كنت أحد المحظوظين الذين أتيحت لهم الفرصة لزيارة
معظم مؤسسات الاتحاد الأوروبي الرسمية من برلمان للمفوضية للكثير من السفراء وحتى
الوزراء، وصولا لمؤسسات المجتمع المدني والنقابات، وذلك في أعقاب الإفراج عني من
قبل نظام
الأسد المجرم نهاية 2011.
كانت النقطة الأساسية التي ركزتُ عليها في جميع تلك
اللقاءات هي: مدى إمكانية فصل السياسة الخارجية الأوروبية، فيما يتعلق بسوريا، عن
المسار الأمريكي المتعلق بالملف السوري أو بمعنى آخر: هل هناك أي إمكانية أن لا
يصطف الأوروبيون كعادتهم خلف الأمريكان.. فقط فيما يتعلق بالملف السوري، إذا ما
أرادوا أن يقفوا على الجانب الصحيح من التاريخ وأن يكونوا صادقين مع أنفسهم بتمثيل
قيم الحضارة والمدنية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
بعض المسؤولين الذين التقيت بهم التزم الصمت
المريب تجاه هذا المطلب وعقد الحاجبين في محاولة منه للفرار من هذه الجزئية..
وهناك من هو أكثر جرأة فاعتذر علنا، مبررا موقفه بأن الاتحاد الأوروبي 27 دولة ولكل
منها حق النقض ومن غير الممكن تتفق كلها على سياسات موحدة، وأن ليس أمامها سوى
الاصطفاف خلف الحليف الأمريكي في مجال السياسة الخارجية.
وهناك من استرسل وناقش الموضوع مستوضحا عن السبب،
فكنت أحاول تلطيف الأمر بالقول:
سوريا محكومة بالجوار الإسرائيلي والولايات
المتحدة محكومة "قسرا" بالإذعان للتوجهات الإسرائيلية فيما يتعلق بدول
جوارها، ونحن السوريين نعلم يقينا أن تلك الأوامر أو التوجيهات (المفروضة عنوة والموجهة
من تحت الطاولة) لن تكون في صالح الشعب السوري اليتيم وأننا سنمثل مستقبلا الطرف
الأضعف في المعادلة فيما لو استمر النزاع على السلطة في سوريا، وهو من الواضح أنه إسرائيل
تسعى إليه ومن خلفها أمريكا، وهو ما سيسهل مستقبلا بناء التسويات على حساب حلم
السوريين بإقامة دولة قابلة للحياة على "حدود إسرائيل" والتي من
المستحيل أن يتحملها التيار اليميني المتطرف الجارف في إسرائيل.
سرعان ما ترتسم على محيّا المسؤول الأوروبي علامات
الارتباك والخجل، وتراه يشحذ أفكاره لإيجاد المخارج للفرار من هذه الجزئية والانتقال
لفضاءات البحث في نقاط أخرى لا جدوى منها.
اليوم وبعد ما ينوف عن 13 عاما دفع السوريون ثمنا
فادحا لتلك التبعية الأوروبية للأمريكان وبأثر تراكمي، لا سيما بعد أن أينع وأثمر
الجذر التدميري للثورة السورية الذي زرعته إدارة باراك أوباما وعلى مدى ولايتين؛
لعب خلالهما وزير خارجيته جون كيري الدور الرئيسي في جعل حلم السوريين بالتخلص من
الاستبداد والطغيان بعيد المنال.
وقد استمعت في هذا الصدد إلى شهادة مرعبة من
المعارض السوري رياض سيف باعتباره كان رئيسا للائتلاف المعارض والهيئة العليا
للمفاوضات في تلك المرحلة التي كان فيها جون كيري يمسك فيها بتلابيب الملف السوري،
ويوزع الأدوار على بقية الأطراف الدوليين من روس وإيرانيين وأوروبيين ويتستر
بالطبع على دور المرشد الأعلى الإسرائيلي.
وكم تمنيت التركيز على تلك الناحية في شهادة سيف
أمام تلفزيون سوريا بدلا من أخذ الحديث باتجاه الشورتات والأحذية الرياضية!
وها هو الرئيس الحالي بايدن يكمل مسيرة أوباما وكيري
مع تحسن ملحوظ على مستوى الخطاب، بحيث يعطيك من طرف اللسان حلاوة ويروغ منك كما
يروغ الثعلب.. فلا خير في ود امرئ متملق حلو اللسان وقلبه يتلهب.
