أشرنا
في مقال سابق إلى تأليفات مهمة في كشف الضلالات عن الفكرة الإبراهيمية وعدم الوقوع
في شرَك الشبهات التي تحيط بمسألة وحدة الأديان؛ والدور المشبوه التي قامت به
وعليه هيئات تبدو في الظاهر كمؤسسات دينية بريئة تعمل في حقل حوار الثقافات والحضارات
ثم انتقلت بليل الى حوار الأديان. وبدا الأمر وفي توقيتات معينة أن ذلك هو مدافعة
لفكرة "صدام الحضارات" التي اخترعها "صمويل هنتنجتون"، كما بدا
لهؤلاء أن يستغلوا هذا الزخم الذي أحدثته تلك الفكرة التي ذاعت وانتشرت ورُوج لها
في مؤسسات وإقامة مؤتمرات وندوات؛ ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب لتمرير أفكار
خطيرة ومداخل خبيثة. وقد بررت فعلها آنذاك بمعزوفة عن الاستقرار الدولي والأمن العالمي؛
ووضعوا سؤالا مغرضا: هل يمكن تحويل الأديان من أداة صراعية؛ إلى أداة تنشر السلام
والاستقرار والتعايش؟
وتسللت
تلك الأفكار جميعا تحت جُنح الظلام وتسربت بين ثنايا الأديان وأهلها؛ ولا بأس أن
يجمع هؤلاء بين مثقفين وعلماء ورجال دين يمثلون رموزا لمؤسسات دينية للأديان
الثلاث. بدا ذلك بريئا في البدايات وانتهى إلى حالة من الدس والبث لحاخامات يهود يُحسبون
بصلاتهم على الكيان الصهيوني.
تسللت تلك الأفكار جميعا تحت جُنح الظلام وتسربت بين ثنايا الأديان وأهلها؛ ولا بأس أن يجمع هؤلاء بين مثقفين وعلماء ورجال دين يمثلون رموزا لمؤسسات دينية للأديان الثلاث. بدا ذلك بريئا في البدايات وانتهى إلى حالة من الدس والبث لحاخامات يهود يُحسبون بصلاتهم على الكيان الصهيوني
دُعيت
في مرة لمؤتمر حول حقوق الإنسان من هيئة دينية مسيحية وأسندوا لي عنوانا حول حقوق
الإنسان في الإسلام، إلا أن تلك الهيئة لم تتعامل بالشفافية الكافية واللازمة مع
من دُعوا للمؤتمر؛ فلم يوزعوا جدول المؤتمر إلا في الجلسة الافتتاحية؛ وقد احتوى
على موضوعات وأسماء ومؤسسات لم تخطر لي على بال؛ بل لو أن لديّ علم مسبق بذلك ما
تورطت بالاشتراك ولا عزمت على الحضور ولكان الاعتذار هو الموقف الصواب والأولى في
هذا المقام. وببحث بسيط وأنا جالس على جوجل عن حاخام يهودي آت من نيويورك كما ورد
اسمه في البرنامج المفخخ، عرفت أنه حاخام في خدمة الكيان الصهيوني؛ واكتشفت أنه
كان في زيارة للكيان الصهيوني قبيل أن يأتي لمصر. وقد عُنون بحثه بالرؤية اليهودية
لحقوق الإنسان؛ الأمر أوقعني في حرج شديد وفي تنازعات حول ما هو الموقف الصواب في ذلك
الحال! واستقر في نفسي أنني استُدرجت الى أمر خطير وشرَك محكم من تواطؤ الهيئة
الداعية؛ ومن موقف أُحيك بدقة ودُبّر بليل؛ وقد كان لديّ موقف مبدئي لا يتزحزح في
هذا المقام.
