شكّلت عملية
التغيير الدراماتيكي في نظام الحكم في
سوريا ديناميكية فاعلة وذات طاقة حركة عالية، ويمكن النظر إلى ما أنشأته هذه التغيرات الديناميكية عالية الطاقة من محفّزات
وعوامل تأثير فاعلة في استراتيجيات وسياسات دول البيئة الجيوسياسية الحيوية
المحيطة بسوريا؛ بوصفها عوامل تغيير حقيقية تحمل الفرص والتحديات لمختلف اللاعبين
في هذه البيئة.
فعلى صعيد الحالة السورية ذاتها، شكّلت سوريا
بقيادتها المؤقتة الجديدة حالة من الترقب والتحليل لطبيعة السلوك والسياسات
المتوقعة من النظام الجديد نحو البيئة الجيوسياسية المحيطة بعد توفير أسباب
الاستقرار في البلاد، وكذلك ردّود الفعل والتطلّعات الشعبية في دول هذه البيئة
جرّاء هذا التغير والتحول الكبير من عدة زوايا سياسية واستراتيجية واجتماعية ذات
ديناميكية تغيير كبيرة، وهو ما تسبّب بقلق كبير لأكثر هذه الدول، وحتى النخب
الحاكمة في دول أخرى ذات الصلة بالمسألة السورية.
شكّلت سوريا بقيادتها المؤقتة الجديدة حالة من الترقب والتحليل لطبيعة السلوك والسياسات المتوقعة من النظام الجديد نحو البيئة الجيوسياسية المحيطة بعد توفير أسباب الاستقرار في البلاد، وكذلك ردّود الفعل والتطلّعات الشعبية في دول هذه البيئة جرّاء هذا التغير والتحول الكبير من عدة زوايا سياسية واستراتيجية واجتماعية ذات ديناميكية تغيير كبيرة، وهو ما تسبّب بقلق كبير لأكثر هذه الدول، وحتى النخب الحاكمة في دول أخرى ذات الصلة بالمسألة السورية
وتعدّ التصريحات المنضبطة لقادة
الثورة والحكومة
المؤقتة قاعدة انطلاق معقولة للتفكير بمستقبل الدولة السورية وعلاقاتها الخارجية،
بما في ذلك التطمينات بأنها ستكون دولة متعاونة مع الجميع ولا تكون سببا للقلق
الأمنيّ للأشقاء في هذه البيئة.
وعلى صعيد الدولة التركية، فهي تعدّ بالمفهوم
الجيوسياسي الدولة الأكثر رعاية واطمئنانا، بل واستعدادا للتحوّل السوري الجديد،
خاصة وأنها الأكثر مصلحة في الاستقرار في سوريا استراتيجيا فيما يتعلق بأمن حدودها
الجنوبية، واقتصاديا فيما يتعلق بالشراكة الاقتصادية والتبادل التجاري بعشرات
المليارات من الدولارات، وفي استعادة سوريا كمعبر للتصدير إلى الأردن ودول الخليج
ولبنان، كما أن
تركيا سوف تستثمر في عودة اللاجئين السوريين، وبذلك تدعم تركيا
التغيير الحاصل من أجل بناء دولة سورية حليفة وصديقة خلال العقود القادمة، كما
يعدّ التغيير الذي نجح بإسقاط النظام السابق نجاحا إقليميا لتركيا، مما سيعزّز
دورها الإقليمي والدولي في الشرق الأوسط.
وعلى صعيد الدولة
الإيرانية، فإن التغيير قد شكّل
ضربة قوية للمقاربات السياسية والاستراتيجية التي استندت إليها إيران منذ الربيع
العربي عام 2011، والتي استندت إلى الهيمنة على المنطقة عبر البعد الطائفي في
احتلال أو اختراق عدد من العواصم العربية كما أعلن قادتها سابقا، وكان من بينها
الدولة السورية، ورغم ذلك فإن رسائل القادة الجدد فتحت المجال لإيران لإعادة تأهيل
سياستها ودبلوماسيتها ومقارباتها تجاه العالم العربي، وأنها أمام فرصة جديدة
للالتحام مع مصالح العرب وتركيا في الشرق الأوسط، ما يقلّل من المخاطر التي أحاطت
بها بوصفها من قبل البعض عدوا أول لدول المنطقة. وقد تجد إيران في الاستقرار
الجديد في سوريا فرصا اقتصادية أوسع مما كان سابقا إن هي أحسنت التقدير وإعادة
التموضع.
وعلى صعيد الحالة اللبنانية، فإن دولة لبنان تشعر
بالارتياح من زاوية الدولة والسيادة بعد سقوط النظام السوري السابق، حيث إنه احتل
لبنان فعليا بالقوة المسلّحة في مرحلة سابقة، وتدخّل في الحرب الأهلية فيها، وفرض
الهيمنة السياسية على التشكيلات الحكومية والرئاسية في لبنان، ناهيك عن اعتباره
لبنان دولة تابعة أكثر منها دولة متكافئة مع سوريا، لكنّ القادة السوريين الجدد
يعبّرون عن مواقف أخرى أساسها التعاون المتبادل وحفظ السيادة وعدم التدخل في
الشئون الداخلية.
من جهة أخرى، فإن هذا التحول قد أضعف نفوذ وقوّة
تجّار المخدرات والمافيات اللبنانية والسورية، وأعطى الفرصة لانتعاش الاقتصاد بين
الطرفين، كما فتح التحوّل الجديد المجال للعودة الآمنة للاجئين السوريين الذي
شكّلوا تحديا لم يتقبّله كثير من مكوّنات الدولة اللبنانية، وشكّل التغيير الجديد فرصة
لتأمين الحدود بين البلدين، والتي يتم ضبطها مستقبلا ببروتوكولات مشتركة، كما فتح
باب التجارة الحرة وتنقّل الشاحنات من لبنان إلى سوريا والأردن وتركيا والخليج،
وكذلك من سوريا إلى لبنان، ناهيك عن تنامي فرصة تطوير حالة الطاقة والكهرباء
المتأزّمة في لبنان عبر سوريا، سواء من الأردن الذي يعرض تزويد كلّ من سوريا
ولبنان بالكهرباء، أو من قبل تركيا التي تعهّدت بإعادة بناء منشآت الطاقة
والكهرباء في سوريا أيضا.
وعلى صعيد الدولة الأردنية، فإن عملية التغيير في
سوريا قد حققت كثيرا من المصالح والأهداف الأردنية في ذات الوقت، حيث شكّل النظام
السابق منذ 54 عاما مصدر تهديد وإشكالية أمنية للأردن، كما شكّل خلال العقدين
الأخيرين معبرا لتجارة المخدّرات إلى الأردن ودول الخليج، بما في ذلك تشجيع قيام
العصابات المسلحة في هذه البلدان. وبذلك فإنه يفترض أن ينظر الأردن إلى هذا
التغيير بوصفه فرصة سانحة وتاريخية لاستعادة دوره الاقتصادي والسياسي والأمن
لحدوده الشمالية مع سوريا، كما أنه قد أعفاه من أن تكون سوريا معبرا أو مدخلا لأي
تهديدات من قبل مليشيات المجموعات المتطرفة والطائفية العنفية في المنطقة.
ويعدّ بناء الدولة السورية
الديمقراطية تماهيا
نسبيا مع فلسفة النظام الحاكم في الأردن، خصوصا فيما يتعلق بتمثيل الشعب وتعزيز
الحريات. أما اقتصاديا فإن استعادة التبادل التجاري وتوسيعه بين البلدين لدرجة
التكامل والمرور بالهويات للشاحنات والإعفاءات الجمركية والضريبية المشتركة سوف
ينعش التجارة والصناعة في البلدين، كما سيفتح بوابة سوريا لتكون معبرا للتجارة
التركية إلى الأردنّ وإلى دول الخليج عبر الأردنّ كمعبر ترانزيت، وهو تحوّل مهم له
انعكاسات متعددة على التنمية الاقتصادية والتجارة والصناعة في الأردن كما في
سوريا، وربما ينجح في تشكيل حالة تكامل واستقرار وأمن على حدود الطرفين، وبين
شعبيهما وحكوماتهما. وفي حال هذا النجاح فإن اتفاقيات اتحاد الشام بين كلّ من العراق
والأردن ومصر قد تجد لها فرصة أوسع لتشكيل "اتحاد الهلال الخصيب"؛ بدل
أيّ شكل آخر لهذا الهلال وفق التخوّفات الأردنية التي كانت سائدة في عهد النظام السوري
السابق، وبذلك فإن الأردنّ سوف يتمتع بمنطقة كبيرة للتجارة الحرة والتكامل
الاقتصادي غير مسبوقة منذ عقود مضت.
وعلى صعيد الدولة العراقية، والتي شاركت مليشيات
مسلحة منها إلى جانب إيران في أعمال عنف واعتداءات ضد والشعب السوري خلال العقد
الماضي، فقد رفع التغيير الجديد عن كاهل الدولة هذا العبء الذي حمّلتها إياه
علاقاتها الاستراتيجية مع إيران، كما رفع عن كاهلها الأعباء المالية التي قيل إنها
بلغت عشرات المليارات بسبب الأزمة في سوريا.
ولذلك فإن التغيير في سوريا يوفّر فرصة ذهبية
للعراق للاستدارة تجاه العلاقة مع سوريا لتقوم على أساس الاحترام المتبادل
والتكامل التجاري والاقتصادي والصناعي، وكذلك للحفاظ على السلامة الأمنية على
الحدود بدل العيش في أوهام مخاطر الجماعات الإرهابية العابرة للحدود.
وعلى صعيد آخر، فإن عملية التغيير قد خلقت فرصة
جديدة للقوى السياسية العراقية لإعادة التفكير في طبيعة علاقاتها العربية مع سوريا
والأردنّ وغيرهما من الدول العربية، في مقابل تحجيم التدخلات الإيرانية في الشئون
العراقية الداخلية، واستعادة استقلال الاقتصاد العراقي المحروم من فرص التوسّع والتبادل
مع الأردنّ وسوريا ودول أخرى في ظل السياسات المنسّقة مع إيران والنظام السوري
السابق.
وعلى الصعيد الإسرائيلي، فقد شعرت إسرائيل بخطورة
التحوّل الجديد لاعتبارات مهمة تتعلق بفكر القيادة الجديدة وفكر راعي أو داعم هذا
التغيير الرئيسي، وهو تركيا التي قطعت علاقاتها مع إسرائيل مؤخرا، الأمر الذي دفع
القيادة الإسرائيلية للقيام بعمليات عسكرية في القضاء على القوة الصاروخية والدفاع
الجوي والطيران العسكري السوري، وقامت بإنهاء اتفاق فك الاشتباك لعام 1974 من جانب
واحد، وباحتلال المنطقة العازلة بين سوريا وإسرائيل، كما قامت بانتهاك السيادة
السورية في عدة محطات متتابعة منذ 8 كانون الثاني/ ديسمبر 2024 وحتى كتابة هذه
المقالة، وهي تستعرض قوّتها على القيادة الجديدة في محاولة منها لجرّها إلى مربعات
معينة. ورغم انتهاء وجود القوات الإيرانية والمليشيات المسلحة التابعة لها في
سوريا، والتي كانت تتخذها اسرائيل ذريعة للعدوان على سوريا في عهد النظام السابق،
غير أنّ ذلك لم يحُل دون قيام إسرائيل بهذه الاختراقات والاعتداءات العدوانية على
سوريا وعلى سيادتها بعد سقوط النظام.
وتحاول إسرائيل بطرق التفافية أن تفرض الأمر الواقع،
وأن تضغط على القيادة السورية الجديدة للاعتراف بالكيان الإسرائيلي، بل والتطبيع
معه، وذلك مثلما جرت محاولات عدة مع قيادات الثورة السورية من قبل مبعوثين أمميين
وأمريكيين خلال الثورة للاعتراف بإسرائيل حتى يتأهّلوا لتلقّي الدعم الأمريكي
والغربي، ومع تنبّه القيادة الجديدة لهذا الفخّ حتى الآن فإن إسرائيل لن تترك فرصة
للتدخل في السياسة السورية وشئونها الداخلية إلا وستحاول العبث بها عبر أي أزمات
داخلية قد تنشأ.
التحوّل والتغيير الذي جرى في سوريا في كانون الأول/ ديسمبر عام 2024 حمل في طياته التحديات والفرص لمختلف دول البيئة الجيوسياسية- المحيط الحيويّ لسوريا الدولة، وأنه سوف ينعكس على هذه الدول وفق قدرتها على استثمار الفرص المتاحة القائمة على الاعتراف بالوضع الجديد
وبذلك، فإن التحوّل والتغيير الذي جرى في سوريا في
كانون الأول/ ديسمبر عام 2024 حمل في طياته التحديات والفرص لمختلف دول البيئة
الجيوسياسية- المحيط الحيويّ لسوريا الدولة، وأنه سوف ينعكس على هذه الدول وفق
قدرتها على استثمار الفرص المتاحة القائمة على الاعتراف بالوضع الجديد أولا،
والتعامل مع الدولة السورية والاعتراف بالمصالح المتبادلة بين شعوبها والشعب
السوري ثانيا، وفي إعانة سوريا على تجاوز حالة اللجوء الداخلي والخارجي ثالثا،
وعلى إعادة الإعمار وبناء الاقتصاد وبناء هياكل الدولة المدنية والعسكرية والأمنية
لتحقيق الاستقرار رابعا، وبالتزام هذا المحيط الحيوي بعدم التدخل في الشئون
الداخلية أو القيام بأي محاولات لفرض شروط خارجية على الدولة بأي حجة كانت، مذهبية
أو طائفية أو دينية أو اقتصادية خامسا.
وعلى صعيد آخر، فإن للتحول الجديد في سوريا انعكاساته
الواضحة على البيئة الجيوسياسية المحيطة في صناعة فرص للتغيير الداخلي في هذه
الدول لصالح زيادة مساحات الحريات والتوجهات الديمقراطية، والتوقّف عن ملاحقة
الرأي المخالف، وإشراك المجتمع بكلّ مكونّاته السياسية والفكرية والاجتماعية في
إدارة شئون البلاد.