قضايا وآراء

مقالة في "حرب التحرير الوطني" وفي "تخليق الحياة العامة" بتونس

"التجارب التاريخية تنبئنا بأن الانتصار في الحروب لا يكون فقط بـ"تطهير الجبهة الداخلية"، بل بتقوية تلك الجبهة وإشراك أكبر عدد من المواطنين فيها"- الأناضول
بصرف النظر عن ردود الفعل المختلفة تجاه الانتخابات الرئاسية التونسية من جهتي المسار والنتائج، فإنّ فوز الرئيس قيس سعيد بعهدة ثانية، قد أوجد واقعا سياسيا مختلفا جذريا عن واقع تونس قبل هذا الاستحقاق الانتخابي. فقد أظهر هذا الفوز الكاسح أن السرديات القائمة على الطعن في شرعية النظام "لانقلابيته" (أي الانقلاب على دستور 2014 وعلى النظام البرلماني المعدل وعلى الديمقراطية التمثيلية)، وتلك السرديات القائمة على معارضة النظام لـ"تحريفيته" (أي انحرافه على وعود 25 تموز/ يوليو 2021 وتحريفه للإرادة الشعبية التي ساندتها)، قد كانت أقرب إلى "الظاهرة الصوتية" أو المجاز النخبوي الذي لا حقيقة شعبية تحته. فرغم كل التحشيد، فقدت المعارضة الجذرية والموالاة النقدية عمقهما الشعبي، أو على الأقل عجزتا واقعيا عن أن تكونا منافسا جديا للرئيس ومشروعه السياسي، القائم على إنهاء الحاجة للأجسام الوسيطة (خاصة الأحزاب)، وعلى مركزة السلطة (نظام رئاسوي) لمقاومة الفساد، وتخليق الحياة العامة في إطار ما يسميه رأس النظام بـ"حرب التحرير الوطني".

لمّا كانت شرعية "تصحيح المسار" في بداياتها مستمدة من دستور 2014، فإن تفعيل الفصل 80 من الدستور كان موجها لإدارة "حالة الاستثناء". ولكن التأويل "ما فوق الدستوري" لهذا الفصل، جعل غاية "تصحيح المسار" تتجاوز مواجهة "الخطر الداهم" (الخطر المؤقت المرتبط بالسياسات)، لتتحول إلى "حرب" على "الخطر الجاثم" (الخطر المرتبط بالمؤسسات وبالأجسام الوسيطة وبفلسفة الحكم ذاتها).

وكان هذا الخيار الرئاسي يعني واقعيا، تحويل "حالة الاستثناء" إلى مرحلة مؤقتة تفصل بين زمنين سياسيين؛ كان الرئيس قد أشار إلى ما بينهما من تضاد خلال "الحملة التفسيرية" (أي الحملة الانتخابية)، في حواره مع صحيفة "الشارع المغاربي" بتاريخ 12 حزيران/ يونيو 2019. فقبل وصوله إلى قصر قرطاج، كان المترشح الرئاسي قيس سعيد واضحا في طبيعة مشروعه السياسي وفي عمق الهوة بينه وبين باقي الفاعلين الاجتماعيين،
مشروع "التحرير الوطني" يستدعي خوض الحرب "على جبهات متعددة"، وهي حرب يؤكد الرئيس أنه لن يقبل فيها إلا الانتصار، كما يؤكد أنّ تطهير البلاد من الفاسدين "ليس مجرد شعار، بل هو حرب مستمرة دون هوادة ودون هدنة".
وهو ما يجعل من الحديث عن "انقلابه" حديثا غير موفق من الناحية التاريخية والسياسية. فالمترشح الرئاسي لم يفعل غير الوفاء لبرنامجه الانتخابي المنشور والمعروف لدى العامة والنخب على حد سواء، ولكن النخب بمختلف مرجعياتها الأيديولوجية، تعاملت معه -قبل 25 تموز/ يوليو وبعده-، بكثير من الاستخفاف ومن سوء التقدير، فكان عاقبة أمرها ما نرى.

بمعنى ما، فإن تصحيح المسار لم يكن إلا صدى لتلك الصرخة التي أطلقها أستاذ القانون قيس سعيد بعد اغتيال المرحوم محمد البراهمي سنة 2013؛ قائلا: "ليرحلوا كلهم بمعارضتهم، بأغلبيتهم، ليُعلنوا أنهم أفلسوا". فمشكلة الرئيس منذ ذلك الوقت لم تكن مع الحكومة ولا مع المعارضة، بل مع منظومة الحكم ونظامها الانتخابي الذي رآى فيه سبب الأزمة السياسية منذ 2011، تلك الأزمة التي تهدد بحرب أهلية، بل تهدد وجود الدولة ذاتها.

