اقتصاد عربي

مؤشرات قوية على تراجع قيمة الجنيه في مصر وعودة السوق السوداء للدولار

رئيس الوزراء مصطفى مدبولي أوضح أن سعر الصرف متروك "للعرض والطلب"- عربي21
مع بدء خبراء صندوق النقد الدولي 5 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، في القاهرة، إجراءات المراجعة الرابعة للاقتصاد المصري في إطار قرض من المؤسسة الدولية المقرضة إلى حكومة القاهرة بـ8 مليارات دولار، تراجعت قيمة الجنيه المصري بشكل ملفت من نحو 48.70 جنيه في نهاية تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، إلى حوالي 49.23 جنيه للشراء، و49.37 للبيع، وفقا لأسعار البنك المركزي، الخميس الماضي.

لكن خبراء ومحللين ومراقبين ومتعاملين أجمعوا على أن الجنيه إلى تراجع أكبر، لم يستطيعوا تحديد قيمته، في حين أكدوا أن "السوق السوداء" أو (الموازية)، التي تقلصت بشكل كبير لنحو 6 أشهر، منذ التعويم الأخير للعملة المحلية في آذار/ مارس الماضي، والذي هبط بالجنيه من معدل 31 إلى نحو 48 مقابل الدولار، ستعود مجددا.

بعض من تحدثوا إلى "عربي21"، من الخبراء، أو من استطلعت آراؤهم في الشارع المصري، يرون بوجود تأثيرات عالمية وأخرى محلية، تقود إلى تراجع الجنيه هو الأكبر منذ تحرير سعر الصرف في الربع الأول من 2024، مع عودة السوق السوداء، وحدوث فجوة جديدة في سوق الصرف المحلي، بين السوق الرسمية والموازية.

وقالوا إن فوز دونالد ترامب بمنصب الرئيس رقم (47) للولايات المتحدة، وعودته للبيت الأبيض في ولاية ثانية حتى (2028)، يعزز قوة الدولار أمام عملات العالم وبالتالي أمام الجنيه، موضحين أن التوقعات الجارية حول تراجع أسعار الذهب عالميا، يقابلها كذلك تعزيز لقيمة الدولار عالميا.

وفي ندوة للمركز المصري للدراسات الاقتصادية، على نيل القاهرة الأربعاء الماضي، أعرب خبراء مصريون عن توقعاتهم بأن تشهد الأسواق المحلية ارتفاعا بسعر الدولار، مع ما يدفع به عودة دونالد ترامب للبيت الأبيض، من تعزيز لقوة العملة الأمريكية.

"تصريحات مدبولي وقرارات المركزي"
ومحليا، أعلن رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، الأربعاء الماضي، أن سعر الصرف متروك "للعرض والطلب"، ما يشير إلى احتمال رفع الحكومة يدها عن التحكم في سعر صرف الدولار، ما يعني وفق رؤيتهم تراجعا مؤكدا في قيمة الجنيه مقابل العملات الأجنبية.

وطالب مدبولي، المواطنين والقطاع الخاص والشركات بـ"وضع ثقتهم في مؤسسات الدولة، والتأكد بأنها لن تتدخل في هذا الشأن مستقبلا"، مضيفا: "أعلم أن الانطباع السائد لدى المصريين أن الدولة هي التي تتحكم في سعر العملة".

إلى ذلك أكد مراقبون أن الأمور ستتضح بشكل أكبر مع نتائج المراجعة الرابعة، ملمحين إلى احتمالات أن يطالب الصندوق بمرونة أكثر في التعامل الحكومي مع العملات الأجنبية، ما يقود كذلك إلى تراجع في قيمة الجنيه.



وسمح البنك المركزي المصري الاثنين الماضي، للبنوك بتمويل 13 سلعة ترفيهية وغير أساسية كانت تستوجب موافقة مسبقة منه قبل تدبير الدولار للعملاء، وذلك بعد أن أعاد تقييد تمويلها في أيلول/ سبتمبر الماضي، تجنبا لاستنزاف الحصيلة الدولارية في البنوك.

