قال الكاتب الصحفي، غيرشوم غورينبيرغ، في مقال، نشر على مجلة "
ذي أتلانتيك" الأمريكية؛ إن دولة الاحتلال الإسرائيلي انتهكت الحظر الذي فُرض ما بعد الحرب العالمية الثانية على الاستيلاء على الأراضي بالقوة، وتكون بذلك قد "أحبطت حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير".
وتابع غورينبيرغ، معلّقا على رأي محكمة
العدل الدولية حول
الضفة الغربية، بالقول؛ إنه: "جاء مدمّرا، ولم يكن خاطئا"، مردفا: "وجود إسرائيل في المناطق الفلسطينية المحتلة غير مشروع" وينبغي أن ينتهي، كما يتوجب على البلدان الأخرى تجنب الاعتراف بضم إسرائيل لأي مناطق استولت عليها في عام 1967، بما في ذلك القدس".
وفي ما يأتي النص الكامل للمقال:
في التاسع عشر من حزيران/ يونيو 1967، بعد أسبوع من حرب الأيام الستة، اجتمع مجلس وزراء الاحتلال الإسرائيلي لمناقشة مستقبل المناطق التي احتلتها "إسرائيل" لتوها. كان أحد المقترحات يرى الاحتفاظ إلى الأبد بالضفة الغربية، ومنح السكان الفلسطينيين حكما ذاتيا محليا، ولكن دون مواطنة، فردّ وزير العدل، ياكوف شيمشون شابيرا قائلا؛ إن تلك "في حقبة إنهاء الاستعمار" لفكرة غير منطقية.
مضى يقول: "ولسوف يثور في وجهنا كل إنساني تقدمي ليقول؛ إنهم يريدون تحويل الضفة الغربية، المأهولة من قبل العرب، إلى مستعمرة."
بعد ثلاثة شهور، كان رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي، ليفي إشكول، يعدّ العدة لمنح الضوء الأخضر لإقامة أول مستوطنة داخل الضفة الغربية. حينها، تواصل أحد كبار مساعديه مع المستشار القانوني لوزارة الخارجية، ثيودور ميرون، ليسأله عن مدى قانونية مثل هذا الإجراء.
أجابه ميرون بمذكرة بالغة السرية قائلا: "ما خلصت إليه، هو أن إقامة مستوطنة مدنية في المناطق [المحتلة] المدارة، يتعارض مع المبادئ الصريحة لمعاهدة جنيف الرابعة." بمعنى آخر، كان ذلك الإجراء غير قانوني.
في معرض رده، استشهد ميرون، الذي أصبح فيما بعد واحدا من الخبراء الرائدين على مستوى العالم في قوانين الحرب، بآخر فقرة في المادة 49 من المعاهدة، التي تنص على أن "القوة المحتلة لا يجوز لها أن ترحل أو تنقل جزءا من سكانها المدنيين إلى المنطقة التي تحتلها".
لننتقل سريعا إلى الصيف الحالي، وإلى لاهاي تحديدا، حيث تلا رئيس محكمة العدل الدولية، نواف سالم، رأي المحكمة حول مدى قانونية الاحتلال الإسرائيلي، في عصر يوم الجمعة، وهو التوقيت الذي يضمن أدنى تغطية إعلامية للحدث؛ لأن الصحفيين يكونون في ذلك الوقت قد بدؤوا بالدخول في عطلة نهاية الأسبوع. تحدّث بإيقاع رتيب كالذي يميز حديث القضاة إذ يقرؤون نصوص الأحكام المطبوعة، ولكن كلماته كانت درامية، بل كانت مفحمة بكل تأكيد.
خلصت محكمة العدل الدولية إلى أن دولة الاحتلال الإسرائيلي، ومن وراء واجهة الاحتلال المؤقت، قامت بتطوير سيطرة دائمة على الضفة الغربية والقدس المحتلّة وقطاع غزة. وكانت المستوطنات جزءا من ذلك التحول. وبذلك تكون دولة الاحتلال الإسرائيلي قد انتهكت الحظر الذي فرض ما بعد الحرب العالمية الثانية على الاستيلاء على الأراضي بالقوة، وتكون بذلك قد "أحبطت حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير".