إن تلك المنظومة "الفاسدة" (سياسيا وأخلاقيا) هي "الخطر الجاثم"، ولم يكن من المجدي مواجهة "الخطر الداهم" مع السماح للأجسام الوسيطة ورموزها التي هيمنت على المشهد العام قبل "تصحيح المسار" بالعودة إلى مركز السلطة. وهو ما يفسر سياسات الرئيس بعد 25 تموز/ يوليو 2021، وهي سياسات كان من الممكن استشرافها باستقراء المنطق الداخلي لمشروعه السياسي. ولكنّ الأغلبية البرلمانية -التي تحولت في أغلبها إلى معارضة جذرية للنظام-، لم تتعامل بجدية مع مشروع الرئيس، ولا مع ما يُعبر عنه من انتظارات/مطالب جماعية مشروعة.

أما "الموالاة النقدية" (وهي حسب سردية تصحيح المسار جزء من منظومة الفساد، رغم محاولتها تبييض تاريخها بمساندة الرئيس)، فإنها لم تفهم مشروع الرئيس، وحاولت عبثا توظيفه لخدمة أجنداتها السياسية والأيديولوجية، ولا يبدو أنها قد فهمت مشروع الرئيس وموقفه من الأجسام الوسيطة والديمقراطية التمثيلية، حتى بعد صدور نتائج الانتخابات.

عندما يخرج أي مشروع سياسي عن منطق الشراكة والاعتراف بشرعية السرديات المنافسة، فإنه يتموضع بالضرورة في دائرة البديل، ولا شك في أن "تصحيح المسار" أو "التأسيس الثوري الجديد" قد طرح نفسه بديلا منذ أن تقدم للانتخابات الرئاسية سنة 2019. وحتى لو سلمنا جدلا بأن ناخبي الرئيس قيس سعيد سنة 2019 لم يختاروه ليكون بديلا للنخب المهيمنة على الديمقراطية التمثيلية، فإننا لا يمكن أن نجادل في أن الناخبين قد اختاروا "الخبير الدستوري" والأستاذ الجامعي ليكون بديلا أخلاقيا، أو على الأقل رقيبا على تلك النخب الموسومة في الوعي الشعبي بالفساد بمختلف أشكاله.

فالصراعات البينية التي دارت بين النخب منذ 2011 قد أفقدتهم جميعا -بحق أو بباطل- جزءا كبيرا من مصداقيتهم، وجعلتهم نهبا للمخيال الشعبي المتلاعب به من لدن المنابر الإعلامية التقليدية ووسائل التواصل الاجتماعي، أو ما يسميه الرئيس ذاته بـ"الغرف المظلمة". ولمّا كانت الحقيقة السياسية هي ما يؤمن به الناس -لا ما هو حقيقة في ذاته-، فإن "الغرف المظلمة" قد تحولت -في الوعي الجمعي- إلى واقع لا يحتاج إلى برهان على وجوده، أو على علاقاته التآمرية بالخارج.

لو أردنا البحث عن النواة الصلبة في المشروع السياسي للرئيس قبل وصوله إلى قرطاج وبعده، لقلنا إنها "حرب التحرير الوطني"، وهي -حسب السردية السلطوية- حرب مبررة أخلاقيا وسياسيا. ووفقا لهذه السردية، فإن محاربة "الخطر الجاثم" ليس ترفا ولا هو نزوة مستبد، بل هو عمل وطني وأخلاقي بالضرورة. إن مشروع "التحرير الوطني" يستدعي خوض الحرب "على جبهات متعددة"، وهي حرب يؤكد الرئيس أنه لن يقبل فيها إلا الانتصار، كما يؤكد أنّ تطهير البلاد من الفاسدين "ليس مجرد شعار، بل هو حرب مستمرة دون هوادة ودون هدنة".

الحروب "الأخلاقية" على صانعي المحتوى اللاأخلاقي في وسائل التواصل الاجتماعي، لا يمكن أن تغير شيئا من البؤس الأخلاقي في العالم الواقعي، وهو بؤس يستدعي طرح المسألة القيمية في البرامج التعليمية ومنابر الإعلام التقليدية وفي تنظيم الفضاء العام، بل يستدعي هندسة اجتماعية على أسس جديدة من الناحية القيمية.

بصرف النظر عما يثيره المعجم الحربي في إدارة الانقسامات/الخلافات الداخلية من مخاوف تتعلق بانحرافات السلطة و"تسييس القضاء" الذي عليه أن يتماهى مع النظام، وإلا كان "لا فرق بينه وبين الشريك في الجريمة، بل أكثر من ذلك، هو خائن وعميل كمن هو على جبهة القتال، ويلتحق بصفوف العدو". وبصرف النظر كذلك عن البنية العميقة لمنطق "التطهير"، وما يرتبط بها من تجارب سياسية دامية في الغرب والشرق، فإن المقبولية الشعبية لمشروع الرئيس تأتي من إيمان عموم المواطنين بوجود فساد سياسي وأخلاقي حقيقي تجب مواجهته؛ حتى لو كان لتلك المواجهة خسائر جانبية غير مقصودة.