اليوم وبعد ثلاثة عشر عاما من المجازر التي
اقترفها بشار الأسد بحق السوريين، والتي بذل الغرب جهده لإخفاء أعداد ضحاياها
الحقيقيين وطمس معالمها، بدءا بحظر المفوضية السامية لحقوق الإنسان التابعة للأمم
المتحدة من قبول تسجيل قيود الضحايا من خيرة شباب سوريا لسنوات طويلة في ملفاتها
بحيث لا يتجاوز العدد الرسمي 350 ألف ضحية، وهو الرقم المتفق عليه ما بين صناع
القرار الدولي والذي لا يُسمح بتجاوزه، وليس انتهاء بمصادرة أرشيف مجازر بشار
الأسد الموثقة بالسمعي والبصري والتي دفع السوريون دما وعذابات ثمنا لها؛ من قبل منصة
يوتيوب الأمريكية، والتي تتكتم على كل تلك الفيديوهات وتمنع إعادتها لمصدرها أو
إطلاع الغير عليها بذريعة أنها مخلة بالمعايير اليوتيوبية..
ها هي الاستراتيجية المرسومة للطاغية السوري بدأت تؤتي ثمارها بعد كل تلك الفظاعات، فها هو ينجح وداعموه في رسم وتدشين ملامح مدرسة جديدة بالإجرام واغتصاب نظام الحكم عنوة؛ يسيل لها لعاب العتاة الطغاة والمستبدين عبر التاريخ
رغم كل ذلك فإن التقديرات الأولية تشير إلى أن
أعداد الضحايا السوريين الذين قتلهم النظام السوري خارج إطار القانون يتجاوز
المليوني ضحية، وتشريد نصف السكان، هذا عدا عمن اعتُقل واغتُصب واختفى وعُذب، وغير
ذلك من القباحات، بالإضافة طبعا لبنية تحتية لدولة تم تدميرها بالبراميل المتفجرة
الغبية العشوائية على مدى أكثر من عقد من الزمان؛ اجتمع خلالها مجلس الأمن أكثر من
عشرين مرة بعد أن سحب البساط من تحت الجمعية العامة للأمم المتحدة وهمّش دور
المجتمع الدولي بأكمله، وأصدر خلالها مجلس الخمسة المستفردين بالقرار الدولي 17
فيتو متفقا عليه فيما بينهم ومدفوع الأجر للرئيس الروسي من قبل الطاغية الأسد الابن
ونظامه المستبد.
وها هي الاستراتيجية المرسومة للطاغية السوري بدأت
تؤتي ثمارها بعد كل تلك الفظاعات، فها هو ينجح وداعموه في رسم وتدشين ملامح مدرسة
جديدة بالإجرام واغتصاب نظام الحكم عنوة؛ يسيل لها لعاب العتاة الطغاة والمستبدين
عبر التاريخ.
فبعد أن تجاهل سفاح الشام جميع الانتقادات والإهانات
اللفظية لحقبة من الزمن، تضاءل اهتمام العالم بمأساة السوريين لا سيما بعد اندلاع
أحداث جديدة ملأت الفراغ الإعلامي وساحة الاهتمام العام، وشيئا فشيئا تحول الوجود
السوري في دول الجوار إلى حمل ثقيل بتحريض من زبانية الثورات المضادة لا سيما في كانتونات
الفشل والعنصرية المحيطة بسوريا.
وفي اللحظة السياسية الفارقة وبعد أن ملّ الرأي
العام العالمي من دماء السوريين، تم استخدام أحد أذرع إسرائيل في المنطقة (الإمارات)
لكسر الحصار عن الأسد وإعادته لحظيرة جامعة حكام الدول العربية بتوافق مع بقية أتباع
إسرائيل في المنطقة، سواء العراق المحتل أو مصر المنكوبة أو بلاد الحرمين المنهوبة،
حتى أنهم اشترطوا عليه في اجتماع القمة الأخير في البحرين أن يلعب دور عمود الشارع
ويأخذ وضعية الصامت كي لا يثير الغثيان فيما إن فتح فمه.
غني عن الذكر أنه لا يمكن تصور أنه يمكن لهؤلاء
الأركوزات أن يتصرفوا من عندياتهم، بعيدا عن أوامر وإملاءات تل أبيب.
خلال تلك المراحل كانت إدارة بايدن تصدر قوانين
العقوبات الاقتصادية على النظام المجرم ذرا للرماد في العيون وحفاظا على حسن
صورتها أمام الرأي العام العالمي، لكنها في ذات الوقت كانت تمنح الضوء الأخضر من
وراء الكواليس للمشاريع الاقتصادية المشتركة مع النظام المجرم (خط الغاز
الإسرائيلي مثلا)، وتنظر بعين العطف لمندوبي الدولة العبرية للتطبيع مع الأسد، وتتجاهل
مصير ملايين اللاجئين السوريين الذين تحولوا لأهداف مشروعة للمتطرفين في لبنان أو في
العراق، أو الذين اختفى الآلاف منهم أثناء تسليمهم للسلطات السورية سواء في
المعابر الحدودية أو في مطار دمشق دون أدنى رادع ديني أو قيمي أو قانوني أو أخلاقي..
