دخلت ألمانيا سنتها الثانية في "نقطة التحول" في مجال الدفاع التي أعلنها
المستشار أولاف شولتس، في سنة 2022؛ بعد أن عززت انفاقها الدفاعي بالمليارات.
ونشرت صحيفة
"
فاينانشال تايمز" تقريرًا ترجمته "عربي21"، قالت فيه إن ألمانيا عززت إنفاقها الدفاعي
بالمليارات، بعد إعلان شولتس، وذلك بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية.
وأضافت الصحيفة،
أن مشكلة القوى البشرية هي التي تحظى
باهتمام أقل بكثير من العتاد الجديد والذخيرة الجديدة؛ فمع 181 ألف جندي عامل،
ينقص الجيش الألماني ما لا يقل عن 20 ألف جندي عما يقول قادته العسكريون إنه يحتاج
إليه لتنفيذ مهمته الحالية.
وذكرت أن هذا العجز هو واحد من أكبر النواقص في أوروبا، لكن
أرقام القوات من المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية تُظهر أنه ليس الوحيد.
وأفادت الصحيفة بأن المملكة المتحدة لم تحقق أهداف التجنيد العسكري السنوية كل سنة على مدار العقد
الماضي، وفي السنة الفائتة فقدت قواتها البرية 4000 جندي. ولا تزال القوات المسلحة
الفرنسية، التي تُعد الأكبر في أوروبا بـ 203,850 رجلاً وامرأة، تعاني من نقص في
الأعداد التي يقول الجنرالات إنها الأعداد اللازمة، وقد انخفضت بنسبة 8 بالمئة منذ
سنة 2014. وفي إيطاليا، تراجع حجم القوات المسلحة من 200,000 قبل عشر سنوات إلى
160,900 جندي اليوم.
وأوضحت الصحيفة
أن الحلفاء الأوروبيين في
الناتو يمتلكون - على الورق - 1.9 مليون جندي فيما
بينهم، وهو ما يبدو كافيًا لمواجهة روسيا التي تمتلك 1.1 مليون جندي و1.5 مليون
جندي احتياطي. ولكن في الواقع، ستواجه دول الناتو الأوروبية صعوبة في إرسال أكثر
من 300,000 جندي إلى أي صراع - وحتى في هذه الحالة، سيتطلب ذلك شهورًا من
الاستعدادات.
ونقلت الصحيفة
عن كاميل غراند، الزميل في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، وحتى عام
2022 مساعد الأمين العام لحلف الناتو، قوله: "كان التخطيط الدفاعي لحلف
الناتو في أوروبا لسنوات عديدة يدور حول "هل أنت مستعد لتقديم 300 من القوات
الخاصة لأفغانستان" وليس له علاقة بالحشود. وقد خلق ذلك ثغرات". ومع
استثناء اليونان وتركيا، "لقد شهدنا تقلصًا في القوات في جميع أنحاء القارة
سنة تلو الأخرى".
وأشارت الصحيفة
إلى أن بعض النواحي تعتبر الأعداد مقياسًا بدائيًا للقوة العسكرية، كما أظهرت
الأيام الأولى لغزو روسيا لأوكرانيا، ولكن حتى في الجيوش المتقدمة تقنيًا، تبقى
الكتلة مهمة إذا كانت هياكل القوة ضئيلة لدرجة أنها تفتقر إلى القدرة على امتصاص
الخسائر كما أن الردع أيضًا أمر ضروري.
وبحسب الصحيفة؛
يقول غراند إن تجنيد المزيد من الجنود الأوروبيين في أجنحة الناتو أصبح أكثر أهمية
في وقت لا يمكن فيه ضمان الدعم الأمريكي.
وأضاف غراند:
"إذا كانت هناك أزمة، فنحن نحتاج إلى أن نكون قادرين على إقناع الجانب الروسي
أنه ليس فقط الجيش البولندي هو الذي يقف في طريقهم؛ بل إن سلاح الفرسان قادم وهو
سلاح ذو مصداقية".
وأوضحت الصحيفة
أن مشكلة تقلص القوة البشرية العسكرية معروفة منذ بعض الوقت؛ ففي سنة 2013، وقبل
ثلاثة أشهر فقط من الحرب الروسية الأوكرانية واحتلالها شبه جزيرة القرم لأول مرة، أطلق
السير نيكولاس هوتون، رئيس أركان الدفاع البريطاني آنذاك، تحذيرًا علنيًا غير عادي
بشأن المشكلة التي تواجهها البلاد نتيجة نقص القوات.