وبناء عليه، فإن "وجود إسرائيل في المناطق الفلسطينية المحتلة غير مشروع" وينبغي أن ينتهي، كما يتوجب على البلدان الأخرى تجنب الاعتراف بضم إسرائيل لأي مناطق استولت عليها في عام 1967، بما في ذلك القدس".
أشعر كإسرائيلي بالدمار الشامل جراء هذا التجريم لسبعة وخمسين عاما من سياسات وأفعال بلدي داخل المناطق المحتلة. كما أنني أعلم يقينا، كشخص طالما كتب وبكثافة وتوسع عن هذه الممارسات، بأن رأي المحكمة كان صائبا تماما.
إلا أن هذا الرأي ذو طبيعة استشارية، أي إنه غير ملزم، ولا يفرض على دولة الاحتلال الإسرائيلي ولا على أي بلد آخر اتخاذ إجراء بعينه، إذ إن ذلك يتطلب بالضرورة صدور قرار عن مجلس الأمن الدولي انطلاقا مما عبرت عنه المحكمة من رأي قانوني.
ومع ذلك، جاء قرار المحكمة ليشكل نقطة فاصلة، حيث غدا الآن انتهاك إسرائيل للقانون هو الموقف الرسمي لأعلى محكمة تفصل في النزاعات الدولية. وقد يحفّز الحكم بعض البلدان، بما في ذلك بعض الحلفاء التقليديين للاحتلال الإسرائيلي، على اتخاذ إجراءات معينة، مثل فرض عقوبات جديدة أو عقوبات أشمل ضد أفراد من المستوطنين أو ضد المنظمات الاستيطانية، أو حتى ضد المسؤولين في الحكومة الإسرائيلية.
ولقد ورد في بعض التقارير، أن بريطانيا تدرس حاليا وقف بعض مبيعات الأسلحة لإسرائيل بسبب الرأي الذي صدر عن محكمة العدل الدولية.
من الملاحظ أنه على الرغم من التوقيت، إلا أن الرأي الصادر عن محكمة العدل الدولية ليس متعلقا بالحرب الحالية في غزة، ولم تعدّ المحكمة أن من اختصاصها التعاطي مع ما وقع من أحداث بعد السابع من أكتوبر، وذلك لأن محكمة العدل الدولية إنما كانت تستجيب لطلب وردها من الجمعية العامة للأمم المتحدة في ديسمبر (كانون الأول) من عام 2022.
وإنما ورد ذكر غزة في الحكم؛ نظرا لأن دولة الاحتلال الإسرائيلي لم تزل مستمرة في ممارسة بعض نفوذها على المنطقة منذ انسحابها منها في عام 2005، على سبيل المثال من خلال التحكم بمجال غزة الجوي وبمياه البحر المطلة على سواحلها.
والأهم من ذلك أن غزة يرد ذكرها في الحكم المكون من 83 صفحة؛ لأن محكمة العدل الدولية تعدّ الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة أرضا واحدة، وترى فيها الحيز الذي ينبغي أن يتمتع فيه الفلسطينيون بحق تقرير المصير.
إذا ما أخذنا بالاعتبار الموجة الأخيرة من النشاط المعادي لإسرائيل في الغرب، فإن هذه النقطة تستحق التأكيد؛ ذلك أن محكمة العدل الدولية تقر بشرعية دولة الاحتلال الإسرائيلي ضمن حدودها ما قبل عام 1967، وتعدّ ذلك أمرا مسلما به، وهي بذلك لا تمنح سندا لأولئك الذين يعدّون جميع الإسرائيليين مستوطنين، أو أولئك الذين يطالبون بقيام دولة فلسطينية "من النهر إلى البحر".
تؤكد المحكمة صراحة أن الاعتراف بدولة فلسطينية إلى جانب دولة الاحتلال الإسرائيلي، هو السبيل لإنهاء الصراع. ولذلك، فإن أي حكومة إسرائيلية تحرص على التوصل إلى اتفاق يقوم على حل الدولتين؛ أي حكومة تختلف جذريا عن الحكومة الحالية، بإمكانها، بمعنى آخر، أن تجد بصيص أمل فيما صدر عن المحكمة من رأي قانوني.
