يعرف المشهد السياسي بالمغرب وخاصة البرلمان بغرفتيه خلال هذين الشهرين تشرين الثاني/ نوفمبر وكانون الأول/ ديسمبر، وكما كل سنة، نقاشاً واسعاً ومحتدماً حول مالية الدولة للسنة المقبلة والتي يجري توزيعها على مختلف القطاعات الحكومية من وزارات ومؤسسات عمومية، عن مشروع مالية سنة 2014 البالغة 17 ألف و975 مليون درهم، تدافع الحكومة وأغلبيتها على ما تم من تقوية للبعد الاجتماعي بمشروع مالية 2014 وتثمنه، ذلك في الوقت الذي تعتبر فيه المعارضة أن الظرفية الصعبة وارتفاع حجم انتظارات المغاربة ومشاكل تنفيذ البرامج الحكومية قد تجعل من كسب هذا الرهان تحديا صعبا.
هكذا تدفع الحكومة بحزمة من الإصلاحات الهيكلية وما تم من رفع عام لجهود الاستثمار بزيادة 6 مليار درهم، ومن توسيع لمخرجات إنعاش التشغيل بما يجعل البطالة تتقلص إلى نسبة 8 في المئة، وأيضا ما عبئ من وعاء مالي لقطاعات الصحة والتعليم والسكن التشغيل وما يعرفه المحيط الاقتصاد الوطني والدولي من تحسن، مما سيعود بالنفع لا محالة على الأوضاع الاجتماعية للمواطن
المغربي وبما يحقق التوجهات الملكية ومرتكزات البرنامج الحكومي والأعمدة الأربع لمالية 2014 التي عددها وزير المالية والاقتصاد محمد بوسعيد أمام نواب ومستشاري الأمة بالبرلمان.
ربح التحدي الاجتماعي مهمة صعبة وربما مستحيلة حسب رأي المعارضة، لكنها مقدور عليها حسب رأي الحكومة وغير مستحيلة بالنسبة لأستاذ العلوم السياسية محمد زين الدين الذي بدا متفائلا بمستوى النجاح الاجتماعي للحكومة على ضوء إصلاحات مشروع مالية 2014. أما البعد التقشفي لهذا القانون فقد نفاه الوزير المكلف بالميزانية جملة وتفصيلا.
"عربي 21" يقدم قراءة مجملة في مشروع مالية 2014 للحكومة الحالية ويستقي آراء الأغلبية والمعارضة وأحد أساتذة العلوم السياسية:
وزير الميزانية: مالية 2014 ليست تقشفية
ويؤكد إدريس الأزمي الإدريسي، الوزير المنتدب لدى وزير الاقتصاد والمالية المكلف بالميزانية، أن مشروع مالية 2014 ليس تقشفيا مطلقاً. وتابع في تصريح لـ"عربي 21" أن التقشف اتخذته دول مثل فرنسا فراجعت كثلة الأجور نحو التخفيض والنفقات نحو الأدنى، ورفعت من الضرائب، وهو ما لم يتم القيام به في الحالة المغربية، باستثناءات بعض توجيهات رئيس الحكومة للتقشف في ما يرتبط بالحفلات والمقتنيات البروتكولية واقتناء السيارات في الحدود الدنيا... إلخ. وقال الأزمي، الذي ينتمي لحزب العدالة والتنمية الحاكم، إن ربح تحديات مالية 2014 هو تحدٍ لجميع القوى والمكونات المدنية والسياسية والنقابية بما فيها المعارضة ولا يهم الحكومة أو الأغلبية وحدها، واعتبر في ذات التصريح أن دفع المعارضة بعدم القدرة على التنفيذ أو تأخر التنفيذ بالنسبة للتدابير الحكومية في الشق الاجتماعي أمر ليس جديد، وأن هناك تدابير عديدة لتجاوزه والرفع من نسبة التنفيذ.
لكن الوزير المكلف بالميزانية أقر بوجود إشكاليات تهم التنفيذ وتعني الميزانيات كلها، موضحاً أن في هذا الجانب الاجتماعي وما يهم تحديدا العالم القروي أن هناك إنجازات فعلية حقيقية، كما أنه تم ربط الدعم الجديد للعديد منها بتنفيذ المرحل من مالية 2013، فضلا عن إجراءات أخرى جديدة كشف عنها الأزمي في صلة بتعزيز التماسك الاجتماعي بما يعود بالنفع على المواطن المغربي وقدرته الشرائية وواقع البلاد التنموي.
المعارضة تشكك في القدرات التدبيرية للحكومة
وتباين موقف فرق المعارضة تجاه الجانب الاجتماعي من مشروع قانون مالية سنة 2014 بين انتقاد القدرة على تنفيذ الإجراءات الاجتماعية التي تم تثمينها وما يمكن أن يكون لعدم تنفيذها من أثر سلبي على المواطن، وبين رأي آخر يرى باستحالة ربح الحكومة لرهان التوجهات الأربع التي رفعها المشروع، ما دفع ذات الرأي للتشكيك في القدرات التدبيرية للحكومة.