وهكذا تحولت سوريا إلى بلد منسي وشعبها اليتيم إلى عبء على الإنسانية ومكان صالح
لاقتراف جميع أشكال الإجرام والقباحات بحقه.
ومنذ حوالي شهرين أقر الكونغرس الأمريكي بأغلبية
ساحقة (389 صوتا) قانون لمكافحة التطبيع مع الأسد والذي كان من المفترض أن يحل محل
قانون قيصر الذي سينتهي قريبا.
تأتي هذه المكرمة الأمريكية من إدارة بايدن للطاغية الأسد الابن نتيجة لمواقفه غير المعلنة الداعمة والمؤيدة لحرب الإبادة المتطرفة على شعب غزة اليتيم، وبالتالي وفي لحظة غدر تاريخية ونتيجة إيماءة إسرائيلية (لريموت كونترول) بأن الأسد يضبط الشارع السوري كما ينبغي
وقد سعى رئيس مجلس النواب لإدراج مشروع القانون
ضمن حزمة المساعدات التكميلية التي أقرها الكونغرس، لكن البيت الأبيض اصطفى وانتقى
هذا القانون من بين حزمة من قوانين العقوبات الاقتصادية الأخرى واعترض عليه وقرر
إزالته منفردا من بين تلك الحزمة التكميلية، رغم الأغلبية التي يتمتع بها من قبل
كلا الحزبين الحاكمين بالتناوب في أمريكا، علما أنه ما لم يتم إقرار هذا القانون
حتى نهاية العام الحالي فإن جميع الضغوط الاقتصادية على النظام السوري المجرم والتي
جاءت أصلا لذر الرماد في العيون من خلال قانون قيصر؛ سيتم رفعها.
تأتي هذه المكرمة الأمريكية من إدارة بايدن
للطاغية الأسد الابن نتيجة لمواقفه غير المعلنة الداعمة والمؤيدة لحرب الإبادة المتطرفة
على شعب غزة اليتيم، وبالتالي وفي لحظة غدر تاريخية ونتيجة إيماءة إسرائيلية (لريموت
كونترول) بأن الأسد يضبط الشارع السوري كما ينبغي ويمنع خروج أي شكل من أشكال
التعبير عن الرأي في المناطق التي يسيطر عليها، بعكس ما هو الحال عليه في المناطق
التي يسيطر عليها الجيش الوطني، قامت إدارة بايدن ودون أن يهتز لها جفن بحرف
السياسة التي زعمت لسنوات أنها تستعدي الأسد وزمرته، واستلت القانون الذي كان
يستهدفه من بين حزمة القوانين التكميلية وأعادته دون توقيع.
السياسة الأمريكية المواربة تجاه الأسد ألقت
بظلالها السلبية على السياسة الأوروبية تجاهه، فقد انعقد منتصف الشهر المنصرم مؤتمر
إغاثي دولي لسوريا في بروكسل؛ سُمح فيه بكلمتين متلعثمتين بدقيقة واحدة لأحد
المعارضين السوريين ذرا للرماد في العيون، وانتهى المؤتمر بإقرار مساعدات لسوريا بقيمة
5 مليارات يورو، دُفع منهم عمليا 3.5 مليار.. فمن هي سوريا التي تلقت تلك
المساعدات يا ترى..؟
أولا: رئيس الحكومة اللبناني ونتيجة الخبرة
التراكمية بأعمال التسول على حساب اللاجئين السوريين، كان خلف الباب في حالة
انتظار، وما أن انفض المؤتمر حتى استل من رأس الغلة مليارا، وعاد مسرعا إلى الأراضي
اللبنانية التي يُعتدى فيها على اللاجئين السوريين يوميا بالتوافق والتنسيق ما بين
حكومته وعناصر القوات اللبنانية وميليشيا الكتائب اللبنانية. والطريف أنه في اليوم
التالي أصدر ميقاتي قرارا بإلغاء الإقامات المؤقتة للسوريين وتسريع عمليات تسليمهم
للنظام المجرم في دمشق، والذي بدوره قتل بعضهم وأخفى مصير الآخرين، وما زالت فصول
الجريمة اللبنانية قائمة وتتوسع في كل يوم.
