كتب

في الكوجيتو الرقمي.. معركة الإنسانية الكبرى تخاض على شاشات الهواتف الذكية

لقد أحدثت الثورة الرّقمية قطائع كبرى غیرت توجهاتنا ولا تزال تنذر بالكثير من التغييرات في المستقبل.
الكتاب: أنا أوسيلفي إذن أنا موجود
الكاتب: إلزا غودار
الناشر:  المركز الثقافي للكتاب الدار البيضاء: المغرب ـ بيروت، لبنان،  الطبعة : الأولى 2019
عدد الصفحات: 216 صفحة


من الكوجيتو الديكارتي: "أنا أفكّر إذن أنا موجود"، الذي يعلن علوية الفكر في تحديد هوية المرء وتابعية الجسد له، استلهمت إلزا غودار عنوان أثرها المهم "أنا أوسيلفي إذن أنا موجود". ولكن استلهامها استلهام قلب، يعكس معادلة الفلسفة المثالية. فيجعل مدار قضيته الرئيسية على تابعية هوية المرء اليوم للتكنولوجي، وللرقمي ولأجهزة الهواتف الذكية وكل أنماط الذكاء الاصطناعي. ولئن بحث ديكارت عمّا يرفع من إنسانية الإنسان في هذا الكوجيتو، بصرف النّظر عن موقف الفلسفة المادية منه، فإن هذا الكوجيتو الجديد يبدو أقرب إلى نسفها ليُحل محلها البعد الرّقمي لـ"لكائنات البشرية المزيدة"، وفق  الفيلسوف جان ميشال بيني (Jean Michel Benier).

1 ـ قصة الكتاب

تذكر الباحثة إلزا غودار، أن قصة هذا الكتاب بدأت بانخراطها مرّة في لعبة مع الأصدقاء لتحديد لحظة الجنون في حياة كلّ منهم، وأنّ رفاقها قدّروا أنّ [السيلفي]، يمثل جنونها هي، أي تلك اللحظة التي تكون فيها أناها منفلتة من عقالها. فهالها أن تتحوّل فجأة إلى "ضحية قبلت طوعا الانخراط في ظاهرة موضة لا يمكن تجنبها". وهكذا تحوّل الهزل إلى حدّ. فقد وجدت نفسها معنيّة بالتّعمّق في دراسة هذه الظّاهرة حتى تعبر من مرحلة الانخراط اللاواعي فيها إلى مرحلة الوعي بها والتفكير فيها. واكتشفت عندئذ أنّ السيلفي بما هو ظاهرة سوسيو ـ ثقافية على صلة عميقة بمسألتي الهوية والكينونة، لا تزال خارج دائرة التفكير الجدّي.

في المستقبل القريب، ستكون كل الأجهزة متصلة بفضل وجود ويفي في عالم الروبوهات التي تفهمنا وتتحدث إلينا. وسيتطور الذكاء الاصطناعي لتحل محل الإنسان في التفكير وأخذ القرارات. والسؤال الذي سيطرح عندئذ هو: ما الذي يحدث لإنسانيتنا ونحن نعبر من تدعيم فاعلية أجسادنا بزرع أعضاء اصطناعية للقضاء على الإعاقة والألم والمرض، إلى العمل على التخلص من هشاشتنا البيولوجية بالتّدخل في عمل الطبيعة والتحكّم في الخرائط الجينية وتحويلها؟
تمثلت أوّل مراتب بحثها في العودة إلى أصل الاصطلاح، فبيّنت أنّ الكلمة مشتقة من الإنجليزية self التي تعني النفس، وتعني أحيانا أخرى "أنا وحدي"، ثمّ أضيفت إليها لاحقة عامية وعاطفية ("ie"). ويبدو أنّها ظهرت أول مرة في أستراليا 2002. ولكنّ هذه المفردة لم تعرف الانتشار الحقيقي إلا سنة 2012، و"في سنة 2013 اختيرت "السيلفي" كلمة السنة في قواميس أوكسفورد، وهكذا دخلت سنة 2015 إلى القاموس الفرنسي لاروس، ووجدت طريقها، بعد سنة، إلى قاموس بوتي روبير، وابتداء من هذا التاريخ، لم يعد أحد يتجنب الحديث عنها. فقد انتشر السيلفي ممارسة وتعبيرا، على نطاق واسع.