ضمن موقف المعارضة اعتبر، خالد سبييع، عضو لجنة المالية والتنمية الاقتصادية بمجلس النواب عن الفريق الاستقلالي للوحدة والتعادلية، في تصريح لـ"عربي 21" أن مشروع مالية 2014 تتضمن آليات لدعم القطاعات الاجتماعية لكنها لا ينبغي أن تبقى شكلية بل يجب تفعيلها ودعهما وينبغي توسيع مواردها ويجب أن تواكبها إصلاحات، لأن آليات التماسك الاجتماعي والتنمية القروية والتكافل الاجتماعي لا ينبغي التعامل معها بمنظور محاسباتي وبالتالي لا بد من الحرص على تنفيذ هذه الإجراءات لتشتغل وتكون صمام الأمان للإصلاحات الكبرى، لأنه إن لم تشتغل هذه الإجراءات ذات الصبغة الاجتماعية مع ما حصل من تقليص للميزانية العامة للاستثمار من 58.9 سنة 2013 إلى 49 هذه السنة فإن الأثر السلبي سيذهب كله للفئات الهشة".
ضمن رأي المعارضة كذلك قال يونس السكوري، عضو لجنة المالية والتنمية الاقتصادية بمجلس النواب عن فريق الأصالة والمعاصرة، أنه منذ البداية لديه إشكالية مع مالية 2014. وتابع في تصريح لـ"عربي 21": "كنت أتمنى أن تتحلى الحكومة بالشجاعة لتقول إنه لا يمكنها ربح رهان تفعيل وتنزيل المحاور الأربعة التي بني عليها مشروع المالية فهذا أمر مستحيل، فالعجز خلال السنة الماضية بلغ 12 مليارا، وهذه السنة 35 مليار درهم. علينا أن نكون واقعيين ونمتلك الجرأة لنقول: لا يمكننا في نفس الوقت الحفاظ على التوازنات الماكرو اقتصادية وننمي الاستثمار وندعم الطبقات المعوزة". وتابع السكوري: "ليس هناك عاقل يمكنه تصور إنجاز هذه المحاور الأربعة كلها بعجز يتزايد، على الرغم من تراجع العجز بالنسبة للناتج الداخلي الخام فإن لدي شك كبير في قدرة الحكومة على الوفاء بالتزاماتها لأن قانون مالية 201 لم يشهد أي إصلاح لإدارتها وعندما لا تصلح إدارتك يستعصي عليك تنفيذ أي سياسة بشكل ناجع".
الأغلبية تثمن البعد الاجتماعي بمالية 2014
وفي المقابل، ثمنت الأغلبية بمجلس النواب الأبعاد الاجتماعية لمشروع مالية 2014 وأكدت حرصها على مواصلة النقاش مع الحكومة من أجل توسيع إجراءات دعم هذا الجانب في ما يمكن أن يبدوا أثناء المناقشة من مساحات، كما تقر الأغلبية بمحدودية هذه الإجراءات أمام حجم انتظارات المواطنين، وكونه يأتي في ظرفية صعبة، لكنها تؤكد كذلك أن الإصلاحات التي يرفعها مشروع مالية 2014 بالإضافة إلى الوعاء المالي المخصص لما هو اجتماعي سيعود بالنفع على هذا الجانب وبالتبع على مصلحة المواطنين.
في هذا الصدد أكد أنس الدكالي، عضو لجنة المالية التنمية الاقتصادية بمجلس النواب عن فريق التقدم الديمقراطي؛ أن مالية 2014 تأتي في ظروف صعبة. وعلى الرغم من ذلك، فإن المجهود المبذول في الجانب الاجتماعي مستمر وقد لا يلبي كل المتطلبات المتزايدة في مختلف القطاعات بالنظر للتكلفة المالية المطلوبة، لكن رغم صعوبات التوازنات المالية فالمنحى يبقى تصاعديا خاصة مع ما تم الشروع فيه من إصلاحات هيكلية والتي ستسمح بتعبئة إمكانيات مالية أكثر لصالح المرافق الاجتماعية والتي منها الإصلاح الضريبي وقطاع الفلاحة بتضريب الفلاحين الكبار وإعفاء الصغار وإصلاح الضريبة على القيمة المضافة وكذلك تحسين تعامل الإدارة مع المقاولات، فضلا عن إصلاح نظام المقاصة كذلك بتخفيض كلفته وبمعالجة انعكاسات هذا الإصلاح على بعض القطاعات كالنقل من شأنه أن يعبئ إمكانات إضافية، والإصلاح المتعلق بأنظمة التقاعد".
