإقامة علاقات خاصة مع الأقليات العربية، لا سيما تلك الأقطار المحاطة بدول غير عربية (العراق وسوريا والسودان). وقد رسم هذه السياسة في بداية الخمسينات فريق الخبراء الذي شكله بن جوريون.

واستهدفت السياسة العمل على تشتيت الطاقة العربية إما عن طريق افتعال المشاكل مع الدول العربية عبر دول الجوار غير العربية، أو من خلال التحالف مع الأقليات التي تعيش في تلك الأقطار، كالأكراد في العراق، وسكان جنوب السودان، والموارنة في لبنان، والدروز والأكراد في سوريا، والأقباط في مصر، وأقليات أخرى في دول عربية مختلفة. في ذات الوقت اعتمدت الرؤية الاستراتيجية الشاملة لنظرية شد الأطراف على ضرورة خلق اصطفاف سياسي متجانس ومترابط ومتحالف مع الغرب.

وحرصت "إسرائيل" على أن تقدم نفسها بحسبانها دولة تمثل امتدادا للغرب وعمقا استراتيجيا له، واعتبرت أن ذلك يشكل قاسما مشتركا لها مع تركيا، كما تعاملت مع إيران وإثيوبيا على أنهما دولتان تدينان بالولاء للغرب. وفي سعيها لإبراز عوامل التشابه أو التطابق بينها وبين دول الجوار، فإن "إسرائيل" أرادت أن تكسر جدار العزلة السياسية التي فرضت من حولها، لأن تعاملها مع دول الجوار غير العربية من شأنه أن يوفر لها إمكانية التحرك إقليميا ودوليا باعتبارها دولة عادية في المنطقة.

وفي هذه النقطة نبه الكتاب إلى أن تحقيق "إسرائيل" غاياتها السياسية في استراتيجية شد الأطراف لم يكن يتأتى لولا مساعدة القوى الغربية التي وجدت أن مصالحها تتوافق مع إقامة هذه الشبكة من التحالفات. ولذلك فإن جميع اتفاقات التعاون في مختلف المجالات بين "إسرائيل" والدول الثلاث لقيت دعما غير محدود من جانب الولايات المتحدة وبريطانيا بوجه أخص.

هذه القراءة الجيوسياسية للتطبيع التي لا تزال تمتلك أهميتها يمكنها أن تفضي بأسرارها ومكنوناتها والوعي بآثارها ومآلاتها. وللحديث بقية.

x.com/Saif_abdelfatah