ما يحدث في جبهات الإسناد بلبنان واليمن منذ نحو 9 أشهر، نصرة لغزة، جدير بالتوقّف عنده وتثمينه، لأنه الاستثناء الوحيد في أمة المليارين التي استسلمت تماما لما يجري في القطاع من مجازر وحشية ودمار مهول، وأظهرت عجزا عمليّا غير مسبوق في تاريخها كلّه.
منذ البداية، لم يتردّد “حزب الله” في دخول الحرب، ولم ينتظر سوى 24 ساعة لدراسة الوضع وكيفية دخول المعركة ثم دخلها فعلا يوم 8 أكتوبر، ولو على شكل مناوشات محدودة أخذت تتصاعد يوما بعد يوم، ودفع الحزب 375 شهيد ومئات الجرحى إلى حدّ الساعة، لكنّه، بالمقابل، عطّل الحياة في العديد من المستوطنات بشمال فلسطين المحتلة، بعد أن نزح منها نحو 200 ألف مستوطن إلى مدن الداخل، ولم تعد هناك دراسة ولا عمل ولا صناعة ولا إنتاج فلاحي ولا خدمات منذ قرابة عشرة أشهر.. كل مظاهر الحياة توقّفت هناك، وعجز جيش
الاحتلال عن إعادتهم إلى مستوطناتهم وتوفير الأمن لهم، ولم تنجح كل تهديداته في تخويف “حزب الله” وثنيه عن قصف شمال فلسطين المحتلة، بل إنّه شرع في الأيام الأخيرة في قصف مستوطنات جديدة ردّا على اغتيال بعض قادته واستهداف المدنيين
اللبنانيين.
الاحتلال مردوع تماما ولا يمكن أن ينفّذ تهديداته بخوض حرب واسعة ضدّ “حزب الله”
ويؤكّد كبار المحللين الصهاينة، أنّ الاحتلال مردوع تماما ولا يمكن أن ينفّذ تهديداته بخوض حرب واسعة ضدّ “حزب الله” لتدمير قدراته وإعادة سكان مستوطنات الشمال بالقوة إلى بيوتهم، لأنّ المقابل الذي سيدفعه الكيان سيكون باهظا جدا هذه المرة، وستبدو معه حرب تموز 2006 مجرّد نزهة، بالنظر إلى تطوّر القدرات العسكرية للحزب وامتلاكه صواريخ دقيقة ومتطوّرة وتشكيلات متنوّعة من أحدث الطائرات المسيّرة التي يمكنها ضرب أهداف حسّاسة في الكيان، وتحوّلت التحاليل إلى قناعة إثر قيام الحزب ببث صور جوية التقطتها مسيّرة “الهدهد” لأهداف صهيونية حسّاسة في فلسطين المحتلة والجولان السوري المحتل، فاكتفى الاحتلال بتبادل القصف مع الحزب بشكل محسوب، مع دراسة إمكانية التوصّل إلى صفقة تبادل مع “حماس” ووقف حرب
غزة لتتوقف جبهة الشمال عند هذا الحدّ، كما وعد حسن نصر الله، الأمين العام لـ”حزب الله”.
بالإضافة إلى الجبهة اللبنانية، كان فتح جبهة إسناد أخرى لغزة في
اليمن مفاجأة كبيرة، وقد استهان بعض المتتبعين بها في بداية نوفمبر الماضي حينما بدأت جماعة “أنصار الله” الحوثية تستهدف سفنا صهيونية بالبحر الأحمر وبحر العرب وحرّمت عليها المرور بباب المندب، ثمّ وسّعتها إلى سفن دول أخرى داعمة للاحتلال، وبرغم التحالف البحري الذي شكّلته الولايات المتحدة من عدة دول غربية لضرب الحوثيين في قواعدهم باليمن، إلا أنّ ذلك لم يردعهم ويوقف هجماتهم البحرية، بل على العكس من ذلك، تصاعدت هذه الهجمات وشملت المحيط الهندي والبحر المتوسط وميناء إيلات الذي توقّف عن العمل وسرّح نصف عماله وتكبّد خسارة بقيمة 14 مليون دولار، واعترفت صحف غربية بعجز هجمات الولايات المتحدة وبريطانيا عن ردع الحوثيين أو التأثير على قدراتهم العسكرية المتنامية التي بلغت حدّ ضرب تل أبيب نفسها الجمعة الماضية بطائرة مسيّرة حديثة قطعت نحو 2000 كيلومتر قبل أن تصل إلى هدفها وتضربه على بعد عشرات الأمتار فقط من السفارة الأمريكية.
ومعنى هذا أنّ جبهة الإسناد التي بدأت المعركة بمناوشات صغيرة غير مؤثرة، بدأت اليوم تضرب العدو في العمق وتوجعه وتسبّب له خسائر متصاعدة، عسكرية واقتصادية واجتماعية، ومعنوية أيضا، وقد اعترف وزير الأمن السابق ليبرمان بأنّ ضربات الحوثيين قد سبّبت للكيان خسائر اقتصادية كبيرة باستهداف سفنه وشل ميناء إيلات، لكن الأهم في الموضوع هو أنّ محور
المقاومة قد طوّر قدراته العسكرية إلى درجة لم يكن العدو يتوقّعها، ويظهر ذلك جليّا في الصواريخ البالستية ومسيرات “يافا” اليمنية و”هدهد” “حزب الله”، ولا ريب أنّ هناك مفاجآت عسكرية أخرى لم يكشف عنها مادام الأمر يتعلق بمواجهات محدودة ولم تتطوّر إلى حرب شاملة بلا سقف ولا حدود، وهي قدرات أصبحت تخيف العدو وتردعه بعد أن كان يعربد ويضرب كما يشاء، ومن يتذكّر لبنان في الثمانينيات وكيف كان الاحتلال يستبيح سماءه في كل لحظة ويرى الآن التغيير الحاصل، يفهم جيّدا ما نقول.
بقي أن نشيد بالموقف التاريخي لسماحة مفتي سلطنة عمان الشيخ أحمد الخليلي، حفظه الله؛ فقد دعا إلى نصرة اليمن وعدّ ضرباته للعدو “تجسيدا لوحدة الأمة الإسلامية”.. نعم هي أمة واحدة تتضامن في المحن وينصر بعضها بعضا في الشدائد والنوائب، لا يفرّقها اختلاف المذاهب والطوائف، الجميع يتجنّد لنصرة غزة في حدود إمكاناته.. هكذا ينبغي أن يكون علماء الأمة ودعاتها.
صحيفة الشروق الجزائرية