مهما كان موقفنا من "تصحيح المسار"، فإننا لا نستطيع أن ننكر أنه قد طرح قضيتين مركزيتين ترتبطان بالمسألة القيمية: الفساد البنيوي لمنظومات الحكم ما قبل 25 تموز/ يوليو، والفساد الأخلاقي المهيمن على بعض وسائل التواصل الاجتماعي. وإذا ما كنا نوافق الرئيس في توصيفه لمنظومات الحكم المتعاقبة على حكم تونس قبل الثورة وبعدها بالفساد بنيويا، وإذا ما كنا أيضا نتفق معه في وجوب "تخليق" وسائل التواصل الاجتماعي، فإننا نرى أن هذه "الحرب" لا يمكن أن تحقق أهدافها في ظل غياب الحامل الاجتماعي (الكتلة التاريخية)، والسند السلطوي المبدئي.

وبصرف النظر عن طبيعة نظام الحكم، فإن التجارب التاريخية تنبئنا بأن الانتصار في الحروب لا يكون فقط بـ"تطهير الجبهة الداخلية"، بل بتقوية تلك الجبهة وإشراك أكبر عدد من المواطنين فيها. كما أن الحروب "الأخلاقية" على صانعي المحتوى اللاأخلاقي في وسائل التواصل الاجتماعي، لا يمكن أن تغير شيئا من البؤس الأخلاقي في العالم الواقعي، وهو بؤس يستدعي طرح المسألة القيمية في البرامج التعليمية ومنابر الإعلام التقليدية وفي تنظيم الفضاء العام، بل يستدعي هندسة اجتماعية على أسس جديدة من الناحية القيمية.

ما دام النظام الحالي لا يطرح على نفسه مساءلة الأساطير المؤسسة للدولة-الأمة (أي البورقيبية ومشتقاتها السياسية وتوابعها الوظيفية في المجتمع المدني، وفي العمل النقابي وفي "الإبداع" الثقافي)، وما دام هذا النظام يدير حربه برأسمال بشري مطبوع بالعقلية البورقيبية، ولا علاقة له بالنخب البديلة التي بشّر بها "تصحيح المسار"، فإن حرب التحرير الوطني لن تكون إلا مجازا في واقع تحكمه أساطير حرب التحرير/التنوير "البورقيبية"،
"حرب التحرير الوطني" ستكون بلا أفق تحرري حقيقي، إذا لم تتجاوز الواجهات المتغيرة للدولة العميقة (بشخوصهم وتنظيماتهم)، لتحدد عدوها الحقيقي الذي يقف وراء الجميع: النواة الصلبة لمنظومة الاستعمار الداخلي، وما يشرعن امتيازاتها المادية والرمزية في السردية البورقيبية؛ تحريرا وتنويرا.
وما يرتبط بها من خيارات كبرى لم تستطع الثورة -ولا تصحيح المسار على الأقل إلى هذه اللحظة- أن يعيدا ترتيب العلاقة معها بمنطق التجاوز الجدلي (أي التجاوز الذي يحتفظ بالإيجابيات دون تقديس، ويتجاوز السلبيات دون شيطنة).

ختاما، لا شك عندنا في أن العهدة الرئاسية الثانية، تجعل الرئيس في وضع تفاوضي أفضل مع مكونات منظومة الحكم (وهي في أغلبها مكونات مرتبطة بالفلسفة السياسية البورقيبية وبنظام المخلوع)، ولكنّ مواجهة البورقيبية وما يرتبط بها من شبكات ريعية زبونية وجهوية (أي ما يمكن تسميته بالنواة الصلبة للخطر الجاثم)، لن يكون عملا سهلا أو دون مخاطر. فـ"حرب التحرير الوطني" التي تعدّ البورقيبية قاعدة الاستعمار غير المباشر (سياسا واقتصاديا وقيميا)، لن تواجه فقط "منظومة الاستعمار الداخلي"، بل سيكون عليها مواجهة القوى الخارجية التي ما زالت تحرص على بقاء تونس دولة تابعة لا تتجاوز فيها السيادة على القرار الوطني فصول الدستور.

ولا شك عندنا في أن "حرب التحرير الوطني" ستكون بلا أفق تحرري حقيقي، إذا لم تتجاوز الواجهات المتغيرة للدولة العميقة (بشخوصهم وتنظيماتهم)، لتحدد عدوها الحقيقي الذي يقف وراء الجميع: النواة الصلبة لمنظومة الاستعمار الداخلي، وما يشرعن امتيازاتها المادية والرمزية في السردية البورقيبية؛ تحريرا وتنويرا.

x.com/adel_arabi21
الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع