كشفت وثائق بريطانية أن شعبية الزعيم
المصري الراحل جمال
عبد الناصر أخذت بالتراجع قبل سنوات من حرب 1967 والتي أطلق
عليها "النكسة"، وهي الحرب التي خاضها عبد الناصر ضد
"إسرائيل" وخسر خلالها شبه جزيرة سيناء والضفة الغربية بما فيها القدس
وهضبة الجولان السورية، وتوفي بعدها بثلاث سنوات.
ووفق سجل وثائق وزارة الخارجية البريطانية،
فإن السفارة في القاهرة رصدت بعد ثمانية أعوام من ثورة 23 تموز/ يوليو عام 1952 في
مصر، دلائل على انهيار شعبية نظام ناصر بسبب "الإخفاقات في السياسة الخارجية"
وتحول المصريين "إلى الاهتمام بالشؤون الداخلية"، بحسب موقع "بي بي
سي".
وبحسب تقرير دبلوماسي قُدِّم إلى وزير الخارجية
البريطاني إليكس دوغلاس-هوم، فإنه بحلول عام 1960، شهدت "هيبة نظام الرئيس ناصر
انخفاضا حادا داخل مصر"، كما حدثت "زيادة مفاجئة في انتقاد طريقة الحكم وأدواته".
وفي تقرير كتبه عام 1961، أبلغ القائم بالأعمال
البريطاني في القاهرة كولين تي كرو وزيره بأن "الرئيس ناصر والثورة المصرية فشلا في تحقيق الفكرة المصرية المتعلقة بدورهما في العالم العربي عموما".
ونبه إلى أنه بفعل "فقدان الزخم الثوري،
حولت خيبة الأمل بشأن الشؤون الخارجية الاهتمام إلى الشؤون الداخلية"، التي قال
تقرير السفير إن ناصر "لم يبد في الآونة الأخيرة أنه على تواصل حقيقي بها".
كتب كرو تقريره، بعنوان "الجمهورية
العربية المتحدة: حالة النظام"، بهدف إطلاع لندن على الأحوال في مصر.
واستند التقرير على اتصالات الدبلوماسي
البريطاني مع شخصيات مختلفة في مصر ورصده لسياسات ناصر خلال عام 1960.
وأرجع كرو تقييمه السلبي لوضع النظام إلى:
تغلغل نفوذ المؤسسة العسكرية في إدارة البلاد، والاستياء الشعبي المتزايد من سياسات
الحكم.
في تقييمه إلى وزيره قال السفير البريطاني
في القاهرة إنه رغم العديد من إجراءات تغيير هيكل الدولة، فإن الجميع كان يعرف أن السلطة
الحقيقية هي في يد الرئيس ناصر والشخصيات التي اختارها هو.
وفيما يتعلق بدور الجيش، أكد كرو أن رجاله
"هم الفئة الأكثر رضا واستفادة من الثورة وهيكل السلطة في نظام ناصر". وقال
إنه "ليس لدينا سبب لافتراض أن الجيش، الذي هو الأساس الحقيقي للثورة والمستفيد
الأكبر منها، يشعر بخيبة أمل أو أنه غير راض".
ومع ذلك قال كرو في تقريره إنه "لا
يعتقد أن المصريين يعارضون الديكتاتورية"، وإن "معظمهم، باستثناء الذين استُبْدِلوا
أو تضرروا، يعتقدون أن عبد الناصر هو أفضل حاكم يمكنهم الحصول عليه".
كان ناصر قد أعلن أن أهدافه الرئيسية هي:
مضاعفة الدخل الوطني خلال 10 سنوات، وخلق مجتمع ديمقراطي اشتراكي تعاوني.
غير أن المتابعة البريطانية للوضع في مصر
رأت أن "قليلا من الناس يعتقدون أن الهدف الأول سوف يتحقق، وعددا أقل منهم لديه
أي فهم للثاني".
وكان محور الانتقاد هو "السلطة والمزايا
المكثفة والمتزايدة الممنوحة لضباط الجيش".
ورصد كرو وجود قبول عام بين المصريين لفكرة
أن "شغل ناصر وأصدقائه الضباط المناصب العليا أمر لا بد منه بسبب أصل وطبيعة ثورة
23 يوليو 1952".
إلا أن انتشار ضباط الجيش لم يقتصر على
هذه المناصب العليا، بل امتد إلى المستوى الأدنى. فالضباط من ذوي رتبتي العقيد والرائد
"يوجدون في مناصب رئيسية في كل إدارات الدولة" و"قليل من المدنيين يمكنهم
أن يناقشوا هؤلاء (الضباط) في قراراتهم".
