تعيش المنطقة العربية أضخم تحولات لها في تاريخها منذ اتفاقية التقسيم (سايكس - بيكو). فالدولة القومية التي أنشأها الاستعمار في مناطق الخلافة العثمانية المنهارة والتي تم تصنيع هويات جزئية لها وصلت إلى أوج قوتها في الخمسينات والستينات من القرن العشرين وهزمت الحركات الاسلامية فيها أمام طوفان "القومية" و"الوطنية"، وأمام هجمة ثقافية وسياسية وقمعية لترسيخ مفهوم "الهوية" الجديدة بدلا من الهويات الدينية التي كانت تقاوم موجات القومية والعلمنة منذ سقوط الخلافة .
ومنذ ذلك الحين تم ترسيخ مفهوم الدولة "القومية" القائمة على أساس الهوية "الوطنية" وتقديس "العلم -الراية" الوطنية؛ وبالمقابل تأسست الكيانات الإسلامية الكبرى في مجملها لمواجهة تحدي غياب "دار الاسلام"، ومواجهة الهويات الجزئية التي صعدها "الاستعمار"، وقد أجبرت تلك الكيانات للاعتراف واقعيا بتلك الحدود الجغرافية وتلك الدولة الوطنية وإن لم تعترف بها نظريا، و بالأخص بعد قبول الشعوب لتلك الهوية الجديدة "جزئيا" ومع ابتعاد ذاكرة الشعوب عن ذاكرة دولة الخلافة وترسخ دولة "القطر"، وخفوت الحس الديني الجمعي وتحوله لحس "فردي" وإحلال الحس الوطني الجامع بدلا منه .. كل ذلك أجبر الإسلامين على القبول بلعبة الواقع كما هي.
وفي السبعينات تصاعد الحس الديني أمام القومية العربية بعد انكسارها، لكن سرعان ما استطاعت الدول القومية احتواء تلك الصيغة الدينية داخل كيان الدولة أو توجيهها لمواجهة الشيوعية داخليا وخارجيا، وبذلك تم توجيه كل تلك الطاقة الدينية والتحكم بها من قبل الدولة الوطنية، وتصاعدت في تلك الفترة وما تلاها "القومية" التجزيئية الضيقة وتم هجر حتى القومية العربية الأوسع بعد معاهدة السلام
المصرية- "الإسرائيلية"، وإلى ذلك الحين لم يكن من شيء يهدد صيغة الدولة الوطنية مطلقا حتى برغم الخروج المسلح الذي حدث بمصر في التسعينات، إلا أن ذلك في مجمله دعم صيغة الدولة وأخرج من الجعبة الدينية صيغا فقهية تحرم الخروج على الحاكم وتؤكد على مفاسده، وهي في الحقيقة تمنح الشرعية الدينية المطلقة للسلطة القائمة كسلطة لها مشروعية دينية يحرم الخروج عليها ومنحها ماكان يمنح من مشروعية لمنصب الخلافة والإمارة في الإسلام، وأضحى كل الخلاف معها لاحقا في الثمانينات والتسعينات ومرحلة الألفية هو خلاف سياسي و تشريعي.
وكانت نظرة الإسلاميين لمشروعهم -وبالأخص في مصر - قد تقزمت جدا بحيث وصلت إلى توصيف الخصومة مع الدولة في محورين لا ثالث لهما-وهذا من وحي سلوكهم معها- المحور الأول هو تلك الخصومة الخاصة بالاستبداد والمحور الثاني الخاص بالملف التشريعي، ولم تصبح صيغة الدولة الحالية تسبب مشكلة "أيديولوجية" للإسلاميين وأصبح بإمكانهم أن يلعبوا كأحزاب يمينية داخل كيان الدولة ليواجهوا الاستبداد، وليحلوا الإشكال التشريعي فقط بأن تكون الشريعة مصدر التشريع فعليا، مع الحفاظ على صيغة الدولة الوطنية ومنظومة ولاءاتها ومفهوم المواطنة فيه. وانتهت التجربة باندماجهم بالدولة ثم انقلاب الدولة عليهم في مصر حديثا، والكويت والجزائر وفلسطين سابقا.
ومع بداية القرن الجديد، انفجر الوضع الإقليمي بسوريا والعراق ومصر، وأنتج الربيع العربي صراعا جديدا بين الإسلاميين والأنظمة القومية في صيغة أكثر وضوحا، وأصبح النظام الإقليمي كله مهدد بالنسف والانفجار وأصبح النقاش في كل دوائر السياسة تقريبا يتحدث عن مستقبل
سايكس بيكو من جديد؛ مع مشروع أمريكي شرق اوسطي لإعادة تعريف الهويات والجغرافيا والأعراق من جديد في المنطقة، وهو مشروع تقسيم لا يرى في سايكس بيكو القديمة قدرة على الصمود في مشروع النظام العالمي الجديد القائم على طغيان الشركة على الدولة وانهيار مستقبل الدولة القائمة على الهويات المتخيلة، وبالأخص أن أغلب دول المنطقة تعاني من صراعات إثنية داخلية ولم تستطع أن ترسخ صيغة دولة حقيقة؛ وإنما مازالت تعاني أغلبها من هشاشة داخلية، وتجمع بين صيغة قمعية للسلطة المحتكرة من نخب أقليات سواء كانت أقليات طائفية أو اقتصادية أو فكرية، وشعوب مازالت تبحث عن سؤال الواقع وسؤال المستقبل!
وعليه، ومع دخول الدولة القومية ذاتها في حرب مع الإسلاميين تحت مسمى "الحرب على الإرهاب"، وقرب حدوث اتفاق في سوريا يضع العلمانيين في كفة مقابل الإسلاميين، وبدء مواجهة من نوع جديد أيضا هناك، وتحول صيغ "الثورات" لصيغ حروب داخلية والحشد على أساس عناوين الإرهاب وتصدير الجيوش لتلك المواجهات في مصر وغيرها، نكون أمام واقع جديد يتشكل في مفهوم الإسلاميين للدولة نفسها، واستعادة صيغة التأسيس مرة أخرى عبر إعلان الهوية الإسلامية الجامعة في مقابل الهويات الضيقة المنهارة أو الهويات الضيقة التي يتم تصعيدها حاليا، من قبيل الكردية والعربية والأمازيغية والنوبية و الكردفانية و الدارفورية، إضافة لبعض الهويات القبلية والجهوية (جنوبية وشمالية مثلا).
كل هذه الهويات كان الإسلام صيغة جامعة لها منذ الخلافة وأيقظها الاستعمار، ومع حسم المشروع الأمريكي مستقبل الدولة القومية في المنطقة وإعلان البدء في تقسيمها، لابد أن يستعد الإسلاميون بمشروعهم ويتجاوزوا فكرة الدولة القومية للأبد؛ فهذه الفكرة لم يعد يعول عليها لا مستقبل العالم السياسي ولا الاقتصادي ولا العسكري، وعلى الإسلاميين التبشير بصيغتهم
الأممية الجامعة التي كانت موجودة على مر تاريخهم .