ثانيا: مليار آخر ذهب إلى الأردن التي يقيم على
أرضه أكبر مخيم اعتقال جماعي صحراوي للاجئين السوريين.
ثالثا: بقي لدينا مليار ونصف استولى بشار الأسد
وزوجته أسماء الأخرس وزبانيتهما على 90 في المئة منه عن طريق المفوضية الأوروبية.
بقي للشعب السوري اليتيم 150 مليون يورو ذهب
معظمها لما يسمى المجتمع المدني، على اعتبار أن لدينا اليوم أكثر من 24 ألفا ما
بين جمعية ومركز ومنصة وهيئة ومنظمة ودكانة.. الخ، تضم بين طياتها جيشا من أنصاف
المثقفين والمتفزلكين والمتنطعين، والأعم الأغلب منهم يعمل حاليا على تخدير
السوريين وتحسين صورة الغرب وإرساء ثقافة جلد الذات السورية، وإن تبقى شيء بعد ذلك
- اللهم إن تبقي- فهي للمصروفات الإدارية للموظفين الأجانب.
بطبيعة الحال، فإن موقف الحكومة اللبنانية أثار
استياء بقية الدول المستضيفة للاجئين السوريين، مما اضطر الدول الأوروبية لتوسعة
المساعدات وإعادة الحسابات على أسس سياسية وفقا لأغلب التكهنات، بحيث حصل الأردن
على أكبر حصة 2,1 مليار يويو، ومن ثم مصر 1,4 مليار، ولبنان 1,3 مليار، وتركيا
المغضوب عليها على مليار واحد، و2,2 مليار للسوريين في سوريا، أو بتعبير أصح لبشار
الأسد وزوجته أسماء وما تبقى -إن تبقى- فهي من نصيب 5,7 مليون لاجئ ممن شردهم بشار
الأسد.
على جانب متصل، فإن التبعية الأوروبية للسياسة
الأمريكية في الملف السوري أفضت لفقدان فرنسا أعز ما تملك ألا وهو: سيادة القانون
واستقلال القضاء والمؤسـسات. فعلى سبيل المثال، وبعد عقود طويلة صال فيها وجال
رفعت الأسد بمئات ملايين الدولارات التي نهبها وسلبها من الشعب السوري اليتيم في
ملاذه الباريسي الآمن، سارعت السلطات الفرنسية بعد اندلاع ثورة الكرامة في دمشق وذرا
للرماد في العيون لتحريك الدعوى العامة بحقه بجرم "التهرب الضريبي"، وصدر
حكم مبرم بحقه بالسجن لأربع سنوات ونصف. وبالفعل ألقت المخابرات الفرنسية القبض
عليه تنفيذا للحكم القضائي المبرم الصادر بحقه، ولكن بدلا من اقتياده للسجن حولت
مسار السيارة واقتادته للمطار وتمّ تهريبه إلى مسقط رأسه، القرداحة، لينعم في أواخر
أيامه بالسلطة والثروة المغتصبة، فيما وضعت فرنسا يدها على مستحقات الشعب السوري
التي تركها رفعت الأسد خلفه من قصور وأرصدة ومقتنيات واحتفظت بها لنفسها، وبالتالي
السلطة التنفيذية الفرنسية أعاقت ومنعت تنفيذ الحكم القضائي وهربت المجرم المحكوم
عليه خارج البلاد.. وأين؟ في عاصمة النور باريس!
أكثر من ذلك وبالأمس فقط أصدرت محكمة جنايات باريس
حكما غيابيا بالسجن المؤبد على اللواء على مملوك واللواء جميل الحسن والعميد عبد
السلام محمود، وجميعهم من ملاك مخابرات أمن الدولة والمخابرات الجوية، وذلك بقضية
قتل وتعذيب مازن وباتريك الدباغ، الفرنسي الجنسية، والطريف في الأمر أن كلا
الإدارتين تابعتين مباشرة وفقا لمرسوم إنشائهما لرئيس الجمهورية بالذات وتتلقى
الأوامر مباشرة منه، وعلى الرغم من ذلك فقد رفضت أو تجاهلت محكمة الجنايات
الفرنسية إصدار الحكم الغيابي على المجرم الرئيسي بشار الأسد، علما أن علاقته
السببية بالجريمة واضحة كالشمس في كبد السماء واكتفت بمعاقبة الضباط الثلاثة ي ضمن
هيكلية النظام الأمنية الجديدة.
نعم إنه التسييس القضائي واستخدامه وفقا لما هو
مراد منه كأداة سياسية، وبالتالي نحن في مواجهة عدالة عوراء بعين واحدة وأين؟ في
فرنسا.
