إذا كانت إشكالية
الدولة، مفهوما وواقعا
وصيرورة تاريخية هو الموضوع الذي خصه المفكر
العربي عزمي بشارة في كتابه
"مسألة الدولة: أطروحة في الفلسفة والنظرية والسياقات" (المركز العربي
للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة / بيروت 2023)، فإن نشأة الدولة العربية ومسارها
المتأثر بالنشأة وغير المتأثرة بها، هو مضمون الكتاب الجديد "الدولة العربية:
بحث في المنشأ والمسار" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة / بيروت
2024).
الدولة العربية
ينبه بشارة إلى ضرورة عدم الخلط بين
التجربتين الأوروبية والعربية، فمرحلة نشوء الملكيات الأوروبية المطلقة والدول
المركزية في أوروبا، لم تعرف منظومة دولية قائمة تحترم سيادة الدول، ولا نموذجا
للدولة الحديثة جاهزا للتصدير والمحاكاة، ولا دولا عظمى متطورة تبيع السلاح الحديث
بحيث لا تحتاج الدول إلى تطويره.
لقد أسهمت الحرب في إطلاق بدايات الدولة
الحديثة في السلطنة العثمانية، وفي مصر وتونس، لكن الاستعمار قطع هذه العملية،
ولذلك لم تنشأ الدول العربية بعد الاستعمار عن الحرب (الحروب التي تخوضها الدولة
خلال سيرورة نشوئها).
في الحالة المصرية، استفادت مصر في مرحلة ما
بعد نظام الحماية الاستعمارية من الحرب جزئيا، ولكن طبيعة النظام وقدراته التنموية
عجزت عن الاستفادة منها كليا، وفي حالتي إيران والعراق، عززت الحرب مؤسساتهما
الأمنية والاقتصادية والعلمية، ولكن النظام في العراق أودى بكل ذلك حين قرر غزو
الكويت.
إن وجود دولة سابقة عن الاستعمار في مصر وتونس والمغرب عزز شرعية الدولة الحديثة، لكن مقومات هذه الدولة نشأت في ظل الوصاية الاستعمارية، وفي هذا لا يرى بشارة اختلافا بين الدول الثلاث هذه والتجربتين السورية والجزائرية، ما يعني أن المشترك في الحالات الخمسة هو دور الاستعمار في تطبيق نموذج الدولة.
وليس الفرق بين نشوء الدولة في الغرب والشرق
في كونها فرضت فرضا في الشرق، فهي لم تكن نتاج عملية اختيار في أوروبا أيضا، بل
يكمن الفرق في أنها بدأت في النشوء في الشرق بعد أن كانت قائمة في الغرب، ما فرض
ضربا من المحاكاة، كما أنها لم تنشأ بالتدريج خلال سيرورة تاريخية طويلة، وقد
تأسست وأعيد تشكيلها في ظل الاستعمار، وهيمنة نموذج الدولة الأوروبية.
في مرحلة الوصاية الاستعمارية وبداية
الاستقلال، كانت المشاركة السياسية قبل اكتناز المواطنة بالحقوق والواجبات، وقبل
نشوء ثقافة ديمقراطية لدى النخب، معوقة للاندماج.
لقد فُتح المجال للمشاركة السياسية، لكن
أعيان المدن تلاعبوا بالانتخابات واستأثروا بالمناصب والمؤسسات، وحولوها إلى حلبة
تنافس على الزعامات، وفتحوا أبواب المؤسسة العسكرية أمام أبناء الريف والفئات
المقصاة عن السياسة، الامر الذي مهد للانقلابات العسكرية.
في مرحلة الاستعمار اتخذ العصيان الجهوي
طابعا معاديا للاستعمار، أما بعد الاستقلال، فأصبحت التمردات الجهوية تتخذ صبغة
العداء للدولة المركزية، في هذه الحالة، لا تعرقل الجماعات تشكل الأمة فحسب، بل
تعرقل أيضا احتكار التشريع.
تختلف هذه القوى المسلحة الفاعلة باسم
جماعات طائفية، أو قبلية، أو جهوية، عن الحركات السياسية المسلحة الثائرة على نظام
الحكم التي عرفتها بعض الدول في العالم الثالث بعد الاستقلال.
لا يؤدي بقاء البنى القبلية والأهلية الأخرى
بعد التحديث من أعلى إلى تغير وظيفة القبيلة والطائفة الدينية فحسب، بما في ذلك
إمكانية تحويلها إلى فاعل ضمن سياسات الهوية، بل يؤدي أيضا إلى قابليتها للاستخدام
من سلطة الدولة.
ما قبل الاستعمار وبعده
بدأ الحكام العرب في بناء مؤسسات الدولة قبل
مرحلة الاستعمار، لكن الدولة الهشة ظلت غير قادرة على التمييز مم الحكام، ويعود
نشوء مشترك الدولة بين الحكام والمحكومين إلى عشية الوصاية الاستعمارية مع
المحاولات الدستورية وشبه الدستورية في تونس ومصر.
وقد أسهمت أنظمة الوصاية الاستعمارية في
توسيع الجهاز البيروقراطي، وفي تحديث التشريع، كما أسهم الصراع مع الاستعمار في
نشوء الدولة الحديثة، لناحية بداية تشكل هوية وطنية مشتركة، وصعود تصور للدولة من
خارج فئة الحكام الذين ظلوا موجودين في ظل الوصاية.
وتأثرا بالاستعمار، بدأت في مصر وتونس منذ
بدايات القرن التاسع عشر عمليات تحديث، بإنشاء جيوش حديثة، وإصلاحات في طريقة
الحكم، وإنشاء مؤسسات تعليمية وصناعية، بخلاف ما جرى في المغرب، إذ كان لوجود سلطة
لديها شرعية دينية من جهة، وقبائل وزوايا صوفية قوية وفاعلة من جهة أخرى، أن أخر
خطوات الإصلاح.
مع سورية والجزائر اختلف الأمر عن الحالات
المصرية والتونسية والمغربية، ويتمثل هذا الاختلاف في أن سورية والجزائر لم تعرفا
دولة ذات نواة ترابية متواصلة قبل عهد الاستعمار.
إن وجود دولة سابقة عن الاستعمار في مصر
وتونس والمغرب عزز شرعية الدولة الحديثة، لكن مقومات هذه الدولة نشأت في ظل
الوصاية الاستعمارية، وفي هذا لا يرى بشارة اختلافا بين الدول الثلاث هذه
والتجربتين السورية والجزائرية، ما يعني أن المشترك في الحالات الخمسة هو دور
الاستعمار في تطبيق نموذج الدولة.
في الحالة السورية، لا يمكن فهم نشأة الدولة
من دون فهم عملية بناء نواة الجيش الوطني من جانب الاستعمار، ثم عبث الاستعمار
بالتنوع الطائفي، خصوصا داخل الجيش، وبهذا لم يكن الجيش أداة للصهر والتوحيد
الوطني، بل أداة لحماية أمن حكم أجنبي ولقمع التمردات، فما أشبه الأمس باليوم.
وإذا كان الاستعمار في سوريا قصيرا ووصائيا،
فإنه في الجزائر كان طويلا جدا ومباشرا استيطانيا، وتقدم فرنسا في الجزائر أحد أهم
نماذج هذا النوع من الاستعمار على مستوى العالم، وهي من الحالات القليلة التي
حاولت فيها الدولة الاستعمارية ضمن المستعمرة بشكل تام وفرنستها.
دمر الاستعمار الاستيطاني بنية المجتمع
التقليدية، وأنشأ نظاما قانونيا تمييزيا ضد الأهالي، وكان صراع المستوطنين
الفرنسيين في الجزائر مع الحكم المركزي في باريس، بهدف تحقيق الإدارة الذاتية، بما
يشبه نظام الأبارتهايد.
وبين محاولات فرنسا العميقة المتواصلة وردود
الفعل عليها، نشأت في الجزائر ثقافتان، وتراكمت عناصر الانقسام حتى اخترق الحركة
الوطنية ذاتها، ومن أهم هذه الاختلافات كانت بين النخب التقليدية الدينية والنخب
الحديثة: الأوائل تعاملوا مع الاستعمار بوصفه امتدادا للدولة السلطانية، ولذلك
طالبوها بالرأفة، في المقابل طالبت النخب الحديثة فرنسا أن تتصرف بصفتها دولة
حديثة ذات مبادئ جمهورية.
في مرحلة الاستعمار اتخذ العصيان الجهوي طابعا معاديا للاستعمار، أما بعد الاستقلال، فأصبحت التمردات الجهوية تتخذ صبغة العداء للدولة المركزية، في هذه الحالة، لا تعرقل الجماعات تشكل الأمة فحسب، بل تعرقل أيضا احتكار التشريع.
انتصر
رأي الفريق الثاني بقوة السلاح، وأنشئ
الجيش الوطني الجزائري، وأرست الدولة قاعدتها الاجتماعية بذاتها، لكن ظلت توجد
ثقافتان: واحدة متأثرة بالثقافة الفرنسية، والأخرى ثقافة عربية مسلمة ذات علاقة
متوترة مع فرنسا، وفي محاولة لجسر الهوة بين الثقافتين، اعتمدت الدولة الوطنية
المستقلة حديثا منهجا تحديثيا اعتمادا على القطاع العام.
وقد حسم السؤال الذي يهم بشارة، المتعلق
بنشأة الدولة وشرعيتها، على الرغم من عدم وجود دولة عريقة قبل مرحلة الاستعمار،
فقد نشأت شرعية جديدة ومتينة للدولة الجزائرية بفعل صلابة الحركة الوطنية.
الدولة الوطنية
في مرحلة ما بعد الاستقلال، نشأ إطار مشترك
يجمع الحكام والمحكومين، وهذا يشمل التزامات متبادلة، وتوقعات لدى الجماهير من
الدولة الناشئة، لكن الدولة العربية أخذت تعمل على صناعة قاعدتها الاجتماعية.
من الطبيعي أن ينفصل الصالح العام عن مصلحة
النظام، والتحدي يكمن في التوفيق بينهما، ولكن النظم السلطوية تميل بعد فقدان
الكاريزما، الناجمة عن التحرر من الاستعمار، نحو تحويل الاستثمار في بناء قواعد
اجتماعية للدولة إلى بناء قواعد اجتماعية لها في شكل شبكات زبونية، ومنطق الشبكات
الزبونية هو استغلال موارد الدولة لتحصيل الولاء للحكام.
ولأن الدولة العربية، يقول بشارة، لم تنشأ
بوصفها تجسيدا لقيم أخلاقية، كالتعبير عن حقوق جماعة قومية أو وطنية، فإن إفشال
الاندماج في أمة مواطنية يُفشل وظيفة الدولة بوصفها مرجعية أخلاقية.
وقد قادت هذه السيرورة إلى الإضرار بعقلانية
البيروقراطية التي يفترض أن تكون أداتية في خدمة الصالح العام، وتعوض النظم ضعفها
في التغلغل الاجتماعي، بالقمع والشبكات الزبونية، وهذا ليس دليلا على قوة الدولة،
بل على ضعفها، وهذا الضعف لا يقابله مجتمع قوي، بل مجتمع ضعيف وجماعات قوية.