اعتبرت
السعودية، ومنذ السنوات الأولى لتأسيس المملكة في نهاية العشرينات، قوة رئيسة في المجال العربي، سيما جناحه الشرقي. خلال ثلاثينات القرن الماضي، وقبل أن يبدأ إنتاج النفط وتحتل موقعاً بارزاً ضمن الدول المصدرة لموارد الطاقة في العالم، كانت السعودية واحدة من عدد قليل من الدول العربية المستقلة.
وبمساحتها الهائلة، واحتلالها لموقع بالغ الأهمية في استراتيجيات الشرق الأوسط والخليج، وكونها البلد الذي يضم أقدس مواقع الإسلام وقبلة أهله، حرصت قوى العالم الرئيسة على الحفاظ على علاقات حسنة مع حكومتها. ولأن الحكم في المملكة أقيم على روابط وثيقة بالدعوة الوهابية السلفية، وأن الدعوة وجدت صدىً واسعاً، ومتفاوت التأثير في العالم الإسلامي، انتهجت حكومة الملك عبد العزيز سياسة نشطة، سواء في قضايا الجوار العربي، أو حتى في بناء علاقات وصلات مع عدد واسع من السياسيين والحركات والجماعات في كافة أنحاء العالم الإسلامي. ظهور النفط وتصديره، ومن ثم اتضاح أثره على الاقتصاد العالمي، وارتفاع أسعاره بصورة ملموسة منذ السبعينات، وفر للسعودية فائضاً مالياً كبيراً، أهلها لتبني سياسة تنمية داخلية واسعة، وعزز من دورها الخارجي، من جهة، وفاقم من المخاطر التي تستهدفها، من جهة أخرى.
لعبت السعودية دوراً بارزاً في
المسألة الفلسطينية، منذ اضطرت بريطانيا للاعتراف بالبعد العربي لفلسطين في 1936 1939، بالرغم من أن هذا الدور ظل موضع جدل بين المؤرخين. وما أن انتهت الحرب العربية الباردة باندلاع حرب حزيران/يونيو 1967، حتى عادت السعودية لتصبح الشريك العربي الرئيس لمصر في تقرير مسار الصراع العربي الإسرائيلي ووجهة القضية الفلسطينية. ولأن إحدى أبرز ملامح السياسة العربية خلال حقبة ما بين الحربين العالميتين، الأولى والثانية، كان الانقسام بين المعسكر الهاشمي والمعسكر السعودي، لم تخف السعودية اهتمامها بتطورات الأوضاع الداخلية في العراق وسورية والأردن؛ بل وحافظت على علاقات وثيقة بعدد بالغ التأثير من الشخصيات والقوى السياسية في هذه البلدان.
وقد لعب تصور السعودية لنفسها ودورها، وعلاقاتها السياسية في الجوار العربي الإقليمي، دوراً محدداً في مشاركتها في تأسيس منظمة الجامعة العربية في 1944 1945، بحيث كان الضغط السعودي، أكثر من أي دولة أخرى، من دفع نحو بناء الجامعة على أساس من احترام وحماية سيادة دولها الأعضاء. وبالرغم من أن سنوات الانقسام العربي البالغ، التي عرفت بحقبة الحرب العربية الباردة، في نهاية الخمسينات وبداية الستينات، شهدت اصطفافاً عربياً ملكياً ضد مصر الناصرية وحليفاتها الجمهوريات، فالمعروف أن السعودية كانت الأبرز في التصدي للسياسات الناصرية.
بكلمة أخرى، يعود النظام العربي الرسمي، كما نعرفه اليوم، في جذوره إلى السنوات القليلة التالية لنهاية الحرب العالمية الأولى وانهيار الرابطة العثمانية. وبالرغم من الصعود الملموس في التأثير السعودي العربي والإقليمي في العقود الثلاثة أو الأربعة الأخيرة، فالحقيقة أن السعودية مارست دوراً نشطاً ومؤثراً منذ ولادة نظام ما بعد الحرب الأولى.