2 ـ السيلفي وإدراكنا للعالم من حولنا

رغم هذا الانتشار الواسع، يظل السيلفي ممارسة اجتماعية غير ثابتة لصلتها بالتحوّلات الرقمية المتسارعة. وعلى اختلاف ممارساتها، فهي تطرح الأسئلة حول علاقة المرء بذاته وبصورتها أوّلا، وبالعالم من حوله ثانيا، وبالتكنولوجيا الحديثة والثورة الرقمية ثالثا. وانطلاقا من هذا الثالوث، تحاول الباحثة إلزا غودار أن تجعل إنسان السيلفي موضوع تفكير فلسفي، فتعمل على البحث في آثار هذه الثورات. وتقدّر أنّ السيلفي أو البورتريه الذاتي" أو "الصورة الذاتية من نتائج الثورات الرقمية، التي أثرت في أنماط حياتنا وأدت إلى تغيير راديكالي في طريقة إدراكنا للعالم، رغم أنها تدرك أننا لم نتخذ المسافات اللازمة بينها وبيننا. فالظاهرة لا تزال في طور التشكل، وهذا ما يحتّم البحث فيها والعمل على وضعها، ضمن تفكير شامل حول ما يدبر في الفضاء الافتراضي والعلاقات التفاعلية بين الناس  اليوم.

3 ـ  أفضية التواصل الاجتماعي وفرض "الشبكة الاجتماعية" تصنيفا اجتماعيا جديدا

لقد أحدثت الثورة الرّقمية قطائع كبرى غیرت توجهاتنا، ولا تزال تنذر بالكثير من التغييرات في المستقبل. من ذلك أن سيولة المعلومة ووجود منظومات للاتصال السريع وفائق الدّقة وأفضية للتواصل الاجتماعي، حوّلت المواطنَ العادي إلى صحفي؛ فبات من المتاح له، حالما يجد نفسه في قلب حدث ما، أن يقوم بتغطيته. فله الهاتف الذّكي الذي يصله بالجمهور المتابع وله القدرة على نقل الخبر صوتا وصورة، وبإمكانه التعليق عليه وإبداء رأيه فيه.  وأكثر من ذلك، يتاح لهذا الجمهور أن يتفاعل مع المنشور آنيا، وله أيضا أن يتحوّل بدوره إلى جيش من الصحفيّين الذين ينقلون الخبر عن هذه "الوكالة".

وخوّلت هذه الثورة للفنان أو لصانع المحتوى استمالة آلاف المبحرين في الإنترنيت عبر أساليب مختلفة من الدّعاية. "وهكذا ستظهر مرحلة جديدة نكون فيها نحن أنفسنا وسائط". وسيصبح المبتذل واللّعبي والتّافه رمزا لمجتمعات تعيش تحولات جذرية، يديرها شباب متمكنون من التكنولوجيا الجديدة. وعليه، فقد أضحت علاقاتنا بمحيطنا الخارجي منفتحة ومباشرة وأفقية في عالم افتراضي فاقد للتراتبية الاجتماعية، أو الطبقية التي تميّز عالمنا الفعلي.

ومن ثمّة يمكننا أن نتحدّث عن سلطة الشبكة الاجتماعية وعن دورها في التأثير في الرأي العام. ويظهر ذلك في الأحداث الكبرى خاصّة كالعمليات الإرهابية أو الكوارث الطبيعية أو الأحداث السياسية المهمّة. ومن هنا، سيظهر مفهوم جديد يضاف إلى مفاهيم الحشد والجمهور والشريحة والفئة والطبقة، هو مفهوم الشبكة الاجتماعية. فتحدّده الباحثة بكونه "مجموع العلاقات غير المحدّدة بين أفراد متساويين شكليا"، التي تكفلها وسائل التواصل اليوم.

4 ـ السيلفي والرقمي والتحولات الجوهرية في تمثلنا لذواتنا

لا شكّ أنّنا كنّا سنعُدّ حتى مطلع هذه الألفية، من يتكلّم بمفرده مجنونا أو مثيرا للسخرية أو الشّفقة. أمّا اليوم، فقد أضحى من العاديّ جدا أن تجد أحدهم يضع سماعات في أذنيه ويمشي في الشارع ويتحدث. فيقهقه أو يغضب ويلعن أو يتمايل رقصا، دون أن يثير الفضول من حوله. ولا شكّ أنّ علاقتنا بالكتابة والقراءة تغيّرت بدورها، فقد تراجع جلال المسودة وخطية الفكرة. وبات بإمكاننا أن ندوّن الفكرة التي نريد أولا ثم نقوم بعملية مونتاج لأفكارنا، فنقصّ منها ما نريد وننقلها إلى أي موضع أخرى من وثيقتنا التي نحرّر.