في السياق، قرر البنك المركزي الخميس الماضي، السماح باستيراد السيارات من الخارج وفتح البنوك اعتمادات مستندية للمستوردين، في قرارات تأتي تزامنا مع زيارة مديرة صندوق النقد الدولي كريستالينا غورغييفا لمصر الأحد الماضي.

ما يشير إلى أن الحكومة المصرية رفعت يدها بعض الشيء عن التحكم في سعر مدار للدولار مقابل الجنيه، ويقوي احتمالات زيادة الطلب على العملة الصعبة لدى البنوك المصرية.

ووفق رؤية مصرفيين يعد ذلك تخفيفا حكوميا من القيود على الدولار، يخالف توجه القاهرة السابق بتخفيف الضغوط على العملة الأجنبية والحد من تفاقم أزمة النقد الأجنبي وانتشار السوق السوداء لتجارة العملة، وذلك منذ أزمة شح النقد الأجنبي في الربع الأول من 2022، وهروب نحو 20 مليار دولار أموال ساخنة من السوق المحلية.

"السوق السوداء"
وإلى ذلك توقع البعض أن يكون هناك في المقابل، نشاط أكبر  عن ذي قبل للسوق السوداء لتلبية حاجة المستوردين مع احتمالات نقص العملة الصعبة في البنوك.

تجار سوق سوداء، قالوا إن الأسعار لأول مرة منذ شهور تفوق السعر الرسمي، متوقعين أن يستمر الأمر، فيما يعتقد متعاملون بوصول الدولار إلى 60 جنيها في السوق الموازية.

أرقام الجمعة، تؤكد وصول سعر بيع الدولار إلى 49.36 جنيه، و49.61 لسعر الشراء، في حين وصل سعر دولار سوق الصاغة 49.84 جنيه، وهو ما يقل عن أسعار السوق السوداء التي تتراوح بين 49.50 و49.60  جنيه لكل دولار، بحسب تأكيد تجار ومتعاملين، توقعوا صعودا جديدا مع بداية تعاملات الأسبوع.

"الديون.. وجدول سداد قاس"
وتحدث خبراء، عن تأثير أزمة الدين الخارجي في تعميق أزمة الجنيه وتراجعه بمقابل الدولار، موضحين أن المطلوب من مصر سداده كخدمة للدين كبير، بالتزامن مع تراجع ملف الطروحات مؤخرا، وتراجع إيرادات قناة السويس بنسبة 70 بالمئة بسبب التوترات الإقليمية، وفقا لتصريحات رئيسة صندوق النقد، الأحد الماضي.

وبينما بلغ حجم الدين الخارجي رسميا خلال النصف الأول من العام الحالي 152.9 مليار دولار، فإن البنك الدولي كشف في 24 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي عن جدول سداد الديون الخارجية لمصر بالعام المالي الجاري، حيث يستوجب سداد 60.8 مليار دولار من تموز/ يوليو الماضي حتى حزيران/ يونيو 2025.

كما يجب على البنك المركزي، سداد 20.8 مليار دولار من الودائع خلال العام المالي الجاري، وسداد سندات بقيمة 3.3 مليار دولار، في حين يتضمن جدول السداد، قروضًا بقيمة 31.04 مليار دولار من جهات مختلفة، بجانب سداد 21.7 مليار دولار بالعام المالي المقبل (2025-2026)، وفقا لجدول البنك الدولي.

وفي ندوة المركز المصري للدراسات الاقتصادية، توقع متحدثون زيادة الطلب على الدولار، مع حلول آجال الكثير من فوائد وأقساط الدين الخارجي، الذي يمثل 90 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، بالعام المالي السابق، وفقا لتأكيد رئيس الوزراء المصري، في حديثه للصحفيين من العاصمة الإدارية الجديدة، الأربعاء الماضي.