واعتبر الدكالي أنه "من الموارد الأساسية التي ستعبأ لتلك القطاعات صندوق التماسك الاجتماعي وصندوق التكافل العائلي وصندوق تنمية العالم القروي والتي ستستند بدورها لمداخيل الثروات التي ستغلق والتي لن تتأتى بدورها إلا بتحسين مناخ الاستثمار وبدعم المقاولة وإشراك القطاع الخاص وتوضيح الصورة له وفي إطار استقرار سياسي بينما سيخلق مداخيل جديدة ستعود بشكل مباشر بالنفع على القطاعات الاجتماعية".
من جهته ثمن محمد زويتن، عضو لجنة المالية والتنمية الاقتصادية بمجلس النواب عن فريق العدالة والتنمية، التوجهات الاجتماعية والجهود المبذولة بالجانب الاجتماعي لمالية 2014، وأكد مواصلة البحث عن إجراءات أخرى لدعم ما جاء به مالية 2014 لتعزيز التماسك الاجتماعي وتحقيق التنمية المستدامة.
وسجل زويتن في تصريح لـ"عربي 21"؛ "اهتمام الحكومة بتحسن أداء المهن العالمية الجديدة بالمغرب المرتبطة بالتشغيل كصناعة السيارات وغيرها، ما يوفر تطور للنمو". وعرّج على ما أحدث من فرص عمل بلغ عددها 18000، بالإضافة إلى مناصب القطاع الخاص، وذكر بكون مالية 2014 ترتكز على إعادة التوازن للجانب الاجتماعي والتضامن الاجتماعي وفق التوجيهات الملكية والبرنامج الحكومي، من أجل ضمان الولوج العادل للخدمات الاجتماعية خاصة كالسكن والصحة والتعليم، وهي توجهات أساسية لمالية 2014.
مشروع مالية 2014 يهدف لتحقيق معادلة تنموية صعبة
ويعتقد محمد زين الدين، أستاذ العلوم السياسية بجامعة الحسن الثاني بالمحمدية، أن التحدي الرئيسي الذي سيواجه قانون المالية لسنة 2014 يتمثل في وجود مفارقة نوعية تتمثل في كيفية تنزيل إصلاحات هيكلية صعبة تستهدف خلق فرص العمل، والحد من ارتفاع معدلات البطالة، خاصة في أوساط الشباب، لكونها تمثل قنبلة اجتماعية ومواصلة تحسين مناخ الأعمال والإدارة الاقتصادية، من خلال تعزيز الشفافية والمساءلة وسيادة القانون مع مطالب اجتماعية مرتفعة السقف.
غير أن هذه الأهداف، يضيف زين الدين في حديثه لـ"عربي 21"، تصطدم بوجود ظروف إقليمية وعالمية غير مواتية لتنزيل مختلف هذه الإصلاحات ذات الصبغة الاجتماعية على الخصوص، "لذلك نجد أن مشروع المالية لسنة 2014 خضع لسياسة تقشفية بغية تحقيق هذه المعادلة الصعبة، لكن هذه السياسة التي سيتم اتباعها يجب أن تكون خاضعة لدراسة شاملة وإجراءات معينة ومحددة في الزمن، مراعاة للأوضاع المالية والاجتماعية في البلاد. كما ينبغي إشراك جميع الأطراف في تطبيقها لأنها إصلاحات موجعة لكنها ضرورية".
أما بخصوص تدعيم آليات التماسك الاجتماعي، "فإن المشروع اقترح سلسلة من الإجراءات، خاصة ما يتعلق بدعم الولوج إلى الخدمات الصحية، وتطوير آليات دعم السكن، وتعميم التغطية الصحية، ودعم التمدرس وجودة التعليم، ومحاربة الفقر، والتنمية القروية، ومعالجة العجز السكني، ودعم القدرة الشرائية بحيث سيوفر حوالي 18 ألف منصب شغل جديد على مستوى الإدارة العمومية، بالإضافة إلى تعبئة الإمكانات اللازمة من أجل تنشيط ورفع مردودية برامج التشغيل في القطاع الخاص، خصوصا إذا ما تم تطبيق مشروع التشغيل الذاتي. كما ينبغي أن نستحضر هنا إجراء اجتماعيا شمل إعفاء الاستغلاليات الفلاحية المتوسطة والصغيرة، مقابل الرفع من الضرائب على الشركات الفلاحية الكبرى وهذا من شأنه أن يشكل مدخلا لإعادة التوازن للعدالة الضريبية".
تجذر الإشارة إلى أن قانون مالية 2014 يرتقب أن يتم التصويت عليه أواخر هذا الشهر بمجلس النواب (الغرفة الأولى) ليمر إلى مراحل المناقشة والمدارسة ثم التصويت أيضا بمجلس المستشارين (الغرفة الثانية) قبل دخول سنة 2014 لتشرع مختلف القطاعات الحكومية والمؤسسات العمومية في تدبير مستحقاتها المالية من
الميزانية العامة للدولة بما في ذلك نفقات التسيير والاستثمار.