وبات بإمكاننا أن نبحث عن الفكرة في الأثر باستعمال محركات البحث، دون أن نضطر على قراءته بأسره. بل إننا أصبحنا لا نقرأ ما يقال عن الأشياء بقدر ما نتملّى صورها، فنحرّر في أذهاننا ما يمكن أن يمثّل قراءة سيميائية للمرئي. وفي أثناء جلوسنا في قاعة انتظار ما، بدل أن نتملى المكان أو الوجوه أو نتبادل الثرثرة مع من يصادفنا في القاعة، أصبحنا ننغرس في شاشات هواتفنا لنتملى صور الآخرين، ونتلصّص على حيواتهم التي يعرضونها بدورهم على الملأ.

وعلى مستوى العواطف، كنا نفكر مليا قبل أن نعلن لمخاطبنا أننا "نحبه". فقد كنا نقول ذلك وجها لوجه والأيدي في الأيدي، "فلا علاقة لذلك ب [jtm =أحبك] التي نرسلها اليوم عبر رسالة قصيرة مع سمايلي في شكل قلب". فتكون نصا عفويا غير مفكر فيه صالحا لكل المناسبات.  وإجمالا لم تعد آثار الخطاب ومصداقيته هي ذاتها، والأخطر أنّ قوة الانفعالات الشوق عندنا قد اضمحلت، ونحن تتابع أخبار أصدقائنا على صفحتنا  باستمرار دون أن تتواصل معهم. فنشر السيلفيات وعرض "الأنوات"، جزء من بناء الآخر النرجسي، الذي لا يعنينا بقدر ما يلزمنا بوضع علامة الإبهام أو قلب، إيفاء بدين أو طلبا لتفاعل مماثل حينما ننشر بدورنا ذواتنا على قوارع صفحات التواصل الاجتماعي. وإجمالا، فعواطفنا قد تأقلمت مع السطحية ورفض الالتزام.

5 ـ الواقعي والافتراضي

يعمل  الافتراضي على توسيع الواقعي وإغنائه، وفي الآن يحاول تغييره ليحل محله. ويبدو أننا أصبحنا نستسلم لا إراديا لهذه الموجة. فنحن اليوم نفتقد إلى القدرة على التحكّم في التقدم المعلوماتي. والخطر هنا يتمثّل في  غطرسة التكنولوجيا ودكتاتوريتها. فهي لا تقوم بسبر آراء ولا تأخذ تطلعاتنا بعين الاعتبار. فقط هي تنفّذ. فتفرض علينا واقعا جديدا، وتقصر دورنا في التسليم به والتلاؤم معه بعد تلكؤ، ولعل عجز المنظّمات السياسية والمؤسسات المالية على كبح جماح العملات الرّقمية المشفّرة خير دليل على ذلك.

وفي المستقبل القريب، ستكون كل الأجهزة متصلة بفضل وجود ويفي في عالم الروبوهات التي تفهمنا وتتحدث إلينا. وسيتطور الذكاء الاصطناعي لتحل محل الإنسان في التفكير وأخذ القرارات. والسؤال الذي سيطرح عندئذ هو: ما الذي يحدث لإنسانيتنا ونحن نعبر من تدعيم فاعلية أجسادنا بزرع أعضاء اصطناعية للقضاء على الإعاقة والألم والمرض، إلى العمل على التخلص من هشاشتنا البيولوجية بالتّدخل في عمل الطبيعة والتحكّم في الخرائط الجينية وتحويلها؟

6 ـ  الرقمي الافتراضي وإدراكنا للفضاء وللزمن

لقد غير الافتراضي من علاقتنا بالفضاء جذريا، فكسر صلابته وامتداده واسترساله وحوّل المدى إلى نقطة. فالهناك أصبح هنا. فيمكنني أن أتجوّل في حديقتي هنا في هذه القارّة وأشارك ابنتي لحظات تفتّح ورودها المفضلة، وهي تشارك في مؤتمر علمي في قارة ثانية. وفي الآن نفسه، تغيّر إحساسنا بالزّمن. فبتنا نعتصر أبعاده الثلاثة (الماضي والحاضر والمستقبل) في بعد واحد خاص بفعل الاتصال المباشر. فلا نحتفظ منه إلا بالراهن وهو زمن افتراضي كائن، بفضل النقر على الأزرار هنا والآن: أتصل بمن أحتاج وها هي المشكلة قد حلت. لا أتذكر معلومة ما؟ لا داعي لكي أنشط ذاكرتي، فغوغل رهن إشارتي. "ففي عصر الهنا والآن" كل شيء مباشر وكل شيء ملك اليد: بإمكانك وأنت جالس أمام لوحة المفاتيح، وبمجرد نقر أن تستحضر العالم أمامك".

