الكتاب: تاريخ القرصنة في العالم
الكاتب: ياتسيك ماخوفسكي، ترجمة أنور
إبراهيم
الناشر: مؤسسة هنداوي عام 2022
عدد الصفحات: 278 صفحة
ـ 1 ـ
يعود الكاتب ياتسيك ماخوفسكي في أثره "
تاريخ القرصنة في العالم"، إلى أزمنة الإغريق والرومان والقرطاجنيين في حوض
البحر الأبيض المتوسط ما قبل الميلاد؛ فيعرض بداية ظهور أعمال القرصنة، ثم
يتدرج من القرون الوسطى إلى العصور الوسطى والحديثة في البحر
الكاريبي وبحار أمريكا الشمالية والمحيط
الهادي وبحار الجنوب. ويبحث في مدى إسهام القراصنة في تشكيل التحالفات بين الدّول، بعد أن أصبحوا يشكلون جيوشا غير نظامية. ويحاول من وراء ذلك، أن يسد فراغا في
المكتبة الروسية، اللغة الأصلية للكتاب، وفق مؤلفه. فيردّ نشأة هذه الظاهرة إلى
الفينيقيين أولا، ثم لجأ إليها الإغريق لاحقا، خاصّة قبائلهم المقيمة على السواحل، وإليها يرد الفضل في ظهور الملاحة البحرية.
ـ 2 ـ
ورغم قيام القرصنة على النهب والاستيلاء على
أملاك الغير، عدّت عند الإغريق حرفة رفيعة المنزلة، فتغنوا بها في ملاحمهم؛ فأخيل
بطل حرب طروادة مثلا، يعترف بفخر في الإلياذة بأنَّه احترف القرصنة. أما بوليكراتس
طاغية ساموس في أواخر القرن السادس ق م، الذي اشتهر بإحسانه للمواطنين الفقراء،
ورعايته للفنون والعلوم، وتقريب أبرز الشعراء والمعماريين والأطباء إليه، فقد بنى
مجده من القرصنة ومن سيطرة أسطوله الضخم على بحر إيجة، وبعد أن استولى على ساموس
بمساعدة أخويه، قتل أولهما (بانتاجنوت)، ونفى أخاه الآخر (سيلوزدن)، ليستأثر
بالسلطة كلّها، وليضاعف ثرواته من الإتاوات الضخمة التي كان يفرضها على قباطنة
السفن.
تمثّل القرصنة موضوعا بالغ الأهمية، يمكن للمرء أن ينظر منها لتاريخ العالم من زاوية مختلفة، وينتهي إلى نتائج جديدة.
يفسر الباحث تحويل الإغريق للقرصنة إلى قيمة إيجابية، رغم ثقافتهم الروحية الرفيعة، إلى فقرهم المادي مقارنة بجيرانهم
الفينيقيين. "وهكذا، فكلما سار تطور التجارة إلى الأفضل بالنسبة للفينيقيين،
وازدادت الثروات المنقولة على مراكبهم، اشتدت عملية السطو في بحر إيجة"، وكان
على الفينيقيين أن يدفعوا الأموال للصوص البحر، في هيئة فدية وتعويضات سخية.
ـ 3 ـ
أصبح القراصنة لاحقا من القوة والتنظيم، ما
خوّل لهم إنشاء دويلات ومكّنهم من عقد الاتفاقيات مع الدّول الكبيرة، وكانوا
يعوّلون على الهجومات المباغتة ليلا بعد أعمال تجسس دقيقة، فيسرقون الحلي الثمينة
والمشغولات الفضية والذهبية، وينهبون المعابد ويختطفون النساء والأطفال، لبيعهم
بأسعار باهظة في أسواق الرقيق المنتشرة في بلدان البحر الأبيض المتوسط، أو
يحاصرون الجزر، ويجبرون السكان على دفع الإتاوات، وإبَّان رسو مراكبهم على الشواطئ، يتحوّلون إلى قطاَع طرق.
وعلى خلاف الإغريق، كان الرومان أكثر صرامة
مع القراصنة. يذكر الكاتب وفق سرد أدبي بيّن، تعرض يوليوس قيصر، الجنرال والقائد السياسي والكاتب الروماني وقائد الجيوش الرومانية في حروب الغال الأهلیة، لهجوم
القراصنة لما نفاه لوسيوس كورنيليوس سولا القائد والديكتاتور (138 ق.م-78 ق.م) من
روما، وانتقامه لاحقا بإعدام ثلاثمائة وخمسين منهم وصلب ثلاثين من قادتهم، وهذا
ما خلّص شعوب البحر الأبيض المتوسط من خطرهم لزمن. ولكن بعد موته سنة 44 ق. م، ستعود القرصنة من جديد؛ فقد كان بأسهم يشتدّ
كلما كان الإمبراطور الجالس على العرش أضعف. واستمرّ الوضع حتى سقوط إمبراطوريتهم
في القرن الخامس الميلادي.
ـ 4 ـ
لأسباب حضارية تعني التاريخ الإسلامي، نكون
أكثر انتباها إلى الفصل المهم الذي يخصصه الأثر للحديث عمن أسماهم بقراصنة البربر، فقد اقترنت مراكز قوى القراصنة في القرون الوسطى بهم، فيقدّر أنهم تولوا تمزيق خطوط الملاحة والتجارة في البحر
الأبيض المتوسط، بدءا من عام 1440 ميلادية، وعلى مدار ثلاثة قرون، لما أخذت دولة
الحفصيين في التفكك، وجعلت دويلات صغرى تحلّ محلها، فأمكن لحركة القرصنة هذه، وفق
الكاتب، أن تستولي على معظم الموانئ الكبرى في شمال أفريقيا، شأن موانئ طرابلس
وتونس والجزائر، فمارسوا النهب البحري على نطاق واسع. ويردّ سطوتهم إلى إبرام محمد
بن الحسن آخر حكام الدولة الحفصية، معاهدة
مع الأخوين بارباروس؛ فقد خوّل لهما الهيمنة على جزيرة جربة، مقابل مبلغ من المال
وقدر دائم من الغنائم.
ينتهي الكاتب إلى أن قراصنة البربر القادمين
من جزيرة جربة، كان، [يحدوهم الإحساس بارتباطهم الديني والاقتصادي بالأتراك،
بالوقوف ضد أعدائهم، مُغيرين على السواحل الجنوبية لكلّ من إسبانيا وإيطاليا
وفرنسا، حيث كانوا يُعملون النهب في الموانئ المحلية الغنية، ويأسرون الآلاف من
السكان. كان الأغنياء منهم يدفعون فدية ضخمة، بينما كان الفقراء يبقون ليرزحوا في
أغلال العبودية.
على هذا النحو، تعاظمت القدرة الاقتصادية والسياسية للقراصنة
البربر، وما هي إلا سنوات معدودة، حتى استولوا تقريبا على الساحل الشمالي المطلِّ
على البحر الأبيض المتوسط]. ويصف تنصيب عروج (1447- 1516) لنفسه سلطانا على
الجزائر باسم بارباروس الأول، بظهور أول دولة للقرصنة في شمال أفريقيا، رغم
انتباهه إلى الصلات العميقة بين ازدهار عمل القرصنة في المتوسط، ومحاولة الإسبان
التوسع شرقا على حساب بلدان شمال أفريقيا.
ـ 5 ـ
يختتم الأثر بالبحث في القرصنة في العصر
الحديث. فيؤكد تراجعها مع انتهاء القرن التاسع عشر، وعدم تمثيلها خطرا حقيقيّا على الملاحة البحرية، مستثنيا
بعض أعمال النهب البحري الفردية، خاصة في البحر الأحمر وفي البحار المتاخمة للصين.