إن أهم ما يشتمل عليه منطق محكمة العدل الدولية هو الآتي:
إن الاحتلال العسكري للأرض خارج حدود الدولة، من الممكن أن يكون قانونيا فيما لو شكل ضرورة عسكرية. ولكن من المفترض أن يكون ذلك إجراء مؤقتا. ولا يجوز لأي دولة، بموجب القانون الدولي الذي تشكل ما بعد الحرب العالمية الثانية، أن تضم الأراضي التي تجتاحها، بل يتوجب على المحتل أن يقوم بإدارة المنطقة التي يحتلها بما يعود بالمنفعة على السكان المحليين.
إلا أن مصطلح "مؤقت"، مصطلح فضفاض ومراوغ. تصوروا أننا نعيش في عالم آخر، عالم قامت فيه دولة الاحتلال الإسرائيلي باحتلال الضفة الغربية وقطاع غزة في عام 1967، ثم أخذت بعين الاعتبار تلك الإنذارات المبكرة، فتركت القوانين القديمة في محلها، ولم تسمح للإسرائيليين بالاستيطان في الأراضي المحتلة، وتعاملت مع معاهدة جنيف الرابعة كما لو كانت صكا مقدسا.
لنقل إن دولة الاحتلال الإسرائيلي حاولت التوصل إلى سلام مع الفلسطينيين، ولكن لم يتسن بتاتا التوصل إلى اتفاق سواء بشأن مسألة اللاجئين أو بشأن الوصول إلى الأماكن المقدسة، أو حول التفاهمات الأمنية، أو بسبب تخوف الفلسطينيين من إبرام اتفاق يفضي إلى إنهاء الصراع. لو حصل ذلك، لكانت دولة الاحتلال الإسرائيلي، رغم مضي سبعة وخمسين عاما، قوة احتلال مشروعة.
نحن لا نعيش في ذلك العالم، فرغم أن المحكمة لا تذكر ذلك، إلا أن التاريخ سلك مسارا مفارقا لذلك السيناريو منذ الليلة الأولى التي تلت وقف إطلاق النار عام 1967، فقد وقف مقدم في جيش الاحتلال الإسرائيلي ليشرف بنفسه على تجريف الحي العربي المحاذي للحائط الغربي في البلدة القديمة من القدس، وذلك من أجل إيجاد مكان تتجمع فيه الحشود بالقرب من الأماكن اليهودية المقدسة.
وأقدمت إسرائيل في تلك الساعات الأولى التي تلت توقف الحرب على الاستيلاء على عقارات داخل الأراضي المحتلة لاستخدامها في أغراض تخصها، وأجلت عنها سكانها قسرا وقهرا. كلا الفعلين شكلا انتهاكات للقانون الدولي تصفها محكمة العدل الدولية بشكل عام.
ثم خلال ثلاثة أسابيع، سنّ الكنيست قوانين تجيز للحكومة توسيع حدود القدس، بحيث تشتمل على البلدة القديمة، بالإضافة إلى مساحة شاسعة من الأرض المحتلة، وبإخضاع تلك المناطق لأحكام القانون الإسرائيلي. ثم رجاء تخفيف حدة المعارضات الدولية، أصرت دولة الاحتلال الإسرائيلي على أن ذلك لم يكن ضمّا، وإنما مجرد تغييرات بلدية محلية.
ولكن، وكما تشير محكمة العدل الدولية، تحرم معاهدة جنيف تبديل القوانين والمؤسسات لمحلية داخل المنطقة المحتلة. ثم ما لبث الكنيست أن مرر في عام 1980 قانونا يعلن رسميا أن المدينة "الموحدة والكاملة" هي عاصمة دولة الاحتلال الإسرائيلي، معلنا بذلك الضم الصريح، ومزيلا ما تبقى من استخدام لمصطلح "الاحتلال المؤقت" في القدس.