وقال الشريك التنفيذي بـ"زيلا كابيتال"، عمر الشنيطي، إن هناك التزامات مالية بأرقام كبيرة على مصر حتى نهاية عام 2025، لافتا إلى أن تكلفة الدين ارتفعت في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، بعد الانخفاض الذي شهدته خلال الفترة الماضية، وهو ما يرتبط برؤية المستثمرين للسوق ومدى ثبات سعر الصرف وما يحدث في الإقليم.

وعن أهم مؤشرات تراجع الجنيه مقابل الدولار وأسباب ذلك، ونسب التراجع المتوقعة، واحتمالات انتعاش السوق السوداء، وتأثير ذلك على المواطن المصري، تحدث خبراء مصريون لـ"عربي21".

"أزمة كل مراجعة"
وقال رئيس الأكاديمية الأوروبية للتمويل والاقتصاد الإسلامي الدكتور أشرف دوابه، "الرؤية الاقتصادية تقول إن مصر متجهة إما إلى تخفيض العملة المحلية مقابل العملات الأجنبية أو إلى تعويم جديد، عقب تعويم آذار/ مارس الماضي".

الأكاديمي المصري ورئيس التمويل والاقتصاد بجامعة "إسطنبول"، أوضح أن "هذا التوجه يأتي نتيجة طبيعية لاحتياجات حكومتها الملحة من العملة الصعبة وهذا واضح تماما مع المؤشرات والأرقام المتوالية التي تؤكد حاجة البلاد للنقد الأجنبي".

ويرى أن "هذا الأمر متكرر وليس جديدا هناك لأن الموضوع متوقع منذ تمت موافقة صندوق النقد الدولي على قرض المليارات الثلاثة في كانون الأول/ ديسمبر 2022، ثم رفع قيمته 5 مليارات مرة واحدة ليصبح 8 مليارات في آذار/ مارس الماضي".

وبين أنه "في كل مرحلة من مراحل القرض والتي يسبقها مراجعة للاقتصاد المصري من قبل الصندوق ثم صرف شريحة فإنه من المتوقع مع المراجعة الرابعة وصرف الشريحة الرابعة بقيمة 1.3 مليار دولار، أن يتعرض الاقتصاد والمواطن المصري لنفس المشكلة، مع احتمالات تراجع قيمة الجنيه مقابل العملات الأجنبية".

"رسالة للصندوق والأموال الساخنة"
وفي اعتقاده، قال الخبير الاقتصادي المصري الدكتور عبدالنبي عبدالمطلب، إن "تراجع قيمة الجنيه مجرد رسالة يوجهها راسمو السياسات النقدية وتوجهها الحكومة لأكثر من جهة بأنها تنتهج سياسات سعر صرف مرن، وأنه لا يوجد ثبات لسعر الصرف، ولا يوجد تدخل من قبل البنك المركزي في سوق العملة".

وأشار المسؤول المصري السابق في وزارة الصناعة والتجارة، إلى أن "مصر اليوم لديها احتياطي من النقد الأجنبي أكثر من 46 مليار دولار، وهناك توجيهات من البنك المركزي، للبنوك، بتوفير التمويل المطلوب لاستيراد كل السلع بما فيها غير الأساسية".

ويرى في "مسألة انخفاض قيمة الجنيه أمام الدولار بشكل متوال خلال الأسبوعين الماضيين رسالة إلى صندوق النقد الدولي، وجزء منها محاولة لإعداد المجتمع الاقتصادي لقبول سعر دولار يتراوح بين 50 إلى 55 جنيها لكل دولار، دون تدخل حكومي أو تعويم أو قرار من المركزي، بحيث يترك الدولار يزيد وينقص بمقدار 10 بالمئة من قيمته، ما يعني 5 جنيهات، وقد يتراوح من 47 أو 49 إلى 52 أو 53 جنيها أو بين 50 و55".

وبشأن احتمالات انتعاش السوق الموازية، قال إن "السوق السوداء لم تختف لكنها ليست كما كانت عليه في السابق، مثلما كانت بين تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، وحتى شباط/ فبراير الماضي، حيث كانت هناك سوق سوداء بمعنى الكلمة، والكل كان يتاجر في الدولار، أصحاب شركات صرافة، والناس العاديون، ومن كان لديهم أموال للاستثمار، وتحول الدولار لسلعة استثمارية وصلت 75 جنيها في فترة سابقة".