ومع ذلك، يعرض تحول القرصنة في عشرينيات القرن الماضي وثلاثينياته، إلى أشكال منظمة
تجعلها شبيهة بالمؤسسات الرأسمالية، ممثلة في هيكل يستأجر بعض المرتزقة الذين
يتولون البحث عن الأهداف المفترضة.
وفي فترة الحربين العالميتين وما بينهما،
ظهرت قرصنة من نوع جديد؛ فقد قصف الألمان السفينة ـ المستشفى الإنجليزية "ليندوفيري
كاسل"، بقذائف الطوربيد قرب شواطئ إيرلندا، رغم بروز الإشارات التي تكشف
طابعها السلمي، ثم لاحقوا قوارب النجاة
التي لجأ إليها الضحايا لطمس جريمتهم. وظهرت أعمال إجرامية تنفذها الأساطيل
البحرية ضد السفن التجارية التابعة للدول المحايدة. وتعرضت السفينتان السوفيتيتان "تميريازيف"
و"بلاجوييف"، اللتان كانتا تبحران عبر البحر المتوسط، إلى هجمات لم يتم تبنيها من قبل أي طرف، ولكن
السوفييت احتجوا لدى إيطاليا الفاشية، واتهموها بالضلوع في الهجوم رفقة القوات الألمانية.
في المقابل، قادت الدول البحرية الكبرى الجهود
منذ نهاية القرن التاسع عشر وفي غير سياق الحرب، عمليات مشتركة؛ بهدف القضاء التام
على النهب البحري، وتم ذلك وفق الباحث، نتيجة للانتقال من الاقتصاد الإقطاعي إلى
الاقتصاد الرأسمالي، فعندها بات ينظر إلى القراصنة باعتبارهم أفرادا خارجين على
القانون، صيغت مبادئ عامة، وقواعد قانونية، تدين القرصنة، وتحمي مبدأ حرية
التجارة. وكانت الولايات المتحدة الأمريكية، تقدّر عند العمل على وضع تشريع القانون
الدولي في عام 1962 "أن القرصنة بهذا الشكل الذي يُعنى به القانون الدولي لم
يعُد لها وجود تقريبا؛ ولهذا فإن دراسة هذه المشكلة من وجهة نظر ضرورة معالجتها
من خلال اتفاقية دولية، ليس لها في الوقت الحالي مغزى كبير".
ولكن لم يتم القضاء عليها قضاء نهائيّا،
فبعض الأعمال لا تزال تجدّ اليوم هنا أو هناك. وفضلا عن ذلك، ظهرت قرصنة جديدة
تُمارس بإيعاز من بعض الدول، فتصادر سفن بعض الدّول بطريقة غير قانونية، ويتم الاستيلاء على حمولتها أو
إغراقها في
عرض البحر؛ بتعلة مقاومة الإرهاب أو منع الدول المحاصرة من توريد السلع
أو تصديرها. وهذا ما جعل فُقهاء القانون يعيدون تعريف القرصنة، فيؤكدون أنها تشمل كل الأعمال الإجرامية التي
تهدد أمن الملاحة البحرية.
ـ 6 ـ
يعرض الكتاب تاريخ القرصنة في بقاع مختلفة
من العالم على مدار تاريخ البشرية إذن. ولكن يعنينا منه خاصّة، ما تعلّق
بـ"قراصنة البربر"؛ فقد بدا ملمّا بطبيعة الصدام بين الدولة العثمانية
والإسبان غير المباشر في حوض المتوسط، منذ بدايات حرب الاسترداد التي أفضت إلى سقوط
الأندلس وشبه الجزيرة الإيبيرية، مدركا أنّ قراصنة شمال أفريقيا كانوا يمثلون قوات
غير نظامية، تعمل على السيطرة على البحر الأبيض المتوسط، وأنّ معظم عناصرها هم من
أحفاد المسلمين الذين طردوا من إسبانيا، آخذا للبعد الديني لهذه المعارك بعين
الاعتبار. فما كان يجدّ من الصدام، هو في الأصل "حرب ضد قوات الهلال تحت
القيادة الروحية للبابا"، ممثل المعسكر المسيحي.