على الرغم من تحذير ثيودور ميرون، أقيمت أول مستوطنة مدنية في الضفة الغربية في أيلول/ سبتمبر من عام 1967 فيما كان يعرف باسم "إيتزيون بلوك"، ما بين بيت لحم والخليل. كان إيتزيون بلوك فيما سبق موقعا لأربعة كيبوتزات، اقتحمتها قوات تابعة لشرق الأردن، بالإضافة إلى بعض القوى العربية المحلية، عشية الإعلان عن إقامة دولة الاحتلال الإسرائيلي في شهر أيار/ مايو من عام 1948.
يذكر ميرون في مذكرته بأن إقامة المستوطنة هناك لسوف تعد دوليا، رغما عن ذلك، انتهاكا صريحا لمعاهدة جنيف الرابعة. ولذلك لم تخل هذه الخطوة أيضا من ادّعاء؛ حيث ورد في وثيقة لقوات الدفاع الإسرائيلية ظلت طي الكتمان فترة طويلة من الزمن؛ إن المستوطنة ينبغي أن تعدّ موقعا عسكريا متقدما مسموحا به للقوة المحتلة، وذلك "كغطاء من أجل خدمة النضال الدبلوماسي."، والحقيقة هي أن المذكرة نفسها تؤكد بأن المستوطنة لم يكن لها أي علاقة بالجيش.
ومع تزايد عدد المستوطنات، وحيث لم يعد ممكنا الاستمرار في استخدام "الغطاء"، غيرت الحكومة تكتيكها، فراحت تعتمد على حجج اثنين من أبرز القضاة الإسرائيليين، ومفادها أن معاهدة جنيف الرابعة لا تنطبق على الضفة الغربية. إلا أن هذا الادعاء لم يحظ بدعم يذكر من قبل الخبراء القانونيين في الخارج.
في هذه الأثناء، بقيت الضفة الغربية تحت حكم جيش الاحتلال الإسرائيلي، خاضعة لمزيج من بقايا المنظومة القانونية التي كانت قائمة قبل عام 1967 والقوانين العسكرية الإسرائيلية. تسلم السلطة في عام 1977 حزب الليكود اليميني، فما كان منه إلا أن سرع من عملية إنشاء المستوطنات.
استخدمت الحكومة المحفزات المالية لجذب الإسرائيليين للإقامة في الأحياء الجديدة المقامة داخل الأراضي المحتلة، ولكن ما هي القوانين التي ينبغي أن تطبق على هؤلاء هناك؟ مكنت الأحكام العسكرية الصادرة في عام 1979 حاكم الضفة الغربية العسكري، من إقامة حكومات محلية على النمط الإسرائيلي لإدارة المستوطنات، حيث تنطبق القوانين الإسرائيلية حصريا داخل الحدود البلدية.
كان من المفترض أن تفضي اتفاقيات أوسلو مع الفلسطينيين، التي أبرمت في عام 1993، إلى اتفاق حول الوضع النهائي، الذي سيقرر بدوره مصير المستوطنات.
إلا أن حكومة الاحتلال الإسرائيلية، سرعت ما بعد أوسلو بناء الطرق المؤدية إلى المستوطنات، حتى يتجنب المستوطنون المرور بسياراتهم عبر البلدات التي باتت الآن تدار من قبل السلطة الفلسطينية الجديدة. لم يتم التوصل إلى أي اتفاق نهائي على الإطلاق، وظلت شبكة الطرق هذه تنمو وتتزايد، واليوم باتت هذه الطرق سبيلا لتخفيف عبء التنقل من وإلى المستوطنات.
ولتوضيح الصورة: يقع منزلي في القدس الغربية بالقرب من الشارع الرئيسي، على بعد أقل من ميل إلى الجنوب، في بقعة لا ذكر لها لا في الخرائط الرسمية ولا في الشارع نفسه، يتقاطع الشارع مع حدود ما قبل عام 1967.
انعطف بسرعة يمينا ثم يسارا عند زوج من الإشارات الضوئية، وسوف تجد نفسك على طريق سريع يمر عبر نفقين حفرا في الجبال، يوصلك إلى مستوطنات إيتزيون بلوك. يصوّت المستوطنون الذين يعيشون هناك في الانتخابات الإسرائيلية، وهم مشمولون بالتأمين الوطني الصحي الإسرائيلي، ويعيشون تقريبا من كل النواحي، كما لو كانوا داخل دولة الاحتلال الإسرائيلي. لا ينطبق أي من ذلك على المجتمعات الفلسطينية القريبة من الطريق السريع نفسه.
ولذلك، عندما ينص الحكم الصادر عن محكمة العدل الدولية على أن دولة الاحتلال الإسرائيلي "للنوايا والأغراض كافة" قامت بضم أجزاء من الضفة الغربية، "مستترة في أثناء ذلك بخرافة" الاحتلال المؤقت، فإنه يصف الحقيقة المحرجة.
لا تبذل الحكومة الحالية برئاسة بنيامين نتنياهو جهدا يذكر للحفاظ على تلك الخرافة، فإن الائتلاف اليميني الحاكم يستند إلى حزبين يمينيين متطرفين، كلاهما يقوده مستوطنون. أحد هؤلاء القادة، بيزاليل سموتريتش، من الحزب الصهيوني الديني، يحمل حقيبتين، فهو وزير المالية ووزير ضمن وزارة الدفاع، ولقد منح ضمن منصبه الثاني صلاحية الإشراف على التخطيط والبناء داخل الضفة الغربية.
كانت تلك المسؤوليات من قبل من صلاحيات الجيش. ولا ريب أن تسليمها لمدني يعني التخلص من غطاء الاحتلال العسكري؛ وهو ما يقرب دولة الاحتلال الإسرائيلي أكثر فأكثر، كما تشير محكمة العدل الدولية، من تأكيد السيادة الصريحة في الضفة الغربية، وهو ما يعني السيطرة الدائمة.
كما أن مصطلح "دائم" مصطلح مراوغ. خلصت محكمة العدل الدولية عمليا إلى أن كل ما فعلته دولة الاحتلال الإسرائيلي تقريبا؛ مستوطناتها، تشريعاتها، مصادرتها للأراضي، وما هو أكثر من ذلك، ينبغي أن يعدّ غير دائم وقابل لأن يتم التراجع عنه. بعض ذلك قابل للتطبيق، وإن كان يلزمه وجود حكومة إسرائيلية مختلفة تماما.
بادئ ذي بدء، قالت المحكمة؛ "إن على إسرائيل أن تتوقف حالا عن جميع النشاطات الاستيطانية الجديدة."، ولكنها مضت لتقول؛ إنه يتوجب على إسرائيل تفريغ "جميع المستوطنات القائمة"، وهو أمر أقل إقناعا وأبعد احتمالا.
تم في أثناء جولات المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية السابقة، حتى وإن لم تكن ناجحة، تطوير فكرة تبادل الأراضي، وهو ما يعني أن دولة الاحتلال الإسرائيلي سوف تحتفظ ببعض المستوطنات الكبيرة المحاذية لحدود ما قبل عام 1967، وتتخلى مقابل ذلك عن بعض من أراضيها السيادية لصالح الدولة الفلسطينية الجديدة. والسبب البسيط من وراء مثل هذا المقترح، هو أنه يجعل من اتفاق حل الدولتين أمرا يسهل التوصل إليه ويسهل تطبيقه.
أكثر ما يجذب الانتباه في الرأي الصادر عن محكمة العدل العليا، هو النص على أنه يجب على دولة الاحتلال الإسرائيلي "إنهاء وجودها" داخل المناطق المحتلة "في أسرع وقت ممكن.". يبدو ذلك منطقيا وجذابا، فأنا شخصيا أود رؤية الاحتلال ينتهي الليلة، إذا أمكن تحقيق ذلك بأمان.
ولكن، وكما يقول ثلاثة من قضاة المحكمة الذين اعترضوا على الحكم؛ إن الواقع خارج إطار رأي الأغلبية يعقد مثل هذه المطالب؛ وذلك لأن دولة الاحتلال الإسرائيلي، وبكل المقاييس، تواجه تهديدات أمنية خطيرة".