يظل الدّماغ الحلقة الأكثر هشاشة. فإنسان الذكاء الاصطناعي يعبر مباشرة من الجسد إلى البرمجية، أي من برمجة الطبيعة إلى برمجة الآلة. وإقصاء الدّماغ من هذه السلسلة هو قتل الإنساني فينا. وهذا ما يتيح لجهات النفوذ تحويل البشر إلى مجرد روبوهات يتمّ التحكّم فيها عن بعد بما يخدم مصالحها.
ومن تبعات هذه التحوّلات الجوهرية، هيمنة الاستعجال والمباشرة والآنية والسرعة والسطحية على شكل إقامتنا في الوجود. "لقد انكفأ الزمان والقضاء على أنفسيهما: لقد أصبح البعيد قريبا (مع النت)، وأصبح (الما بعد) هو الآن (مع السمارتفون)؛ وأصبح اللامرئي مرئيا (مع سكايب)... وليس من المستبعد أن يضعوا بين أيدينا في المستقبل تطبيقا نستطيع من خلاله الإحساس بالآخر وتذوقه".

7 ـ أنا أوسيلفي إذن أنا موجود.. وبعد؟

بعد جرد سلبي لهيمنة الرقمي على شكل سكنى العالم، تحاول الباحثة الإبقاء على شيء من التفاؤل. فخبر موت أحدهم الذي نطالعه على الشاشة يعمّق إحساسنا بالحزن، وربما يجعلنا نشعر بتقصيرنا في حقه في العالم الخارجي. إذن لا يمتصنا هذا العالم الافتراضي كليا وفق إلزا غودار، وبإمكاننا أن نعود إلى واقعنا إن شئنا. ولئن تغيّر العالم على مستوى إدراكنا للزمن والفضاء وعلى مستوى علاقتنا بذواتنا وبالآخرين، فإن هذا التغيير لم ينزل من السماء كما تقول. فنحن من فعل ذلك. وهذا يعني أنه بإمكاننا أن نفعّل من الافتراضي والرّقمي بعده الإيجابي حتى ننقذ إنسانيتنا المهدورة.

يبدو هذا التفاؤل مشروعا. ولكن لا بدّ أن ندرك ونحن نقارب مسألة الافتراضي وصلته بعالمنا الفعلي من رصد تشابهات ثلاثة.

ـ فالجسد ( البيولوجيا) يضمن استمرارنا بفضل تخزين المعلومة في الحمض النووي.
ـ والذهن ينتج يكفل استمرار الحضاري والثقافي والأخلاقي عبر التخزين  في الدّماغ.
ـ والتكنولوجيا تنقل المعلومة من الدماغ إلى البرمجيات والتطبيقات المعلوماتية.

وفي هذه السلسلة، يظل الدّماغ الحلقة الأكثر هشاشة؛ فإنسان الذكاء الاصطناعي يعبر مباشرة من الجسد إلى البرمجية، أي من برمجة الطبيعة إلى برمجة الآلة. وإقصاء الدّماغ من هذه السلسلة هو  قتل الإنساني فينا. وهذا ما يتيح لجهات النفوذ تحويل البشر إلى مجرد روبوهات يتمّ التحكّم فيها عن بعد بما يخدم مصالحها. وما منظمات اللوبييغ التي تصنع الرأي العام إلا دليل على أنّ معركة الإنسانية الكبرى، تخاض اليوم على شاشات الهواتف الذكية. ولكن الخصمين، أي المُستهدِف والمستهدَف، يختلفان من حيث الكفاءة بين مُبرمِج واع بما يريد ويعمل على تحريكنا كالدمى من وراء ستار، ومستهلك غافل ومدمن على الغوص في هذه الشّاشات كقط "كليلة ودمنة"، الذي كان يلعق الدم من مبرد. وكان المبرد يجرّح لسانه ويُسيل دماءَه، وكان طعم الدم يغريه أكثر، فيلعق المزيد ويتشقق لسانه أكثر. فتسيل دماؤه من جديد.
الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع