ملفات وتقارير

"ثاروا وقاتلوا معا".. كيف تقاطع النضال السوري الفلسطيني على مدار عقود؟

لم تتقاطع معاناة وأحزان الفلسطينيين والسوريين فقط خلال العقود الأخيرة إنما هي ذات أصول تاريخية- منصة "إكس"
عبرت العديد من الشعوب العربية عن سعادتها وفرحتها بسقوط النظام السوري وانتهاء حقبة طويلة من القمع الدموي في البلاد من قبل حزب البعث وعائلة الأسد، إلا أن فرحة الفلسطينيين ربما كانت تعادل فرحة السوريين أنفسهم، خاصة في ظل حرب الإبادة الإسرائيلية المستمرة منذ نحو 16 شهرا.

ولم تكن فرحة الفلسطينيين مرتبطة بالحرية السورية الجديدة فقط، إنما أيضا بإمكانية عودة اللاجئين إلى مدنهم وقراهم وبيوتهم، وهي فرحة منتظرة أيضا من قبل سكان قطاع غزة الذين نزحوا من بيوتهم قسرا منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023.

ولم تتقاطع معاناة وأحزان وحتى فرحة الفلسطينيين والسوريين فقط خلال العقود الأخيرة، إنما هي ذات أصول تاريخية بعيدة متعلقة بالنضال المشترك والأرض الواحدة ورموز المقاومة المستمرة حتى الوقت الحالي.

القسام
لعل الشهيد السوري عز الدين القسام، الذي قضى مقاوما في الضفة الغربية المحتلة في 19 تشرين الثاني/ نوفمبر 1935، من أبرز معالم التقاطع التاريخية والنضالية المستمرة بين البلدين حتى الآن، فهو الذي بدأ مقاومة الاستعمار الفرنسي في سوريا، وعمل على دعم المقاومة في إيطاليا وليبيا، ووصل إلى فلسطين لمقاومة الانتداب البريطاني.

واستشهد محمد عز الدين عبد القادر القسام عام 1882، الذي ولد في قرية جبلة التابعة لمحافظة اللاذقية السورية، حينها مع ثلاثة من مجموعته في اشتباك مع قوات الانتداب البريطاني، وسبق ذلك سنوات من العمل الدعوي والمقاومة التي أسست لمرحلة الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936، واستمر اسمه حاليا مع كتائب الشهيد عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة حماس.

وتنقل القسام خلال سنوات حياته بين قريته وزاوية الإمام الغزالي التي تلقى فيها تعليمه الأولي، وبين القاهرة لإكمال دراسته في الأزهر، وإلى سوريا مرة أخرى في قرية جبلة حيث عمل إماما وخطيبا في مسجد إبراهيم بن أدهم، وأخيرا إلى فلسطين التي عمل فيها مدرسا وإماما في مدرسة البرج ومسجد الاستقلال.


وخلال سنوات تواجده في فلسطين، واصل القسام طريقه الذي بدأه ضد فرنسا وهو ما جعله هدفا رئيسيا لقوات الاستعمار، ووضعه تحت مطاردة واسعة ومجازر ارتكبت في القرى بحثا عنه، لذلك توجه القسام إلى حيفا وبدأ مرحلة جديدة من المقاومة.

ولا تقتصر علاقة القسام بالمقاومة الحالية في فلسطين على استخدام نفس الاسم لدى كتائب الشهيد عز الدين القسام الجناح العسكري لـ "حماس"، وليس حتى على تبني نهج العمل المقاوم المسلح رغم اختلال ميزان القوى، بل حتى برفض كل مغريات التنازل والاستسلام.

وحاولت فرنسا استمالة القسام بالعفو والمال والمنصب، فرفض كل شيء وقال للوسيط: "عد من حيث أتيت"، فصدر حكم بإعدام عز الدين وبعض رفاقه، ورصدت قوات الاحتلال جائزة كبيرة لمن يدل عليه.

وهذا الموقف كرره مؤسس حركة حماس أحمد ياسين الذي رفض فرصة الحرية والإفراج عنه مقابل تسليم جثة الجندي  إيلان سعدون الذي خطفته كتائب القسام في أيار/ مايو من عام 1989. 