وذكر هوتون، في
محاضرة ألقاها في المعهد الملكي للخدمات المتحدة في المملكة المتحدة، أن هيكل
القوات البريطانية يواجه خطر "عدم الترابط الإستراتيجي"، مضيفًا:
"معدات رائعة ولكن الموارد غير كافية لتشغيل تلك المعدات أو التدريب عليها".
وأضافت الصحيفة
أنه منذ ذلك الحين، تقلص حجم الجيش البريطاني بنسبة أخرى بلغت 19 بالمائة، ليصل
إلى حوالي 138,000 جندي، وفقًا لآخر إحصائيات وزارة الدفاع. ومع ذلك؛ فإن وزارة
الدفاع اليوم لديها ميزانية تزيد بحوالي 20 بالمائة بالقيم الحقيقية، وهي زيادة
يحتفل بها السياسيون بانتظام كمؤشر على الالتزام بالأمن الوطني.
وفقًا لبن باري،
العميد السابق والزميل البارز في المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية، كان من
المريح سياسيًا التركيز على تعزيز الميزانيات وبرامج التوريد المثيرة للإعجاب، لكن
قلة من صانعي القرار الوطنيين أرادوا مواجهة التحدي الأصعب المتمثل في تجنيد
المزيد من المواطنين للقتال.
ونقلت الصحيفة
عن كريستيان مولينج، رئيس مركز الأمن والدفاع في المجلس الألماني للعلاقات
الخارجية، قوله إن معدل الاستنزاف لم يكن مهمًا عندما كانت معظم العمليات تتعلق
بتحقيق الاستقرار في المواقع البعيدة. أما الآن فنحن نتحدث عن الاستعداد للمواقف
القتالية التي تعود فيها مشاكل من نوعية مختلفة: فمثلاً، بعد عدة أسابيع من القتال،
قد تكون وحدات جيشك المحترف قد سقط منها 50 بالمائة من القتلى أو الجرحى. ولم
نتعلم كيف نكون مستعدين لذلك.
وبعيدًا عن
الأرقام الرئيسية؛ فإن تناقص الكتلة يعني أن الأدوار الماهرة الحرجة في "نقاط
الضعف" - مثل تلك التي في الطب والاتصالات والهندسة والأمن السيبراني - معرضة
بشكل خاص للخسائر، وهذه هي الأدوار التي تحتاج الجيوش الأوروبية فيها إلى موظفين على
وجه السرعة. ويقول مولينج: "بمجرد أن تبدأ في تفكيك مشكلة الأعداد هذه، ستجد
أنه بعد كل باب، هناك باب آخر وراءه مشكلة".
وأفادت الصحيفة
أنه في السعي لجذب المزيد من المجندين المهرة، تبرز الأسئلة المتعلقة بالأجور ونمط
الحياة الأساسية؛ حيث يقول أليساندرو ماروني، خبير الشؤون العسكرية في معهد الشؤون
الدولية في روما، إنه في الماضي كانت الحياة العسكرية في إيطاليا "تنافسية
للغاية" مع الخيارات الأخرى في سوق العمل الإيطالي ولم يكن لدى القوات
المسلحة نقص في المجندين الراغبين في العمل.
ولكن اليوم،
يتمتع الشباب الإيطاليون بفرص أكثر بكثير وهي مشكلة تظهر بوضوح بين الخريجين ذوي
المهارات التكنولوجية العالية التي تتطلبها الحروب الحديثة؛ حيث يمكنهم بسهولة
العثور على وظائف أكثر ربحية توفر لهم تحقيق توازن أفضل بين العمل والحياة.
وبحسب ماروني فإن
جيل الشباب معتاد على السفر والدراسة في الخارج والبحث عن وظائف ليس فقط في
إيطاليا، والأشخاص الذين يتمتعون بمهارات عالية في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات
قادرون على العثور على وظائف أفضل في القطاع الخاص.
وقد توصلت
مراجعة هايثورنثوايت البريطانية لسنة 2023 إلى نتيجة مماثلة، وهي مراجعة كُلفت
بالتحقيق في كيفية مقارنة الوظائف العسكرية ذات المهارة مع تلك الموجودة في القطاع
الخاص.
وحذرت المراجعة،
في حزيران/يونيو الماضي، من أن منافسي القوات المسلحة يسعون إلى نفس المهارات التي
تتطور بسرعة، وغالبًا ما يكون لديهم المزيد من الأموال لمواجهة هذه المشكلة،
مضيفةً أن نهج القوات المسلحة الحالي "اقبل وارفض" يجب أن يتغير
جذريًا إذا أرادت المملكة المتحدة الاحتفاظ بقدراتها العسكرية.
