يشهد المجتمع
السوداني حالة من الاستقطاب في ظل
حرب أهلية طرفاها
الجيش السوداني بقيادة عبد
الفتاح البرهان وقوات
الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو، الملقب باسم
حميدتي.
ونشرت صحيفة
"
لوموند" الفرنسية تقريرًا تحدثت فيه عن الحرب في السودان، التي بدأت في
15 نيسان/أبريل 2023، وتسببت في انقسام المجتمع وانتشار الأسلحة أكثر من السلع
الأساسية.
وقالت الصحيفة،
في تقريرها الذي ترجمته "عربي21"، إن هذا الصراع يجلب الآن في طياته
جماعات مسلحة عديدة، ويتعين على العديد من المدنيين الاختيار بين التجنيد والذهاب
إلى المنفى، كما أن المجتمع يشهد حالة من الاستقطاب في الوقت الذي تنتشر فيه الأسلحة
أكثر من السلع الأساسية.
وفجر يوم 25
تشرين الأول/ أكتوبر 2021، هتف مئات الآلاف من المتظاهرين في انسجام تام "ثورة
الشعب. السلطة للشعب. ليعود الجيش إلى ثكناته ولتُحَل الجنجويد!"، مجتاحين
العاصمة السودانية الخرطوم، ردا على الانقلاب الذي قاده الفريق أول عبد الفتاح
البرهان ونائبه آنذاك محمد حمدان دقلو الملقب بـ"حميدتي".
وقبل ثمانية عشر
شهرًا من اندلاع حرب أهلية بين جيشي البلاد، كانت الشوارع السودانية قد أدركت
الخطر بالفعل. فقد طالبت الجماهير من خلال هذه الشعارات، بإقالة رئيس القوات
المسلحة السودانية من السلطة وحل قوات الدعم السريع التابعة للجنرال
"حميدتي" المنحدرة من مليشيات الجنجويد التي شاركت في الإبادة الجماعية
بدارفور في بداية العقد الأول من الألفينات.
وخلال الليل،
كان المجلس العسكري قد اعتقل أعضاء في الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء عبد
الله حمدوك، ما وضع حدا لفترة التحول الديمقراطي التي بدأت قبل سنتين، في سنة
2019، إثر انتفاضة شعبية ضخمة أطاحت بنظام عمر البشير العسكري والإسلامي بعد ما
يقارب ثلاثة عقود من الحكم.
بلد غير قابل
للحكم
بعد ساعات قليلة
من إعلان الانقلاب العسكري، امتلأت الشوارع بالحواجز، وأُعلن إضراب عام في المصانع،
بينما تضاعفت الدعوات إلى العصيان المدني من مآذن المساجد. بالتالي، فستظل البلاد
غير قابلة للحكم لعدة أشهر، في مواجهة حركة احتجاجية بقيادة لجان المقاومة التي
انتشرت في كل حي.
من خلال طرد
المدنيين، وجد أقوى جنرالين في البلاد نفسيهما في مواجهة خطيرة وجها لوجه. وبعد
فشلهم في الشوارع، وافتقارهم لأي قاعدة شعبية للحكم، اضطر الجنرالات الانقلابيون
إلى العودة إلى طاولة المفاوضات مع المدنيين. لكن المناقشات التي رعتها الأمم
المتحدة باءت بالفشل. وفي 15 نيسان/ أبريل 2023، اختار الجنرالات الحرب واشتعلت
النيران في البلاد.
منذ البداية،
تجاوز الصراع مجرّد التنافس البسيط بين جنرالين. لقد أعادت الثورة خلط الأوراق
السياسية. ودعا الشعب سلميا إلى تأسيس "السودان الجديد"، داعيا إلى هوية
سودانية متعددة تهتم بالأقليات العرقية والدينية، والحكم اللامركزي الذي يضمن
توزيعا أفضل للثروة، التي احتكرها لفترة طويلة الجيش ونخب الدولة.
مع ذلك، كما
تتذكر ريم عباس، من معهد التحرير لسياسة الشرق الأوسط: "منذ الاستقلال، أصبح
الفضاء السياسي السوداني عسكريا وقائما على التعاملات، حيث تقع السلطة على عاتق
الرجال الذين يحملون الأسلحة أو لديهم الموارد اللازمة لتحقيق الدخل. والصراع
الحالي هو جزء من هذه الاستمرارية".
ومن الآن
فصاعدا، تجلب الحرب في أعقابها عددا كبيرا من الجماعات المسلحة وعشرات الآلاف من
المدنيين الذين يلتحقون طوعا أو قسرا بأحد المعسكرين. في الأثناء، تنتشر الأسلحة
بشكل أفضل بكثير من المواد الغذائية الأساسية. في هذا السياق، علق المحلّل السياسي
السوداني مجدي الجزولي من معهد "ريفت فالي": "في مواجهة وحشية
الحرب، يصطف المدنيون خلف أكبر سلاح يمكن أن يحميهم".
صراعات محلية
متعددة
في كل مكان من
السودان، يتفكك النسيج الاجتماعي، ويشهد المجتمع حالة من الاستقطاب، ويضطر السكان
إلى اختيار أحد الجانبين أو الذهاب إلى المنفى. وتتحوّل الحرب إلى صراعات محلية
متعددة، ما يعيد إيقاظ التوترات القديمة بين المجتمعات العرقية، في دارفور على
وجه الخصوص، والتي يمكن أن تتحول إلى حلقة مفرغة من العنف. وبينما يستطيع قسم كبير
من الثوار الموجودين الآن في المنفى معارضة الحرب، رافضين دعم أحد الطرفين
المتحاربين، فإنه من الصعب على أولئك الذين بقوا في السودان الحفاظ على الحياد. أما
الخطابات المناهضة للحرب، التي وضعت الجنرالين في مواجهة واحدة، فهي غير مسموعة،
وكثيرا ما يُنظر إليها على أنها خيانة.
ومن المفارقة أن
نتيجة الصراع لا يمكن أن تكون عسكرية، بل إنها ستكون سياسية بالضرورة. ولم يتمكن أي من
أمراء الحرب من حكم البلاد حقًا، في حين أن استمرار الحرب جعلهما يفقدان كل شرعية
في نظر معظم المدنيين العالقين بين الطرفين.
وبحسب سليمان
بالدو، من المرصد السوداني للشفافية والسياسات، فإنه "في هذه الحرب العبثية،
لن يكون هناك منتصر. لا يمكن لأي اتفاق سلام أن يتحقق دون مشاركة ممثلين مدنيين من
قوى الثورة، ودون إصلاح المؤسسات السودانية".
وذكر كليمنت
ديشايز، الباحث في معهد البحوث من أجل التنمية أنه "إذا بدا أن الحرب قد دفنت
الثورة، فإنها لم تمحُ الماضي تماما". وسواء في المنفى أو في السودان، فإن
المجتمع المدني، الذي احتشد ضد سلطة البشير ثم ضد انقلاب البرهان
و"حميدتي"، لا يزال يطالب بلعب دور حاسم. وفي خضم القتال، فإن النفَس الثوري لا يزال ينبض.
وعلى خلفية تفكك الدولة، قام العديد من المواطنين، غالبا من
لجان المقاومة أو الأطباء أو الناشطين ذوي الخبرة أو المتطوعين البسطاء، بتشكيل
شبكات للمساعدة المتبادلة. وبينما توقفت الخدمات العامة وتعرضت البنية التحتية
للبلاد للتدمير، فإنهم ينظمون "خلايا طوارئ" تهدف إلى توزيع الغذاء
وعلاج الجرحى وإجلاء العائلات من مناطق القتال.
وقال سليمان
بلدو إن "البديل المدني موجود. يجب أن يحظى هذا الأمر بدعم مشترك من المجتمع
الدولي".
لكن السودان يغرق في غياهب النسيان. وبعد أن غض المجتمع الدولي
الطرف بالتساهل مع الجنرالات الانقلابيين، الذين اعتُبِروا ضمانة للاستقرار في
السودان، فإنه أصبح الآن يغض الطرف بشكل كبير عن الأزمة الإنسانية العالمية الأكثر
خطورة.