وبدا
لي أن الموقف ليس بالاحتجاج الانسحابي الذي قد لا يُعطى لي فرصة لفضح الأمر برمته؛
وهنا دُعيت أنا ومن سيشارك في الجلسة الأولى ومن بينهم الحاخام اليهوديّ الصهيوني
مرتديا لباسه الديني المتعارف عليه، بل إنهم وضعوني تحت عنوان التنظيم أن أكون
بجواره ضمن حالة ظاهرية من
التطبيع اللئيم؛ فاعتذرت عن الصعود للمنصة وجلست مكاني
في القاعة بين الحضور وقررت أن ألقي كلمتي من مكاني الجالس فيه. واشترطت وكانوا قد
وضعوا كلمتي قبله؛ ألا أتحدث الا بعده، واصفا إياه بالحاخام اليهودي الصهيوني،
وهنا ترقب الجميع معركة حامية الوطيس سواء من الجهة المنظمة أو من الحضور. تحدث في
البداية الممثل للمسيحية ثم تحدث الحاخام؛ مزورا كل الحقائق ومصورا اليهود أنهم
دعاة سلام وأمن واستقرار وأنهم الحَمل الوديع، ولم ينس أن يذكر الكيان الصهيوني؛
المستهدف من بيئة عربية وإسلامية تحيط به وتهدف الى قتل مواطنيه. وصادف أنه قبل
أسبوع قام أحد أبناء فلسطين بعملية كبير؛ هذه العملية كما هي العادة أدانها القاصي
والداني من بلاد الغرب الداعمة للكيان.
وهنا
كنت في سباق مع الزمن؛ أسمع التزوير بأذني وأبحث عن تفنيد الأغاليط الحاخامية؛ وفق
حجج دامغة وأرقام فاضحة وحالات فاضحة؛ كلها تشير إلى الكيان الصهيوني الاستيطاني
الغاصب والمحتل الذي احترف القتل والعدوان.
قلت
حينها في افتتاح الكلمة؛ إنني كنت قد أعددت بيانا مهما عن حقوق الإنسان في
الإسلام؛ أوضّح فيه تميز هذه الرؤية عما عاداها من رؤى، والورقة بين أيديكم بنصها
وفصها، ولذلك فإنني أعدت بناء كلمتي على نحو يتناسب مع المقام. ووجهت حينها ثلاث
رسائل فاصلة واضحة كاشفة فارقة؛ الأولى للجهة المسيحية المنظمة والتي فضحت
فيها سلوك تلك الجهة الذي اتخذ حال التلبيس والتعتيم لبلوغ هدف لئيم، سواء في
توقيت إعلامنا بجدول الندوة والمشاركين فيها أو توقيت إعلامنا بالجدول الخبيث، والثانية كانت للحضور إذ عرضت عليهم هذا التصرف المُدان بكل معيار، وأكدت مع هذا الوضع
الحق في عرض شفهي أرسله بعد ذلك مكتوبا لإدارة الندوة لتضمينه كتاب الندوة إن
نُشرت، والثالثة قمت بعمل بيان عن الكيان الصهيوني ونقده تأسيسا كدولة
احتلال تقوم على اغتصاب الأرض وهضم الحقوق؛ وحق الفلسطينيين في المطالبة بحق تقرير
المصير والتحرير وسلوك كل سبل المقاومة بما فيها المقاومة المسلحة. ووجهت خطابي
أخيرا للحاخام الصهيوني المتخفي بأنه نيويوركي وهو صهيوني حتى النخاع: يا هذا عد
لإخوانك وأبلغهم ألا سلام معهم وأن الصراع بيننا صراع مصيري وجودي؛ لا ولن ينتهي
إلا بزوال احتلالهم الاستيطاني. ثم لملمت أوراقي وخرجت على الفور لأنه لا يجوز
وجودي في مكان احتله ذلك الحاخام وبفعل تنظيم خبيث ومريب.
كان
المقصود من استعراض هذه الحادثة إثبات حال التخفي والتسلل والتزييف والتزوير؛ كمسالك تطبيعية مريبة ومتخفية ومسيسة من
مثل الفكرة الإبراهيمية، وبغض النظر عن هذه الحقيقة فإن الديانة الإبراهيمية كما
عبر عنها القرآن الكريم بـ"ملة إبراهيم" وارتباطها بالحنيفية الممثلة
للفطرة الإيمانية والإسلام الناظم والخاتم للأديان السماوية؛ هذا التعريف القرآني
نفى وبشكل قاطع أي مداخل للتلبيس والتسييس والتزييف والتزوير الذي يقطن كل
المحاولات الهادفة إلى التمويه على الإبراهيمية الحنيفية المسلمة؛ والدس عليها
وتسكينها ضمن ضلالة القرن الإبراهيمية القابعة في جوف استراتيجية صفقة القرن.