وحتى الأجهزة الحساسة لم تُستَثن من انتشار
رجال المؤسسة العسكرية. فـ "فروع المخابرات القوية، خاصة المناصب الرفيعة فيها،
ملئت بضباط الجيش".
ولخص التقرير الدبلوماسي الوضع قائلا:
"من الصعب أن يتمكن مدني من الوصول إلى منصب ذي مسؤولية أو سلطة".
وطال وزارة الخارجية أيضا نصيب، إذ
"تدفق عليها ضباط جيش سابقون"، وأثار هذا "استياء" دبلوماسيين
مصريين لم يلتزموا الصمت. فكان "مفاجئا" للبعثة الدبلوماسية البريطانية في
القاهرة أن "أفرادا في الوزارة ينتقدون صراحة زملاءهم من هؤلاء الضباط السابقين".
ووفقا للمعلومات التي جمعتها البعثة، فإن
"الشعور بالإحباط نفسه موجود في معظم إدارات" الدولة.
وأجمل تقرير كرو الصورة العامة على النحو
التالي: بدا الأمر وكأن الجيش، وليس الطبقة المتوسطة في عمومها "هو الذي ورث المزايا
التي كانت الطبقة الثرية تتمتع بها في ظل النظام القديم".
لم ينصب الاستياء فقط على انتشار الجيش
في إدارات الدولة، بل على قدرات العسكريين أيضا. ولذا، نبه كرو إلى أن "الاستياء
كان سيقل لو أن الضباط المختارين للمناصب الكبرى يتمتعون بكفاءة لشغلها. فبعض الضباط
أمناء وأكفاء، لكن الغالبية يفتقدون إلى المعرفة، وهم غير أكفاء".
وواكب تغلغلَ الجيش في إدارات الدولة في
عهد ناصر سياساتُ خالفت وعود الثورة الأساسية.
ففي شهر أيار/ مايو عام 1960، أمّم ناصر
الصحافة المصرية، لتنتقل ملكية الصحف من الأفراد إلى الدولة. وتولت الحكومة تعيين رؤساء
مجالس الصحف الإدارية والتحريرية. ومهد ناصر لهذا القرار قبله بنحو عشرة أشهر، بتوجيه
انتقادات لاذعة للصحافة المصرية، واتهمها بالفشل في الاهتمام بقضايا الناس الكادحين
وبتقديم صورة تخالف الصورة الحقيقية لواقع المجتمع المصري.
وبسبب هذين القرارين وقّت المراقبون، وفق
تقرير كرو "التراجع في هيبة النظام" و"اهتزاز ثقة الكثير من المصريين
فيه"، كما "أثارا قدرا غير عادي من الاحتجاج، وأدهشا المدافعين عن النظام".
كان للقائم بالأعمال البريطاني تفسيره لما
حدث. فقال إن السبب الرئيسي لتآكل شعبية النظام هو أن "الرئيس ناصر والثورة المصرية
فشلا في تحقيق الفكرة المصرية المتعلقة بدورهما في العالم العربي عموما". وأضاف
أنه بفعل "فقدان الزخم الثوري، حَوَّلت خيبة الأمل بشأن الشؤون الخارجية الاهتمام
إلى الشؤون الداخلية"، التي شدد كرو على أن ناصر "لم يبد في الآونة أنه على
تواصل حقيقي معها".
أدى كل هذا إلى انتشار "الكراهية"
للنظام بين فئات مختلفة من المجتمع المصري، شملت "فلول الأثرياء من النظام القديم،
والأقليات، والمقيمين الأجانب ورجال الأعمال، والبائعين في المتاجر، وطبقات المهنيين،
والموظفين المدنيين والمحامين والأطباء والمهندسين وكل المثقفين المهتمين بالسياسة.
فهؤلاء "كانوا أول من كرهوا ثورة لم يُمكنهم أن يتوقعوا منها سوى المعاناة"،
ولذا فإن "استياءهم مزمن لا نهاية له، والحقيقة المهمة الوحيدة هي أن ثقتهم بدأت
أخيرا في الانحسار بمعدل أسرع.. وأصبحوا أخيرا أكثر سخرية ولامبالاة".
وبسبب سياسات القمع في عام 1960، لم يتوقع
الدبلوماسي البريطاني معارضة من جانب هؤلاء لناصر لأنه "يمكن قمعهم بسهولة إن
فعلوا". فرغم "وجود بعض حرية التعبير، فإن مصر تحمل ملامح دولة بوليسية"
و"لا توجد معارضة فيها".