لأسباب حضارية تعني التاريخ الإسلامي، نكون أكثر انتباها إلى الفصل المهم الذي يخصصه الأثر للحديث عمن أسماهم بقراصنة البربر. فقد اقترنت مراكز قوى القراصنة في القرون الوسطى بهم، فيقدّر أنهم تولوا تمزيق خطوط الملاحة والتجارة في البحر الأبيض المتوسط، بدءا من عام 1440 ميلادية، وعلى مدار ثلاثة قرون، لما أخذت دولة الحفصيين في التفكك، وجعلت دويلات صغرى تحلّ محلها.
ولكنه مع ذلك، ينتهي إلى استنتاجات متسرعة
غير منسجمة مع هذا التمشي التحليلي؛ فالإسبان، عنده، اتجهوا إلى جربة ثم إلى الجزائر، لا لبسط نفوذهم على العالم
الإسلامي ضمن خططهم التوسعية، وإنما "لما أصابهم من الذعر جراء النهب البحري
الذي استشرى في البحر الأبيض المتوسط - بتنظيم حملة مسلحة شقَّت طريقها نحو شمال
أفريقيا، واستهدفت القضاء على أوكار القرصنة فيه، على أنَّ التوفيق لم يحالفها في
تدمير جربة، فيممت إلى الجزائر". والجزائر عنده تمثل "أول دولة للقرصنة
في شمال أفريقيا".
ورغم إقراره بأن" المغاربة يقدرون
أصحاب الحرف والفنانين والأطباء تقديرا رفيعا، وكانوا كثيرا ما يُعيدون العبيد
إلى حريتهم، وقد اختلط الكثير من هؤلاء بالسكان، وتزوجوا منهم، واعتنق بعضهم
الإسلام، وارتدوا العمائم، وذهبوا للعمل كقراصنة"، فإنه لا يفهم من ذلك أنّ
المسلمين كانوا يحسنون إلى الأسرى من منطلق قيمهم الدينية. فيرى أنهم يعاملونهم
"في الغالب ببساطة كما يعاملون الماشية، معتبرين أنهم كلما أحسنوا تغذيتهم
ومعاملتهم، كان هؤلاء أكثر إنتاجية لهم في العمل. كان هؤلاء المسلمون يتميزون
كثيرا عن المسيحيين الذين كانوا يعاملون عبيدهم من المسلمين معاملتهم للمرتدين،
أما ما كان يعنيه هذا الأمر إبان عصر التفتيش؛ فالأمر لا يحتاج إلى تفسير".
فيؤكد ظاهرة تلازم أغلب الغربيين كلّما
فكروا في الحضارة العربية الإسلامية، هي عدم بذل الجهد لفهمها والاكتفاء برؤية
تبسيطية متعالية.
ـ 7 ـ
تمثّل القرصنة موضوعا بالغ الأهمية، يمكن
للمرء أن ينظر منها لتاريخ العالم من زاوية مختلفة وينتهي إلى نتائج جديدة، ومن هنا، مأتى أهمية هذا الكتاب. ولكن للأسف، غلب على الأثر الطابع التجميعي من المراجع
المختلفة دون تحقيق، وساد سرد التفاصيل بإسهاب أقرب إلى التخييل الأدبي منه إلى
النقل التاريخي الرصين المتوخي للدّقة؛ فكان شديد الحساسية للمراجع التي يستند
إليها، فتأثر بالملاحم بجلاء في حديثه عن القرصنة عند الإغريق قبل الميلاد، وتأثر
بوجهة النظر المسيحية والإسبانية، خاصّة عند الحديث عن قراصنة القرون الوسطى، ثم
تأثر بوجهة النظر السوفييتية عند عرض القرصنة الحربية في عشرينيات القرن الماضي
وثلاثينياته.