إن سقوط الأنظمة
الديكتاتورية والطغم الحاكمة، لا يعني بشكل من الأشكال التخلص من ذيولها المادية،
وبراثنها وأيديولوجياتها، وآثارها النفسية والاجتماعية، على المجتمعات والشعوب التي
كانوا يتحكمون بها قمعا وتنكيلا بما يحقق مصالحهم واستمرار حكمهم الاستبدادي.
إن ما حدث في يوم
8 كانون الأول/ ديسمبر 2024 في
سوريا، يشكل حدثا تاريخيا استثنائيا في تاريخ
الشعوب، التي تنزع إلى الحرية والديمقراطية والتحرر من قيود الديكتاتورية، ويفتح
صفحة جديدة ستُكتب فيها أحداث فريدة ختمت حقبة مؤلمة امتدت لنحو 54 عاما من حكم آل
الأسد؛ حقبة لم يعانِ منها الشعب السوري فحسب، بل شعوب المنطقة كلها.
وإذا كانت بعض
الأصوات من يساريين سابقين أو حاليين أو من القومجيين الذين يدّعون العروبة الميتة،
أو تلك الحفنة المثقفة العدميّة التي تأقلمت مع الجدال العقيم، وتقوقعت بفكرها
اللادياليتيكي، أو تلك الأقلام التي تعودت على الانتقاد الجارح والمشبوه، وليس على
النقد البناء المنتمي، أو ما صدر عن تلك الأصوات التي تعمل وفق أجندات مالية
معروفة المصدر، أو عن أولئك السذج البسطاء الذين يعارضون
التغيير لمجرد الخوف
والخشية من تكرار ما حدث خلال الفترة الأخيرة منذ بدء
الثورة في 15 آذار/ مارس 2011
وحتى سقوط النظام؛ فإن كل هؤلاء المذكورين آنفا لهم الحق في التساؤل والخوف على مستقبل
البلد، الذي أضحى شبه وطن يعاني وعانى طويلا، لا سيما أن الكثير من الأمور التي
شهدتها التطورات والإجراءات الأخيرة يكتنفها الغموض، وتحتاج إلى إجاباتٍ واضحةٍ
وصريحة.
التعاون من أجل إنجاح الدولة، وليس إسقاطها؛ لأن إسقاطها يعني انهيار وضياع الوطن. وما الدول إلا أداة لبقاء الأوطان وازدهار الشعوب والحفاظ على المنجزات، وهذا بدوره لا يعني أن كل ما كان في حقبة الـ54 عاما من الأسدية الظالمة يجب تدميره؛ فهناك ما بناه وأنجزه أبناء الشعب الشرفاء، وهذا ما يجب العمل على إصلاحه وتطويره
ولكن الاختلاف هنا -وليس الخلاف- أن هذه الأصوات لم تترك للقيادة الجديدة
فرصا للإجابة على هذه التساؤلات، وفرصا أخرى للتعبير عن المزيد من أفعالهم وسلوكياتهم
ومواقفهم إزاء كل القضايا التي يطالب بها هؤلاء المشككون، أو أصحاب النوايا
والتساؤلات الطيبة الإيجابية. ولربما كانت براغماتية القيادة الجديدة المنهمكة
بالشأن الداخلي التنظيمي والخدمي والأمني يعيقها من التفرغ لهذه المخاوف المشروعة،
والتساؤلات المحقة بمعظمها.
وعليه، بات
المطلوب من السوريين كشعب عموما، وهيئات محلية ومكونات مختلفة، والنخب المجتمعية
من مثقفين وأكاديميين وتجار وصناعيين وحرفيين، أن يسعوا إلى تحقيق بوادر السلم
الأهلي بين مختلف الطوائف والأقليات والمذاهب؛ وذلك بنبذ
الخطاب التقسيمي ورفع
شعار "سوريا للجميع"، وللانطلاق إلى مرحلة البناء الاقتصادي والخدمي، التي
هدمها النظام البائد، والسعي أيضا لمحاربة الفساد بكل أشكاله، والامتثال للقوانين
الأخلاقية قبل المدنية، والبدء بعملية إعادة بناء النظام التعليمي التربوي الذي
ينتج الإنسان الملتزم وطنيا بواجباته وحقوقه على حد سواء، والذي يبني الإنسان
الواعي لواقعه، والقادر على مواجهة التحديات وحل المشكلات، والإنسان القادر على
تحقيق ذاته بالابتعاد عن الاستئثار بالمقدرات واستغلال الآخرين.
والأكثر من ذلك،
المطلوب من أبناء سوريا على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم وعقائدهم، ومذاهبهم
وطوائفهم، العمل على إعادة الاعتبار إلى قيم التعاون والتشاركية ونكران الذات
والشهامة والتضحية وحب الغير واحترام الرأي والرأي الآخر، لتعود مجتمعاتنا خالية
من بذور الحقد وروح الانتقام والتدمير والتخريب ونبذ الفرقة والتشرذم، وذلك عبر
عملية توعوية تشارك فيها المؤسسات والأفراد والأسر.