ووفقًا لسارة
أثيرتون، وهي من قدامى المحاربين في الجيش البريطاني ووزيرة سابقة في القوات المسلحة،
فإن وزارة الدفاع تحاول تغيير الأمور، فالمال موجود، وقد أثيرت هذه المشاكل، وتم
أخذ الانتقادات على محمل الجد، ولكن لا يجب أن يكون هناك أي أوهام، فدول الناتو في
نفس الوضع، وربما أسوأ من ذلك.
وأشارت الصحيفة
إلى أنه إذا لم يختر المزيد من الأوروبيين الخدمة العسكرية، فقد تبحث حكوماتهم عن
طرق أخرى لتسجيلهم للخدمة العسكرية.
وقد ظل وزير
الدفاع الألماني بوريس بيستوريوس يروج لأسابيع لفكرته الكبرى، وهي أنه لسد العجز
في عدد القوات، ستحتاج ألمانيا إلى النظر في شكل من أشكال التجنيد الإجباري.
وعندما جاء الإعلان أخيرًا هذا الشهر، بعد أسابيع من التأخير غير المبرر، اعتبره
الكثيرون مخيبًا للآمال.
وتقترح برلين
إرسال استبيان إلى جميع الذكور الألمان البالغين من العمر 18 سنة لاستجوابهم حول
استعدادهم لأداء فترة الخدمة العسكرية ومهاراتهم، وبعد ذلك سيُطلب من عدد أقل حضور
تجمع للاختيار المحتمل حوالي 40,000 سنوياً، كما تأمل وزارة الدفاع.
وقد طرحت هولندا
أيضًا فكرة نموذج التجنيد الإجباري الهجين؛ حيث تأمل في تسجيل 2000 شخص في السنة
المقبلة لـ"سنة خدمة" من بين أولئك الذين يتمتعون بإمكانيات كافية يتم
تحديدها من خلال استبيان إلزامي حالي يتم إرساله إلى الشباب عند بلوغهم 17 سنة.
وأوضحت الصحيفة
أن كلا النهجين الألماني والهولندي يستلهمان أفكارهما مما يشير إليه مخططو الدفاع
باحترام على أنه "النموذج الإسكندنافي" للتجنيد الإجباري. ففي النرويج
والسويد، أثببت نماذج التجنيد الإلزامي العام الانتقائي نجاحًا كبيرًا. وكلاهما
إجراءان مستهدفان للغاية، ففي النرويج، يخدم فقط 14 بالمائة من المؤهلين للخدمة
العسكرية، وفي السويد 4 بالمائة فقط، وقد أضافت انتقائية التجنيد إلى مكانته؛ حيث
أصبحت الخدمة العسكرية نتيجة تنافسية يطمح إليها العديد من الشباب النرويجيين
والسويديين ذوي المهارات، وفقًا للاستطلاعات الوطنية.
لكن الخبراء
يقولون إن التجنيد الإجباري - حتى النماذج الهجينة الناجحة - لن يكون حلًا كاملًا،
وأن مسؤولي الدفاع والجيش يحتاجون إلى إلقاء نظرة أوسع على كيفية جعل المهنة
العسكرية أكثر جاذبية، وبحسب غراند، المسؤول السابق في حلف الناتو، فإن أحد أسباب
نجاح النموذج في النرويج والسويد هو أن الحياة العسكرية النظامية هناك تعتبر
مرموقة وذات قيمة.
وأضاف غراند:
"هناك مزيج كامل من العوامل التي تؤثر على جاذبية الخدمة العسكرية لبضع
سنوات. ويمكننا على الأرجح أن نتعلم الكثير من الدروس من بعضنا البعض عبر الناتو
حول ماهية هذه العوامل. والحقيقة هي أن تقديم دروس مجانية في القيادة لم يعد
كافيًا لجذب الناس".
وذكرت الصحيفة
أنه - أولاً - سيتعين على العديد من الجيوش الأوروبية أن تقوم بالأساسيات بشكل
صحيح. وفي جميع أنحاء القارة، تبرز مشكلة واحدة قبل كل شيء: الإقامة. ففي تقريرها
السنوي عن حالة الجيش الألماني، كتبت المفوضة البرلمانية إيفا هوغل هذا العام أن
الثكنات في جميع أنحاء البلاد في حالة من التدهور، وأشارت إلى أنه في بعض القواعد،
يضطر الجنود إلى دفع ثمن خدمة الواي فاي بالساعة.