وأكد أن "السوق الموازية أو سوق تبادل الصرف خارج السوق الرسمية موجودة دائما؛ ولكنها في نطاق ضيق، وسابقا، كان هناك طلب كبير من مستوردين يحاولون تلبية حاجتهم من النقد من تلك السوق في طلب بعدة مليارات، ولكن نتحدث الآن عن أرقام هزيلة لا تزيد عن 100 مليون دولار، وهو رقم لا يؤدي لظهور سوق سوداء بحجم ما كان في السابق".

ويرى أن "المؤشرات المذكورة سابقا تكشف عن احتمالات تحرك سعر الدولار، وبشأن ما إذا كان هناك سوق سوداء من عدمه"، لكن الخبير المصري، قلل من احتمالات التحرك الكبير.

وقال إن "ما يحدث الآن أن هذا التراجع في قيمة الجنيه لم يقابله ارتفاع في أسعار السلع، بل ربما بعض السلع التي وصلت لأسعار خرافية بدأت أسعارها تثبت أو تتراجع، وهذا هو المؤشر الذي يقول إنه لا توجد سوق سوداء كما كانت سابقا".

وعاد ليعرب عن مخاوفه من أن "تُصدر الحكومة مجموعة قرارات تعيد التضييق على الاستيراد أو تحد من تمويل واردات بعينها؛ مثل واردات الأعلاف التي تؤثر مباشرة في كل أشكال الغذاء بداية من البيض واللحوم البيضاء، أيضا بعض المواد الغذائية المستوردة الأخرى وفي مقدمتها السكر".

وتابع: "في ظل عدم وجود أي قواعد جديدة تقيد حركة الاستيراد ففي اعتقادي أن معاناة المواطن الذي يعاني بالفعل، لن تكون هناك إضافة كبيرة لها، ولن تكون بالكم الذي عاشه في عامي 2022 و2023".

وبشأن تأثير خدمة الدين على توافر العملات الأجنبية، قال: "معروف أنه لدينا جدول لسداد الفوائد والأقساط وأن الحكومة كانت تجد صعوبات في تدبير موارد النقد الأجنبي لأجل سداد خدمة الدين؛ لكن في ظل الظروف الحالية فمصر لديها ما تستطيع أن تسد به هذه الالتزامات دون أن يكون هناك مشاكل أو تأخير، بالإضافة إلى وجود مؤشرات ببيع أصول عامة ومناطق سياحية وغيرها، ما يعني تدفقات نقدية دولارية تقضي على مشكلة النقد الأجنبي".

وخلص للقول: "انخفاض سعر الجنيه الآن، جزء منه موجه للمؤسسات الدولية، وجزء منه موجه إلى المستثمرين الأجانب في الأموال الساخنة، بأن الجنيه ينخفض والدولار يرتفع، وأن هذه فرصة لأجل الاستثمار".

وأضاف: "خاصة وأن لكل مرحلة نقطة ارتداد، والدولار اليوم بنحو 50 جنيها ومتوقع وصوله إلى 55 جنيها، لكنه لن يستمر 4 أو 5 سنوات عند هذا المستوى، لكن ستبدأ لاحقا مرحلة الاستقرار، وتبدأ مرحلة الارتداد مثلما حدث عام 2017 و2019، بعد تعويم 2016، من تراجع قيمة الدولار وثباتها".

وختم حديثه متوقعا: "سيعود الدولار مرة أخرى ليلامس ما بين 40 و45 جنيها لكل دولار، وبهذا الشكل يكون المستثمر قد كسب إلى جانب سعر الفائدة في مصر، الفرق بين سعر الصرف من 55 جنيها إلى 45 جنيها يعني مكسب 10 جنيهات لكل دولار، وذلك بجانب أرباحه من الاستثمار".