في لمح البصر انتقلت أبصار وأسماع العالم صوب المرشح الأمريكي والرئيس
السابق دونالد
ترامب الذي سقط متأثرا بما قيل إنه إطلاق نار أصاب جزءا من أذنه
وتلطخ بعض وجهه ببعض الدماء، كانت هذه الدماء كفيلة بتحريك الآلة الإعلامية العالمية وحرفها عما يجري في غزة التي يتم إبادتها
على مرأى ومسمع من العالم منذ تسعة أشهر ونيف.
نسي العالم ما يجري في غزة من دماء تسيل كل يوم وليلة وعلى مدار الساعة،
وتذكر تلك الدماء التي تناثرت على وجنة دونالد ترامب، نسي العالم الجثث والأشلاء
والبيوت التي تهدم فوق رؤوس أهليها والمستشفيات التي تدك عن عمد ومع سبق الإصرار؛
وجرى يستطلع أمر دونالد ترامب وكيف أن القناص الأمريكي أخطــأه رغم أن القناصة الأمريكان
يساعدون إخوتهم في الكيان لقتل الأطفال في غزة.
يمكن للمرء أن يتفهم انزعاج قادة العالم وساسته وتصريحاته المتعاطفة أو
المنزعجة أو المتخوفة على ما تبقى من
الديمقراطية الغربية المترنحة منذ عقود، ولكن
لماذا يخرج قادة عرب للتعبير بهذه الصورة المقرفة عن هكذا حادث وقد كان يكفيهم
الإدانة أو التضامن؛ مع التذكير بالدماء الأخرى التي تسيل بفعل ترامب وبايدن وبوش
وأوباما وما سواهم من حكام أمريكا؟
أمريكا ليست غريبة على
العنف والقتل واستخدام السلاح تحت أي ظرف، سواء كان
هذا الظرف سياسيا أو اجتماعيا، حتى أن جوليان زيليزار، أستاذ التاريخ والعلاقات
العامة بجامعة برينستون الأمريكية، كتب مقالا نشرته مجلة الفورين أفيرز في الرابع
عشر من تموز/ يوليو 2024، أي بعد يوم من محاولة اغتيال دونالد ترامب، قال فيه "لدى
أمريكا العديد من المميزات الرائعة ولكن العنف هو واحد منها". وينقل جوليان
عن أحد المؤرخين قوله:
هذا العنف الذي أصاب الحياة السياسية الأمريكية أصبح يعكس هذه الحياة ويشكل أحد علاماتها ومميزاتها وكأنه جزء من الفولكلور الشعبي
"هذا العنف هو ما شكل السياسة الأمريكية منذ أيام أبراهام
لينكولن الذي وحد شطري البلاد وحرر العبيد"، ولكنه دفع ثمن ذلك عمره إذ قتله
رجل أبيض من بني جلدته وثقافته أيضا، هو جون ويلكس بوث، في 14 نيسان/ أبريل 1865، ولم
يكن القاتل أسود ولا من الهنود الحمر ولا عربيا..!
هذا العنف الذي أصاب الحياة السياسية الأمريكية أصبح يعكس هذه الحياة ويشكل
أحد علاماتها ومميزاتها وكأنه جزء من الفولكلور الشعبي، أو كما قال أحد المؤرخين
الذي نقل عنه جوليان في مقاله المشار إليه؛ أصبح مثل فطيرة التفاح (مباحا ومتاحا).
هذا العنف الذي تسبب في إسالة الدماء في الطرقات والميادين والمسارح
والحفلات وفي الطرق وفي قاعات الكونجرس ومجالس المدينة في بعض الولايات وفي
المدارس؛ لم يستطع المجتمع الأمريكي ولم يجرؤ قادته على إنهائه أو التخلص منه،
ونلاحظ ذلك جيدا في عدم المساس بقوانين بيع وشراء السلاح التي تتيح لأي إنسان دخول
محل بيع السلاح وشراءه بسهولة.
لم يكن العنف الأمريكي منتجا للاستهلاك المحلي فقط خصوصا في المنافسة
السياسية، بل إنه أصبح سلعة قابلة للتصدير عبر القارات الخمس، فالحروب التي خاضتها
أمريكا منفردة أو مع حلفائها كلها عبارة عن جرعات من العنف والإرهاب واللاإنسانية
والاستخدام المفرط للقوة، وبدون وازع من ضمير ولا رادع من قانون.
العنف الذي تسبب في إسالة الدماء في الطرقات والميادين والمسارح والحفلات وفي الطرق وفي قاعات الكونجرس ومجالس المدينة في بعض الولايات وفي المدارس؛ لم يستطع المجتمع الأمريكي ولم يجرؤ قادته على إنهائه أو التخلص منه، ونلاحظ ذلك جيدا في عدم المساس بقوانين بيع وشراء السلاح
لو راجعت تاريخ العنف الذي استخدمته أمريكا في الحرب العالمية الثانية وكيف
قتلت بإلقائها القنبلة النووية على مدينتي هيروشيما ونجازاكي؛ عشرات الألوف من
البشر في غمضة عين دون أن يحرك ذلك لقادتها العسكريين ولا السياسيين جفن ولا رمش،
ولو نظرت كيف تعاملت أمريكا في فيتنام ولو سمعت روايات الناجين وشهادات الجنود على
ما قامت به أمريكا هناك، ولو عدت بالذاكرة إلى ما بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001
حين دكت القوات الأمريكية بغداد ومدن العراق في 2003، ومن قبل ذلك فعلت في
أفغانستان وقتلت الألوف المؤلفة وجرحت الملايين وتسببت في هجرة مثلهم، وكيف تفاخر
المحللون العسكريون بتصنيع أمريكا للقنبلة الجبارة التي عرفت بأم القنابل وإلقائها
على شعب أفغانستان لأول مرة -وهي قنبلة تزن 9.8 أطنان وتعتبر أضخم سلاح غير نووي في
الترسانة الأمريكية- لأدركت حجم العنف والكراهية واللا إنسانية في العقل الباطن
للأمريكيين وخصوصا الساسة والقادة العسكريين، ولو راجعت الدعم العسكري الهائل
لدولة الكيان في حربها الهمجية على قطاع غزة وتزويد جيش العدو بالقنابل الجديدة
ومنها "المطرقة" التي يصل وزنها إلى حوالي 900 كيلو جرام (2000 رطل) لكي
يلقى بها على الأطفال والنساء والشيوخ والمستشفيات والجامعات، لأدركت حجم العنف
والإرهاب المتجذر في اللاوعي الأمريكي منذ نشأة الدولة الأمريكية.
العنف في المجتمع الأمريكي لم يستثن كما قلت رئيسا ولا مرشحا ولا معارضا
ولا داعية للحقوق المدنية، ولم تخلُ ساحة من الساحات الأمريكية من العنف والقتل،
فقد قتلوا مالكوم إكس ومارتن لوثر كنج والرؤساء لينكولن وجون كينيدي، كما قتلوا
أخاه المرشح الرئاسي روبرت كنيدي، وحاولوا اغتيال الرئيس رونالد ريجان في عام 1981
والرئيس الأمريكي تيدي روزفلت في عام 1912.
يرصد المؤرخون وقوع حوالي 70 اشتباكا بين النواب في الكونجرس الأمريكي في
الفترة من 1830 إلى 1860، وبالطبع لا ننسى محاولة دونالد ترامب نفسه وتشجيعه
لاقتحام الكابيتول هيل (مقر الكونجرس) في 6 كانون الثاني/ يناير 2021 بعد فقدانه
الرئاسة بسبب خسارته للانتخابات التي ادعى أنها مزورة، ولا ننسى أن ترامب نفسه
توعد بحمام دماء إن خسر
الانتخابات المقبلة، كان ذلك خلال تجمع انتخابي في ولاية
أوهايو يوم 16 آذار/ مارس 2024، أي قبل محاولة اغتياله الأخيرة.
وبعيدا عن كل ذلك، بالطبع هناك تساؤلات حول هذه المحاولة التي سوف تطوى مع
جثة الشاب الذي قيل إنه حاول اغتياله، وهو بالمناسبة عضو في الحزب الجمهوري،
والحديث يدور عن كيف أخطأ الرامي رميته رغم قربه من ترامب وكيف أنه أصاب جزءا من
شحمة أذن ترامب ولم يصب وجهه ولا رأسه أو رقبته، وكيف أن ترامب الذي قارب على
الثمانين عاما انتفض بعد قليل ونهض كما لو كان شابا في مقتبل العمر من تحت المنصة
وهو يشير بقبضته ويصرخ: قاتل.. قاتل، وكأنه يعلن انتصاره في معركة البقاء السياسي!
المشكلة الكبرى التي تواجه بعض المغرمين بالنموذح الأمريكي هي أنهم يريدون ديمقراطية على المقاس
جرت العادة في مثل هذه الجرائم أن يبحث الجميع عن المستفيد، والمستفيد
الوحيد هو ترامب الذي حصل على ترشيح الجمهوريين علما بأنه ينتظر قرار المحكمة
الأمريكية في قضايا الفساد المرفوعة عليه والتي سيحكم فيها في أيلول/ سبتمبر
المقبل، أي قبل شهرين من الانتخابات المقبلة في تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، وقد
تؤثر هذه المحاولة على قرار المحكمة أو قد تتسبب في المزيد من العنف إن حكم عليه،
وبالتالي سيتم إخراجه من السباق الانتخابي في مثل هكذا أجواء ساخنة وعاصفة قد تؤذي
الديمقراطية الأمريكية الهشة كما قال جوليان زيليزار في مقاله المشار إليه في
الفورين أفيرز، إذ قال: "العنف هو أحد الأسباب التي تجعل النظام الانتخابي
الأمريكي دائما هشا بشكل غير عادي".
المشكلة الكبرى التي تواجه بعض المغرمين بالنموذح الأمريكي هي أنهم يريدون
ديمقراطية على المقاس، فإن قلت لهم إن الحسم يكون بالصناديق راحوا يتحدثون عن
صناديق نقل الموتى التي يجب أن تنقل جثث خصومهم الذين تفوقوا عليهم، وإن قلت إن
الحسم يكون بالقوة قالوا لك إن العنف من أجل تحقيق مكاسب سياسية هو الإرهاب، وإذا
قلت لهم ولكن أمريكا تستعمل الصناديق الانتخابية للفصل بين المتنافسين مع وقوع
أحداث عنف غير مسبوقة؛ قالوا لك يا عمي هذه هي أمريكا، وأنا أقول لك كما عنون جوليان
زيليزار مقاله: "هذه هي أمريكا أيضا" بعنفها المتجذر وبديمقراطيتها
الهشة.