تشكل المؤتمر السوري الكبير عام 1919 بعد عامين من صدور وعد بلفور، وكان في دمشق تحضيرا للجنة "كينغ كراين" لتقصي الحقائق بشأن مستقبل سوريا وبلاد الشام والتي تضم أيضا لبنان والأردن وفلسطين، وذلك بعد سقوط الدولة العثمانية.


وضم هذا المؤتمر 90 عضوا من مختلف أرجاء بلاد سوريا الكبرى، إضافة إلى أعضاء من القدس ونابلس وحيفا وعكا ويافا، وتلا بيانه الختامي محمد عزة دروزة سكرتير المؤتمر ومندوب نابلس على الجماهير المحتشدة في ساحة المرجة بدمشق في آذار/ مارس 1920.

وكانت فكرة إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين مرفوضة من عموم السكان في سوريا الكبرى، وعلى إثر ذلك عيّن الرئيس الأمريكي حينها وودرو ويلسون، في أثناء انعقاد مؤتمر الصلح بباريس عام 1919 لجنة تضم هنري كينغ، وتشارلز كراين، لتحمل اسمهما فيما بعد لجنة "كينغ كراين" للوقوف على آراء أبناء سوريا وفلسطين التي تشكل جزءا منها في مستقبل بلادهم. 

طافت هذه اللجنة في مختلف المدن السورية والفلسطينية ما بين 10 حزيران/ يونيو و21 تموز/ يوليو ووضعت تقريرا أعلنت فيه أن الأكثرية المطلقة من العرب تطالب بدولة سورية مستقلة استقلالاً كاملاً، وترفض فكرة إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين.

وفي 20 نيسان/ أبريل 1936، بدأ الوضع الفلسطيني يأخذ شكل الثورة الشاملة رفضا للإدارة البريطانية وللمطالبة بالاستقلال، وإنهاء سياسة الهجرة اليهودية المفتوحة، ومع مرور الوقت انتشرت العمليات الثورية المسلحة حتى عمت معظم أرجاء فلسطين، وبلغ معدلها خمسين عملية يوميا.

ونتيجة ذلك زاد عدد الثوار حتى بلغ حوالي خمسة آلاف، معظمهم من الفلاحين الذين يعودون إلى قراهم بعد القيام بمساعدة الثوار الذين تفرغوا تماما، وبعد جهود سرية قام بها الحاج أمين الحسيني ورفاقه (المفتي العام للقدس، ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى، ورئيس اللجنة العربية العليا، وأحد أبرز الشخصيات الفلسطينية في القرن العشرين)، حدث تطور نوعي في الثورة، وذلك بقدوم تعزيزات من الثوار العرب من العراق وسوريا وشرق الأردن بلغت حوالي 250 رجلا.

 وكان على رأس هذه التعزيزات القائد العسكري المعروف فوزي بيك القاوقجي الذي تولى بنفسه القيادة العامة للثورة، ونظم الشؤون الإدارية والمخابرات، وأقام محكمة للثورة، وأسس غرفة للعمليات العسكرية.

تعزيز سوري
وصل الضابط في الجيش السوري وقائد جيش الإنقاذ خلال حرب 1948 إلى فلسطين في آب/ أغسطس، وكانت الحماسة شديدة لدى الشبان العرب للمساهمة في القتال، وقدّم عدد كبير من الضباط السوريين طلبات الالتحاق بقوات المجاهدين، وقدّم آخرون استقالتهم من الجيش ليتمكنوا من التطوع في تلك القوات.

وقد أفرزت رئاسة الأركان السورية حينها 46 ضابطا وعددا كبيرا من صف الضباط والجنود للمشاركة في هذه الجهود.

وعاش فوزي القاوقجي في دمشق وتميز بشجاعته النادرة وعروبته التي دفعته لخوض المعارك ضد الاستعمار الأوروبي في مجمل المناطق العربية فشارك في الثورات في مناطق مختلفة من سوريا ضد الفرنسيين في العشرينيات، وفي ثورة فلسطين عام 1936، بحسب مذكرات معروف الدواليبي.

وتولى القاوقجي قيادة جيش الإنقاذ في فلسطين عام 1947، وجند الكثير من المتطوعين الفلسطينيين بين عامي 1947 و1948 لقتال المحتلين الإسرائيليين ومن هؤلاء المتطوعين ضباط مشاهير من مؤسسي منظمة التحرير الفلسطينية لاحقاً وجيش التحرير الفلسطيني.


وقاد القاوقجي عددا من المعارك ضد الإسرائيليين، أهمها معركة المالكية والهجوم الذي قام به الجيش السوري وقوات لبنانية في حزيران 1948 ضد الإسرائيليين. قدم استقالته بعد توقيع اتفاقيات هدنة 1949 بين العرب وإسرائيل. وعاش في دمشق ثم توفي في بيروت عام 1977.

واعترفت القيادة العسكرية البريطانية في تلك الفترة بتحسن تكتيكات الثوار، مشيرةً إلى أنهم أظهروا علامات على فعالية القيادة والتنظيم.

ولم تنفع الرسائل السياسية والعسكرية البريطانية في إيقاف الإضراب والثورة، بما في ذلك إعلان بريطانيا في 18 أيار/ مايو إرسال لجنة ملكية "لجنة بيل" للتحقيق في "أسباب الاضطرابات"، ورفع التوصيات لإزالة أي "ظلامات مشروعة" ومنع تكرارها. 

ولم يكن عز الدين القسام والقاوقجي وحدهم من ذهبوا إلى فلسطين رفضا للاحتلال، فكان من أبرز الأسماء أيضا محمد الأشمر وهو من أحد قادة النضال الوطني في سوريا، وأحد كبار وجهاء حي الميدان في دمشق.

وعندما اندلعت ثورة 1936 في فلسطين سارع للمساعدة ومعه رفيقه القائد سعيد العاص وكانت منطقة في نابلس ومنطقة طولكرم، وكان قائد المفرزة الشاميّة الدمشقية، إلى جانب المفرزة العراقيّة والمفرزة الدرزيّة في معركة آب/ أغسطس 1936 التي قادها المناضل فوزي القاوقجي، ومنير الريّس.

وخاض كل من الأشمر والعاص العديد من المعارك كان أبرزها: معركة بلعا ومعركة جبع ومعركة بيت إمرين؛ وعندما أثمرت جهود الملوك والأمراء العرب عن موافقة الهيئة العربيّة العليا في تشرين الأول/ أكتوبر 1936 على إنهاء الإضراب العام في الأراضي الفلسطينيّة، سلّم الأشمر أسلحة رجاله إلى الحاج أمين الحسيني، وعاد إلى الأراضي السوريّة، وذلك بحسب كتاب "ثوار بلا حدود".

الخاصرة 
خلال انعقاد أول مؤتمر عربي بالقدس عام 1919 أطلق على فلسطين اسم "سوريا الجنوبية"، وجرى فيه رفض وعد بلفور والهجرة اليهودية والانتداب البريطاني.

ولقرون طويلة كانت فلسطين تعد جزءا من سوريا الكبرى أو الخاصرة الجنوبية لها، وذلك وفقا للكثير من الدراسات التاريخية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد وحتى سقوط الدولة العثمانية في الربع الأول من القرن العشرين.


وكانت الحدود التي رسمها اتفاق "سايكس بيكو" على خريطة المنطقة العربية الخارجة عن سلطة الدولة العثمانية حدودا متخيلة في بداياتها، بينما عمل الاستعمار ومن ثم الأنظمة الحاكمة التي خلفتها الدول الغربية خلفها على ترسيخها.

وسوريا الجنوبية تسمية تطلق على المناطق الواقعة جنوب بلاد الشام وهي المناطق التي تعرف أيضًا بفلسطين التاريخية وشرق الأردن، واستعملت أيضا خلال مؤتمر لندن عام 1840 واستعملتها الموسوعة البريطانية في نسختها الحادية عشرة عام 1911: "يمكن الإشارة إلى فلسطين على أنها الثلث الجنوبي من ولاية سوريا".



وتبنى الفلسطينيون هذا الاسم خلال المؤتمر العربي الفلسطيني لرفض ادعاءات الصهاينة ملكية هذه الأرض وخصوصيتها لهم تاريخيا، انتشرت هذه التسمية خصوصًا عند نهاية الانتداب البريطاني على فلسطين والحديث عن وطن قومي لليهود فيها، فطالب عرب فلسطين باستخدام هذا المصطلح للدلالة على أن هذه البلاد جزء من سوريا، بحسب ما جاء في مقال المؤلف والمؤرخ الأمريكي دانييل بايبس، ومذكرات المفكر والكاتب محمد عزة دروزة لعام 1986.

الثورة السورية
عاش الفلسطينيون في سوريا في أحوال جيدة مقارنة بأوضاعهم في دول عربية أخرى، وحصل اندماج شعبي سوري فلسطيني استثنائي خلال عقود طويلة من العيش المشترك وتشكيل القرابات وانتقال كثيرين من المخيمات إلى المدن.

وفي خضم ذلك لم تنشأ "مسألة فلسطينية" في سوريا، كما في بلدان عربية أخرى، وسط استغلال النظام السوري بقيادة حافظ الأسد حينها القضية الفلسطينية وبعض فصائلها لصالحه، فتدخل في لبنان ولاحق الفصائل الفلسطينية واعتقل كوادرها عبر فرع الأمن العسكري سيئ السمعة "فرع فلسطين".

والفرع 235 أو ما يعرف بفرع فلسطين، أحد أسوأ وأبشع الفروع الأمنية التابعة للمخابرات السورية، تأسس عام 1969، ليكون حلقة وصل بين النظام السوري والمنظمات الفلسطينية في سوريا، لكنه تحول لاحقا إلى مسلخ بشري، ومقر لزنازين تحت الأرض، وصلت إلى حد إرسال الولايات المتحدة معتقلين بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر إليه لانتزاع اعترافات بسبب بشاعة العاملين فيه.

وحتى آذار/ مارس 2011، كان عدد اللاجئين الفلسطينيين في سوريا يزيد على 570 ألفاً، بحسب وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا"، وعاش قرابة 48 بالمئة منهم في المخيّمات، والبقية داخل المجتمعات السورية، أو في تجمعات فلسطينية على أطراف المدن.


ومع انطلاق الثورة السورية عام 2011، وقف عدد كبير من الفلسطينيين معها، ورغم مساندة بعض الفصائل الفلسطينية للنظام، فإن النظام حاصر المخيمات وجوّعها وقصفها من البر والجو والبحر.

وفي تصريح يوضح الموقف الحقيقي للنظام السوري من القضية الفلسطينية، قال المتحدث باسم خارجية النظام السوري جهاد مقدسي عام 2011، إن "الفلسطينيين اللاجئين في سوريا هم بمنزلة ضيوف يسيئون الأدب".

ووثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان، استشهاد 3207 لاجئين فلسطينيين، على يد قوات النظام السوري، خلال الفترة من آذار/ مارس 2011 وحتى تشرين الأول/ أكتوبر 2022، إضافة إلى 2721 ما يزالون قيد الاعتقال أو الاختفاء القسري.

وأكد منسّق مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سوريا محمود زغموت، الإفراج عن عشرات المعتقلين الفلسطينيين من سجون النظام السوري، غالبيتهم من اللاجئين الفلسطينيين، وذلك غداة سقوط النظام السوري، بحسب تصريحات لموقع "ألترا فلسطين".


وقال زغموت، إنه جرى تداول أسماء لمعتقلين جرى الإفراج عنهم من الضفة الغربية المحتلة، غير أنه لم يرد إليهم حتى الآن أي أسماء من الضفة، مضيفًا أن "هناك حالة من الفوضى، وهذا نتيجة وجود أعداد كبيرة ممن كانوا في السجون، ومعظمهم كانوا في أقبية سرية تحت مواقع عسكرية أو فروع أمنية".

وأضاف أنه "حتى الآن لم يتم حصر أعداد المعتقلين الفلسطينيين المفرج عنهم، ولكن نستطيع التأكيد أن هناك عشرات المعتقلين الفلسطينيين ممن تم الإفراج عنهم وتحريرهم".