بكلمة أخرى، يعامل أغلبية قضاة المحكمة الضفة الغربية وغزة كما لو كانا مستعمرة ينبغي على إسرائيل التخلي عنها. ولكن على النقيض مما كان عليه الوضع في حالة فرنسا والجزائر، أو في حالة البرتغال وموزمبيق، فإن دولة الاحتلال الإسرائيلي والمناطق الفلسطينية المحتلة يحاذي بعضهما البعض، ويوجد داخل تلك المناطق مجموعات فلسطينية مسلحة وشعبية، تطالب بكل دولة الاحتلال الإسرائيلي.
لم يصدر عن حركة حماس ما يشير إلى أنها على استعداد للتخلي عن ذلك المطلب ولإلقاء السلاح فيما لو بادرت دولة الاحتلال الإسرائيلي بالانسحاب أحاديا من غزة والضفة الغربية معا. إن إقامة دولة فلسطينية قادرة على العيش بسلام إلى جانب دولة الاحتلال الإسرائيلي، يتطلب تغييرا سياسيا فلسطينيا، وهذا بدوره يتطلب مستوى من الشراكة الدولية، وبشكل خاص الأمريكية، وهو ما كان منعدما خلال السنوات الأخيرة.
لا يتطلب ذلك فقط استعدادا فلسطينيا للتوقيع على إنهاء الصراع، وإنما أيضا حكومة فلسطينية مستعدة وقادرة على نزع سلاح كل المجموعات المسلحة داخل حدودها. وقد يتطلب ذلك نشر قوات سلام أجنبية، مثل تلك التي تم نشرها في سيناء بعد إبرام معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، وهذه تطورات من غير المحتمل أن تحدث بين عشية وضحاها.
كما كان متوقعا، رفضت حكومة الاحتلال الإسرائيلية ما صدر عن المحكمة الدولية من رأي، وجاء في بيان صادر عن الحكومة؛ أن الأمة اليهودية "ليست قوة احتلال في وطنها". بدا هذا البيان من حيث الشكل رافضا للمسألة القانونية، إلا أنه يشير ببراعة إلى الحاجة لوجود إطار قانوني دولي.
كل المساحات الشاسعة الممتدة من بحر البلطيق إلى البحر الأحمر كانت حتى نهاية القرن التاسع عشر تتبع إمبراطوريات، إلا أن ترهل تلك الإمبراطوريات ثم انهيارها في أثناء الحرب العالمية الأولى، أفضى إلى إقامة الدول القومية، التي تقوم على مبدأ تقرير المصير. إلا أن الأراضي التاريخية للقوميات تتداخل، كما هو حال الدوائر في رسمة فين. بإمكان المجر أن يزعم بأن جزءا من وطنه يقع الآن في رومانيا.
كما أن تركيا واليونان كلاهما تزعمان أن أجزاء من أراضي كل منهما تعود تاريخيا للآخر. كما أن اليهود والفلسطينيين بإمكان كل منهما أن يزعم، محقا، بأن الأرض الضيقة نفسها تعود ملكيتها لهم.
حق تقرير المصير بنفسه عبارة عن صيغة لإنهاء وقف الحرب، وما حظر حيازة الأرض بالقوة إلا من أجل الحيلولة دون ذلك، وهو ما يحظر على دولة الاحتلال الإسرائيلي ضم الضفة الغربية وغزة. ولهذا السبب ذاته، ينبغي أن ينحصر تقرير المصير الفلسطيني داخل تلك المناطق.
يصف قرار محكمة العدل الدولية 57 عاما من السياسة الإسرائيلية الكارثية. يمكن لهذا القرار في نهاية المطاف أن يجلب تحولا إيجابيا، وذلك من خلال تشجيع البلدان الأخرى على المشاركة مجددا في الجهود المبذولة لحمل الإسرائيليين والفلسطينيين على إبرام اتفاق يقوم على حل الدولتين، أو من خلال تحذير دولة الاحتلال الإسرائيلي بأن عليها التراجع عن مسارها.
ولكن، حتى هذه اللحظة، لا يتجاوز حكم المحكمة كونه تذكيرا آخر بأن دولة الاحتلال الإسرائيلي بحاجة إلى حكومة لديها القدرة أخيرا على سماع ذلك التحذير.