إن كل ما سبق
يدفعنا إلى التعاون من أجل إنجاح الدولة، وليس إسقاطها؛ لأن إسقاطها يعني انهيار وضياع
الوطن. وما الدول إلا أداة لبقاء الأوطان وازدهار الشعوب والحفاظ على المنجزات،
وهذا بدوره لا يعني أن كل ما كان في حقبة الـ54 عاما من الأسدية الظالمة يجب
تدميره؛ فهناك ما بناه وأنجزه أبناء الشعب الشرفاء، وهذا ما يجب العمل على إصلاحه
وتطويره.
إن الثورة تعني
تغييرا شاملا لكل جوانب الحياة، وإعادة بناء وليس تدمير الدولة، بل تعني التخلص من
نظام الفساد والظلم، وتعني نشر العدالة والمساواة بين أبناء الوطن الواحد، وضمان
حرية الرأي والتفكير والتعبير والعقيدة، بإطارٍ حرٍ ديمقراطي مؤسساتي يقود إلى حياة
كريمة للمواطن وإلى الازدهار والتنمية الشاملة للبلاد.
أمام هذا الواقع الجديد الذي انتظره السوريون لعقود طويلة، فإن التحديات جسام أمام القيادة الجديدة. إذ إنه يتطلب إشراك كافة مكونات الشعب السوري لقيادة التغيير المنشود، وذلك من خلال فتح الحوار مع هذه المكونات، وهذا يعني عدم إغفال أو تجاهل أي مكوّن في سوريا، بل تكريس التعددية والتشاركية السياسية، والعمل على تعديل دستورٍ يحمي الجميع ويصون الحقوق والحريات العامة، وصياغة قانون محاسبة من تلوث يده بالدم
أمام هذا الواقع
الجديد الذي انتظره السوريون لعقود طويلة، فإن التحديات جسام أمام القيادة الجديدة.
إذ إنه يتطلب إشراك كافة مكونات الشعب السوري لقيادة التغيير المنشود، وذلك من
خلال فتح الحوار مع هذه المكونات، وهذا يعني عدم إغفال أو تجاهل أي مكوّن في سوريا،
بل تكريس
التعددية والتشاركية السياسية، والعمل على تعديل دستورٍ يحمي الجميع ويصون
الحقوق والحريات العامة، وصياغة قانون محاسبة من تلوث يده بالدم؛ لتهدئة خواطر ذوي
ضحايا النظام في سجون الإجرام، والمحاسبة القانونية لأولئك الذين تجرّأوا على قمع الشعب
المطالب بالحرية، ودفعه إلى التهجير بعد تدمير أملاكهم والاعتداء على أرواحهم،
وهذا لا يتناقض مع روح التسامح البعيد عن الثأر والانتقام الذي أعلنته القيادة
الجديدة.
كما يجب العمل
على إعادة الاعتبار لمؤسسات الدولة وبنائها من جديد على أسس ديمقراطية واضحة، وعدم
إطالة فترة المرحلة الانتقالية. ولتحقيق الأمن والاستقرار الأهلي وضبط الواقع
الأمني، المطلوب التصدي لكافة التجاوزات والخروقات؛ من خلال إعادة تشكيل قوات
الأمن والشرطة، وإعادة بناء جيش وطني على أسس سليمة يضم كافة الفصائل المسلحة
للدفاع عن الوطن ضد الأخطار الخارجية.
وعلى صعيد
التحديات الخارجية، فإن القيادة الجديدة مطالبة بالانحياز لمواقف الشعب برفض
التدخلات الخارجية وإملاءاتها، والحفاظ على السيادة الوطنية ووحدة أراضي سوريا
ومنع تقسيمها، كذلك العمل على إزالة كل القواعد الأجنبية وانسحاب جميع القوات
الأجنبية، والوقوف بوجه الاعتداءات ومواجهة الاحتلال الإسرائيلي حفاظا على سيادة
وكرامة الوطن، والعودة إلى الحاضنة العربية، والاحتفاظ بعلاقات حسن الجوار مع
الدول الشقيقة والصديقة، بما يضمن سيادتها وعدم التدخل بشؤون الآخرين.
إن الاكتفاء بخلع
الزي العسكري، وقص اللحى، واعتماد الخطاب الديني الذي ينسجم مع المزاج الشعبي
العام، وإطلاق التصاريح المطمئنة؛ لا يُقنع وحده بأننا أمام حالةٍ جديدة ومستقبلٍ
جديد يستحقه الشعب، ما لم يرتبط ذلك بممارسة عملية ديمقراطية واسعة وتشاركية وتعددية
سياسية من مختلف النخب، التي وقفت بوجه النظام الساقط، بعيدا عن ديكتاتوريةٍ جديدة
ونظامٍ قمعيٍ جديد.
ahmadoweidat2@gmail.com