وتابعت الصحيفة
بأن الظروف في بريطانيا مشابهة للغاية، ففي نيسان/أبريل وجد تقرير كيرسليك أن جودة
المساكن في القواعد البريطانية سيئة للغاية، وشملت المشاكل المستمرة
و"الواسعة الانتشار" "الرطوبة والعفن... وعيوب الغاز والكهرباء
وانتشار الآفات".
ومن حيث المبدأ؛
فإن الميزانيات العسكرية المتزايدة عبر أوروبا تحمل وعدًا بتحسين المرافق، ولكن من
الناحية التاريخية، فإن الأموال الجديدة كانت تتدفق نحو المعدات والمنصات الفاخرة
بدلاً من التجديدات غير المبهرة لمساكن الجنود.
وتعكس حالة
المساكن هذه مسألة ثقافية أوسع؛ حيث لا يزال الكثيرون يعتبرون الوظيفة العسكرية
اختبارًا "للتحمل"، ولكن هناك فرق بين النمو من خلال التحدي الشخصي
والمغامرة، وتحمل المعاناة الشخصية والمعيشية.
وأفادت الصحيفة
أن أحد أكثر العوامل التي يصعب فهمها، ولكنه عامل حاسم في أعقاب العدوان الروسي
واحتمال نشوب حرب واسعة النطاق، هو دور الوطنية في بناء الجيوش؛ حيث ترتبط
المجتمعات الأوروبية بقواتها المسلحة بأشكال متنوعة؛ ففي بولندا؛ حيث تأمل الحكومة
في زيادة عدد القوات إلى أكثر من 300 ألف جندي بحلول سنة 2035، يقول
المسؤولون العسكريون إن التاريخ الطويل من العدوان الروسي الذي شهدته البلاد يشكل
حافزًا قويًا للتجنيد.
ويقول اللواء
كارول موليندا، الذي يرأس عمليات الأمن الإلكتروني في القوات المسلحة البولندية،
إنه بالمقارنة مع الدول الأخرى، فإن بولندا تجد سهولة أكبر في جذب الوافدين الجدد،
فغالبية الشباب البولنديين على دراية بالحرب، وحقيقة أن الحرب الآن بجوار حدودنا
تزيد من عدد الشباب الذين يرغبون في الانضمام إلى القوات.
وفي مدرسة
ثانوية تقنية في مدينة كاتوفيتشي الجنوبية، قرر حوالي 80 من أصل 300 طالب
الاستفادة من عرض لتلقي ساعتين من التعليم العسكري أسبوعيًّا بدلاً من قضاء هذا
الوقت في تعلم تركيب الكابلات الهاتفية أو تركيب الألواح الشمسية، وانضم خمسة طلاب
إلى أكاديمية عسكرية بعد التخرج السنة الماضية.
وأضافت الصحيفة
أن الوضع مشابه في دول البلطيق؛ حيث المخاوف من الانتقام الروسي عميقة بنفس القدر،
مع ذلك فإن هذه الحالات استثناء للقاعدة، ففي ألمانيا المجاورة، تعرض بيستوريوس
لانتقادات شديدة لقوله مرارًا إن المجتمع بحاجة لأن يصبح "مستعدًّا للحرب".
ورغم وعود الحرب
العالمية الثانية، فإن العديد من الألمان لا يزالون ملتزمين بشدة بالسلمية؛ حيث من
المفهوم هنا أن للذاكرة التاريخية تأثيرا معاكسا.
وحتى في
بريطانيا، حيث الدعم الشعبي للجيش مرتفع باستمرار، توجد شكوك عميقة حول مواضيع مثل
الخدمة الوطنية، وقد قوبل اقتراح رئيس الوزراء ريشي سوناك بإعادة تقديمها
بانتقادات واسعة النطاق.
واختتمت الصحيفة
التقرير برأي باري، من المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، الذي يرى أنه لا يزال
هناك الكثير من الأعباء الثقافية السلبية حول القوات المسلحة، وهي مفاهيم عززتها
بشدة الحروب في أفغانستان والعراق. فيما يعتقد مولينج، من المجلس الألماني
للعلاقات الخارجية، أن المشكلة قابلة للحل، فالمزيد من الناس في أوروبا يعترفون
بخدمة القوات المسلحة، لذا يجب إيجاد طريقة لجعل الحياة المهنية في الجيش
مناسبة للناس.