في وقت تتصاعد فيه المطالبات بإثراء العملية
التعليمية من خلال دمج التكنولوجيا
وتطوير المناهج لتواكب العصر، تعلو بعض الأصوات، بقصد أو بدون قصد، محاوِلة هدم القيم
التعليمية ومطالِبة بإلغاء المواد الأساسية التي تشكل هوية المجتمع ووعيه. تلك الدعوات
لا تكتفي بالحديث عن تطوير التعليم، بل تسعى لاقتلاع جذور
الهوية وطمس معالم الوعي
لدى الأجيال الجديدة.
هذه الأصوات تطالب بإلغاء العلوم الإنسانية والمواد الأدبية والفلسفية، متسائلة
عن جدوى
التاريخ والجغرافيا في المناهج الدراسية. لهؤلاء نقول: الأدب هو مرآة تعكس
الروح الإنسانية بكل أحلامها وتناقضاتها، وهو النافذة التي نطل منها على عوالم الفكر
والخيال. كيف يمكننا أن نفكر في حذف الأدب من مناهجنا، وهو الذي يعلمنا كيف نكتب تاريخنا
بأيدينا ونرسم مستقبلنا برؤى مستنيرة؟
أما التاريخ، فهو ذاكرة البشرية وسجل الأمم، من خلاله نتعلم من أخطائنا ونستلهم
من نجاحاتنا. حذف التاريخ من المناهج هو كالسير في الظلام دون خريطة أو بوصلة، متجاهلا
دروس الماضي التي تسهم في توجيه قرارات الحاضر ومسارات المستقبل.
الجغرافيا، ذلك العلم الذي يتجاوز حدود الأماكن، يربط الإنسان بالطبيعة والمجتمع.
فهم الجغرافيا يمكننا من استيعاب التحديات البيئية والاقتصادية التي يواجهها عالمنا
اليوم، فكيف لمجتمع يجهل تضاريس أرضه أن يبني جسور التواصل مع العالم؟
الأدب، التاريخ، والجغرافيا ليست مجرد مواد دراسية، بل هي أسس تربوية تشكل وعي
الفرد وهويته. التعليم الحقيقي يبني الإنسان بشكل متكامل، يجعله فردا واعيا بماضيه،
متفهما لحاضره، وقادرا على بناء مستقبل أفضل.
كيف يمكننا أن نتجرأ على إقصاء التاريخ، وهو الذي يعيد صياغة حاضرنا في ضوء
الماضي ليمنحنا رؤية أوضح للمستقبل؟ وكيف نهمش الجغرافيا، وهي التي تربط الإنسان بالأرض
وتفتح له آفاقا من الفهم العميق للعالم من حوله؟
عند إلغاء التاريخ، كيف ستعرف الأجيال الجديدة عن ثورة يناير التي أطاحت بحكم
مبارك بعد ثلاثين عاما؟ من سيذكر الشعوب بثورات الربيع العربي التي أسقطت رؤساء كانوا
يظنون أن نهايتهم بعيدة؟
عندما يطالبون بإلغاء التاريخ والجغرافيا، فمن سيرسم للناس حدود الأماكن، ومن
سيذكرهم بأن
مصر استردت سيناء وطابا بعد جولات من المفاوضات، ومن سيؤكد على مصرية تيران
وصنافير رغم التلاعب السياسي؟
إلغاء التاريخ والجغرافيا يعني نسيان سير الأقوام السابقة ونهايات الظالمين،
وإغفال حتمية سيادة العدل وزوال الظلم مهما طال الزمن.
تأتي هذه الدعوات في وقت نحن بأمسّ الحاجة فيه لتلك العلوم، فهي جزء أصيل من
طبيعة الصراع. حرب الصهاينة ضد فلسطين هي حرب عقدية تنطلق من الجغرافيا والتاريخ.
وعند إلغاء هذه العلوم، من سيذكّر الناس بصمود شعب فلسطين أمام الآلة الصهيونية
ورفضهم بيع أراضيهم وترك ديارهم؟ من سيحكي قصص تضحياتهم من أجل قضيتهم؟
في الختام، علموا أولادكم أن الأدب، والتاريخ، والجغرافيا ليست مجرد صفحات في
كتاب، بل هي فصول من حياة ونوافذ على عوالم مليئة بالتجارب والدروس. الحفاظ على هذه
المواد هو الحفاظ على ذواتنا وعلى مستقبل أبنائنا، فمن ليس له ماضٍ، لن يكون له حاضر،
ولن يُصنع له مستقبل.