إثبات حال التخفي والتسلل والتزييف والتزوير؛ كمسالك تطبيعية مريبة ومتخفية ومسيسة من مثل الفكرة الإبراهيمية، وبغض النظر عن هذه الحقيقة فإن الديانة الإبراهيمية كما عبر عنها القرآن الكريم بـ"ملة إبراهيم" وارتباطها بالحنيفية الممثلة للفطرة الإيمانية والإسلام الناظم والخاتم للأديان السماوية؛ هذا التعريف القرآني نفى وبشكل قاطع أي مداخل للتلبيس والتسييس والتزييف والتزوير
والخلاصة
التي بينتها الآيات الكريمة في سورة البقرة: "ما كان إبراهيم يهوديا ولا
نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين" (آل عمران: 67)؛ أن
الطوائف الدينية السابقة تتنازع في إبراهيم -عليه السلام- وتدّعي كل واحدة أن
إبراهيم كان منها وعلى دينها.
فإبراهيم
وأبناؤه (الأنبياء) لم يكونوا يهودا، ولم يكونوا نصارى، ولم يكونوا مشركين، وإنما
كانوا مسلمين حنفاء. وكذلك جاءت آيات كريمة في سورة آل عمران في جدال ومحاجة
اليهود والنصارى، الذين زعموا أنهم على طريق إبراهيم عليه السلام ودينه وأبطلت
الآيات هذا الزعم وبينت من هم أولى الناس بإبراهيم، قال تعالى: "يا أهل
الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون
(65) ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله
يعلم وأنتم لا تعلمون (66) ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا
مسلما وما كان من المشركين (67) إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي
والذين آمنوا والله ولي المؤمنين (68)" (آل عمران: 65-68).
ولا
يخفى أن اختيار الغربيين للمصطلحات التي تكون عنوانا لدعواتهم المشبوهةِ يكون
مدروسا بعنايةٍ كبيرة، ومنها مصطلح "الإبراهيمية" الذي يتّسِم بالبريق،
والإغراءِ الكامن في استغلال الاسمِ النبويِّ الكريم، ورمزيةِ ومكانةِ أبي
الأنبياء إبراهيمَ عليه السلام، والخداعِ المتَستّرِ بالحديث عن المشترَك
الإبراهيميّ، الذي يُوارِي حقيقةَ المشروعات والتوجّهات الخطيرةِ الماحقة، فغدا
عنوانا ظاهِرُه يلمع بالرحمة، وباطِنُه يطفح بالهلاك؛ وتقف وراء "الديانة الإبراهيمية الجديدة أدوات متنوعة
ومراكز بحثية ضخمة وغامضة، انتشرت مؤخرا في ربوع العالم، وأطلقت على نفسها
اسم "مراكز الدبلوماسية الروحية"، ويعمل على تمويل تلك
المراكز أكبرُ وأهمُّ الجهاتِ العالمية، مثل: الاتحاد الأوروبيّ، وصندوق النقد
الدوليّ، والبنك الدوليّ، والولايات المتحدة الأمريكية"، كما يؤكد الدكتور
إسماعيل علي في بحث.
ومن أهم أهداف الترويج للديانة الإبراهيمية الجديدة تصفية
القضية الفلسطينية: تبرئة جرائم الاحتلال
الإسرائيلي؛ تجريم مقاومة الاحتلال؛ إﺗﻤام
مشروع اتفاق إبراهام وإعادة تشكيل الشرق الأوسط؛ إخفاء معاﻟﻢ العروبة
والإسلام لصالح الرؤية التوراتية
الصهيونية؛ قبول دور "إسرائيل" الحالي في
المنطقة؛ التهيئة للتنازل المستقبلي عن أراضٍ واسعة من بلادنا تحقيقا للأهداف
الصهيونية التوسعية والعدوانية.
تؤكد الورقة
السياسية "الإبراهيمية الجديدة خديعة أمريكية صهيونية"؛ صناعة حالة من السذاجة
والسطحية الثقافية لدى شعوب المنطقة، وتزييف التاريخ وتشويه وعي الأجيال القادمة..
وللهوامش البيانية في المسألة الإبراهيمية بقية.
x.com/Saif_abdelfatah