كلمة أخيرة في ذمة كل من أراد شرا بالثورة
السورية:
الشعب السوري فقدَ كل شيء بعد استيلاء العسكر على السلطة صبيحة 8 آذار/ مارس 1963، فقدَ السيطرة على ثروته وعلى جيشه الوطني وعلى مؤسساته الإعلامية القادرة على تسليط الضوء على الحقيقة، وأيضا على حقوقه الأساسية المدنية منها والسياسية والاجتماعية والاقتصادية وحتى الثقافية، ولم يعد لديه القدرة على المبادرة واستقلالية الأفكار، وهو ما يعول عليه محتكرو القرار السياسي الدولي لإعادته لحظيرة الطاعة الأسدية
الشعب السوري ضحّى كثيرا على مذبح الحرية والعدالة
وحقوق الإنسان على مدى ما يقارب من سبعين سنة من حكم الأسرة الأسدية.. الشعب
السوري فقدَ كل شيء بعد استيلاء العسكر على السلطة صبيحة 8 آذار/ مارس 1963، فقدَ
السيطرة على ثروته وعلى جيشه الوطني وعلى مؤسساته الإعلامية القادرة على تسليط
الضوء على الحقيقة، وأيضا على حقوقه الأساسية المدنية منها والسياسية والاجتماعية
والاقتصادية وحتى الثقافية، ولم يعد لديه القدرة على المبادرة واستقلالية الأفكار،
وهو ما يعول عليه محتكرو القرار السياسي الدولي لإعادته لحظيرة الطاعة الأسدية
التي يراها المتطرفون الليكوديون المآل الطبيعي لهذا الشعب؛ على اعتبارهم شعب الله
المختار وشعوب المنطقة أقل منهم شأنا.
نحن نؤمن بقوله تعالى: "لا تحسبن الله غافلا
عما يعمل الظالمون، إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار مهطعين مقنعي رؤوسهم لا
يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء".
- ها هي روسيا التي أحرقت
حلب يوما ما، تغرق بالرمال المتحركة الأوكرانية وتجتر الهزيمة والفشل وخيبة الأمل
- ها هي أمريكا تعاني
الأمرّين من الدب الداشر الروسي الذي بات على أبواب
أوروبا مهددا النظام العالمي،
بالاشتراك مع الصين ودول البركس، هذا عدا عن أزمة مجتمعية غير مسبوقة مع النخب
نتيجة السقوط الأخلاقي في ظل الأثر الكاشف للانصياع الأعمى لإسرائيل؛ المارقة
مقترفة الإرهاب الدولي وجرائم التطهير العرقي.
- ها هي إيران تتحول إلى
أيقونة الكراهية من قبل دول جوارها، وهي تتلقى الضربات كلما خرجت عن الدور المرسوم
لها أمريكيا وإسرائيليا بالسيطرة العقائدية -فقط- على العواصم التي تحتلها في المنطقة.
- وها هي عواصم الثورات
المضادة في حالة تدهور من سيئ إلى أسوأ وعلى جميع المستويات، مع أزمة ثقة هائلة وكراهية
منقطعة النظير ما بين السلطات الغاشمة القائمة فيها وشعوبها لا سيما بعد حرب غزة.
- ها هي أوروبا المريضة
المترهلة المهددة بالانقراض لبعض دولها (بريطانيا) تستيقظ لتجد الدب الروسي على
حدودها، وهي تفقد بالتدريج أهم مقومات صمودها الحضاري والإنساني (البعد الأخلاقي والقيمي).
- وأخيرا، ها هي إسرائيل تسقط أخلاقيا وعسكريا واجتماعيا
وعلميا وعلى جميع المستويات لاسيما بعد حرب غزة، وذلك على الرغم من جميع المحاولات
المستميتة من قبل داعميها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
يذكرني وضع إسرائيل اليوم بقصة سيدنا سليمان الذي
كانت تخافه الجن والشياطين المسخرون له، بينما هو يرمقها بعينيه متكئا على عصاه
لسنوات، إلى أن جاءت دابة الأرض (الأرضة) وهي من أصغر وأضعف مخلوقات الله وبدأت
تأكل العصا؛ فسقط سليمان وسط ذهول الجن الذين كانوا يخافونه ويرتعدون منه وينصاعون
له بشكل أعمى.
فأين ستذهب دعوات الثكالى والمغتصبات والمعذبين والمختفين
في زنازين بشار الأسد..؟
ستحل اللعنة على كل من تآمر على حلم السوريين بالانعتاق
من الاستبداد، ولعله التجسيد العملي لقوله تعالى: "ولولا دفع الله الناس
بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين".. صدق الله العظيم.