قضايا وآراء

متطلبات بناء الجمهورية السورية الثانية

"الديناميات العامة التي أطلقها سقوط النظام، وأنماط التفاعل معه، ستتحكم بشكل رئيسي في متطلبات بناء سوريا الجديدة"- جيتي
دخلت القضية السورية دائرة الاهتمام الداخلي والإقليمي والدولي منذ سقوط نظام بشار الأسد في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024، حيث فكت عقدة ألسنة السوريين، الذين أُخرست أصواتهم منذ أكثر من نصف قرن (1971) على عهد حكم حزب البعث، وتحولت دمشق قبلة لاستقبال الوفود من كل حدب وصوب، وفتحت عواصم غربية وعربية أذرعها لمعانقة رموز المرحلة الجديدة في بلاد الشام. وبالموازاة، لاذ بالفرار صناع الظلم والاستبداد بعدما هرب رئيسهم بشار في جنح الظلام، واكتشف الشعب السوري، في زمن قياسي، حجم المظالم التي ألمّت بأبنائه، أفرادا وجماعات، وستُثبت القادم من الشهور، كم كان حجم الظلم غائرا وعميقا، وكم تكبد السوريون، بصبر وجَلَد ومكابرة، من انتهاكات جسيمة في وجودهم واستمرارهم.

تنتظر السوريين أعمال ضخمة، وتعترضهم صعوبات كثيرة، وتواجههم تحديات ليست بالهينة، ولعل السؤال الأبرز للمرحلة الجديدة في سوريا هو كيف يمكن بناء الجمهورية الثانية، بما يسمح بالقطيعة نهائيا مع إرث الحقبة الاستبدادية لعائلة آل الأسد، والمظالم التي اقترفها من كانوا أذرعه الضاربة على امتداد أكثر من نصف قرن؟ والحقيقة يتناسل عن هذا السؤال سيل من الأسئلة الفرعية المعززة والمكملة له، ومنها المتطلبات التي يعتبر توفرها شرطا واقفا لنجاح سيرورة بناء الجمهورية الثانية، والمواصفات التي يجب توفرها في صناع المرحلة الجديدة، وطبيعة التوازنات الوطنية والإقليمية والدولية التي ستقود إلى ميلاد الجمهورية السورية الثانية.. فالوضع السوري مركب وبالغ التعقيد، وإٍرث الطغيان ثقيل وكثيف، وانتظارات السوريين كبيرة ومتشعبة، والإمكانيات المادية محدودة في بلد نخره الفساد لعقود. والقائمة طويلة بشأن ما تشترطه المرحلة الانتقالية في سوريا.
الوضع السوري مركب وبالغ التعقيد، وإٍرث الطغيان ثقيل وكثيف، وانتظارات السوريين كبيرة ومتشعبة، والإمكانيات المادية محدودة في بلد نخره الفساد لعقود

ليست ثمة وصفة جاهزة ترسم للسوريين، أو يرسمونها لأنفسهم، لبناء نظامهم الدستوري والسياسي الجديد، الذي قد يأخذ عنوان الجمهورية الثانية.. فالواقع أعقد وأكثر تشابكا مما يتصوره المحللون المواكبون للمسألة السورية، ثم إن الديناميات العامة التي أطلقها سقوط النظام، وأنماط التفاعل معه، ستتحكم بشكل رئيسي في متطلبات بناء سوريا الجديدة.

يبدو أن القيادة الجديدة في سوريا مطالبة بإدارة الوضح الانتقالي على الأقل في اتجاهين اثنين مترابطين ومتكاملين، هما: ضمان استقرار وتهدئة في الداخل، حتى لا تنفلت الأمور، وتنعطف سوريا نحو الانقسام والتشظي، ومن أجل تحقيق هذا الهدف بالغ الأهمية عليها أن تعيد بناء الثقة بين كل مكونات النسيج الاجتماعي السوري، وتوفر ضمانات حقيقية بعدم عودة الاستبداد وكل مظاهر التمييز الطائفي والمذهبي إلى حياة السوريين، وهي مطالبة أيضا بإقناع الوفود الدولية التي تحج بانتظام إلى ربوعها بأنها جدية في رؤيتها لإعادة بناء سوريا، وأن سوريا حاضنة للجميع على قدر واضح من التكافؤ في الفرص والحظوظ والحقوق.. وأن زمن الطغيان ولى، وقد تركه السوريون وراء ظهورهم بشكل لا رجعة فيه.

ليست هذه المرحلة أقل أهمية واستراتيجية مما ينتظره السوريون والعالم من حولهم، فالحكمة تتطلب من القادة الجدد في سوريا أن يستحضروا بوعي وذكاء ما حصل في بلدان الجوار العربي، في العراق تحديدا، وليبيا، وما هو حاصل في اليمن، وأن يمسكوا بالدروس المستفادة منها، كي لا يكرروا مأساة هذه البلدان، ويعيدوا إنتاج ما تعيش مجتمعاتها من مآسي إنسانية ومادية. ثم إن النجاح في تدبير خلافات السوريين والأخذ بهم نحو الأفضل سيضمن النجاح في المهام الاستراتيجية الكبرى المنتظرة في بلاد الشام. فالوضع الجديد بعد سقوط النظام شديد الصعوبة والتعقيد، ويحتاج إلى وحدة وطنية، ودعم إقليمي صادق، ومواكبة دولية تنتصر لمصلحة سوريا دون سواها.
تحتاج هذه المرحلة إلى قدر يسير من الوقت لتكريس الثقة في البنيان العام السوري، وإعادة إحياء مصادر القوة في الإنسان السوري، الذي يختزن في تاريخه ووجدانه طاقات عالية من القدرة على العطاء والإنتاج الخلّاق.. وبنجاح هذه الحلقة في سيرورة سوريا نحو البناء الجديد للدولة والسلطة، وميلاد الجمهورية الثانية، التي ستجبّ حقبة الاطمئنان، وتؤسس نظاما ديمقراطيا، سينجح السوريون في إعادة كتابة تاريخهم الجديد

لذلك، تحتاج هذه المرحلة إلى قدر يسير من الوقت لتكريس الثقة في البنيان العام السوري، وإعادة إحياء مصادر القوة في الإنسان السوري، الذي يختزن في تاريخه ووجدانه طاقات عالية من القدرة على العطاء والإنتاج الخلّاق.. وبنجاح هذه الحلقة في سيرورة سوريا نحو البناء الجديد للدولة والسلطة، وميلاد الجمهورية الثانية، التي ستجبّ حقبة الاطمئنان، وتؤسس نظاما ديمقراطيا، سينجح السوريون في إعادة كتابة تاريخهم الجديد على قاعدة المواطنة والمشاركة والحرية والتسامح والعدالة الاجتماعية.

يمكن تأسيس المرحلة القادمة لسوريا الجديدة على ثلاثة أعمدة رئيسة، هي تحديدا: صياغة دستور ديمقراطي، يشارك فيه الجميع، ويكرس قيم الحرية والكرامة والتسامح والمشاركة المتكافئة والعدالة الاجتماعية، ويضمن الحقوق والحريات بكافة أجيالها. وكي يتحقق الجوهر الديمقراطي للدستور الجديد يتطلب أن تكون عملية وضعه وصياغته شفافة، وواسعة من حيث المشاركة، وأن تحتل المواطنة والتوزيع المتوازن للسلطة بين مؤسساته، والحقوق والحريات الأساسية المتعارف عليها دوليا، أولوية الصدارة. وهو أمر رهين بانتقاء من يتولى كتابته على أساس الكفاءة، والخبرة، والوطنية الصادقة، والموضوعية.

ويتعلق العمود الثاني في البناء بإجراء انتخابات معبرة عن ضمير السوريين كل السوريين، وأن تكون حرة ونزيهة، وأن تناط بمؤسسة التشريعية بقدر من الاستقلالية والقدرة على إنتاج النصوص القانونية الفضلى لوضع سياسات عمومية ذات قيمة وأثر على حياة الناس، وأن تكون قادرة أيضا على مراقبة العمل الحكومي.

أما العمود الثالث في البناء الجديد، فيخص الحياة السياسية الفعالة والنشطة للسوريين، الذين أُرغموا، على مدار أكثر من نصف قرن، على رؤية الحاكم الواحد والبرلمان الواحد والحزب الواحد والانتخابات النمطية التي تحولت إلى مبايعة، لا سيما بالنسبة لما كان يسمى الانتخابات الرئاسية.

أمام السوريين جبل من الصعوبات والتحديات، لكن كعب السوريين فائق العلو، وهم قادرون على تجاوز هذا الجبل، إن حضرت سوريا وسوريا وحدها في عقولهم ووجدانهم، وإن تلقوا الدعم الصادق والإيجابي من محيطهم الإقليمي، أي أبناء جلدتهم، وكذلك إن تجنبت قوى العالم ما حصل في العراق وليبيا واليمن.