ومن الصعب، بالطبع، تحديد مجموعة واحدة من العوامل التي تصنع سياسات الدول؛ ففوق أن هذه العوامل متعددة، فإن تأثير أحدها في صنع قرار سياسي ما قد يختلف عن وزنه في صناعة قرار سياسي آخر. ولكن من الضروري الاعتراف، على أية حال، أن ثمة عوامل لا يكتنفها الكثير من الجدل، مثل الميراث التاريخي، الجغرافيا والموقع، الاقتصاد، الثقافة والدين، يضاف إليها، أحياناً، محددات شخصية بحتة للقادة وصانعي القرار، مثل مشاعر الود والنفور، والجهل والغرور، أو التسرع والرعونة.
في أغلب دول العالم، ديمقراطية كانت أو غير ذلك، تجتهد المؤسسات الحاكمة من أجل أن تتجنب الشخصي والعابر، وأن تبني سياساتها على أسس موضوعية، مثل حسابات المصالح والمخاطر، وموازين القوى، واحتمالات الفوز والخسارة. يعرف مؤرخو الدولة السعودية الثالثة، مثلاً، أن توسع الحركة السعودية، خارج نطاق نجد في النصف الأول من عشرينات القرن الماضي، بني على قراءة لميزان القوة في الجزيرة العربية، بعد أن تدهورت علاقات الأشراف الهاشميين بالبريطانيين، وفشلوا في إقامة مملكة واحدة في الشام والرافدين والحجاز.
وربما كان أحد أبرز أسباب صدام الملك عبد العزيز بقوات الإخوان في الحركة الوهابية السعودية، أن الإخوان أرادوا الاستمرار في التوسع بالقوة في العراق والشام، بدون أن يعطوا اعتباراً لخارطة المشرق السياسية الجديدة، التي وضعت كلاً من بريطانيا وفرنسا على حدود المملكة الشمالية الشرقية والشمالية الغربية. في 1941، وبعد أن احتد الصراع على العراق بين القوى الوطنية العراقية ذات التوجه العروبي الإسلامي، وبين بريطانيا وحلفائها في الأسرة الهاشمية المالكة، ذهب ناجي السويدي، وزير خارجية الحكومة الاستقلالية العراقية، التي قادها رشيد عالي الكيلاني، لمقابلة الملك عبد العزيز وطلب مساعدته. ولكن الملك، الذي يعرف علاقات الأسرة الكيلانية، وعلاقة والد الوزير، الشيخ علي السويدي، بالحركة السعودية الوهابية، لم يسمح لمشاعره الخاصة بالتأثير على قراره.
كانت نيران الحرب الثانية تشتعل في كافة أنحاء المعمورة، والأسطول البريطاني، القادر على إغلاق الموانىء السعودية، يجوب مياه البحر الأحمر، والملك يدرك أن المملكة وشعبها سيدفعان غالياً لأي انحياز خاطىء في العراق. وحتى في سنوات الحرب العربية الباردة، لم يكن خافياً أن ثمة مخاوف ملموسة وحسابات سياسية وإيديولوجية، موضوعية، تقف خلف الموقف السعودي الحاد من السياسات الناصرية.
بيد أن شيئاً ما يتغير في طريقة صناعة السياسة السعودية، وأن الموضوعي يتراجع حثيثاً لصالح الشخصي وغير المحسوب جيداً. ثمة قدر ملموس من فقدان العقلانية، والكراهية، والثقة المفرطة بالنفس، يمكن للمتابع ملاحظته في صناعة
السياسة الخارجية السعودية، ليس في العام أو العامين الماضيين وحسب، بل ومنذ 2003، على الأقل. كانت السعودية، مثلاً، بين عدد قليل من الدول الحليفة للولايات المتحدة، التي دعمت غزو العراق، بل وكانت ضمن العدد القليل جداً الذي أبلغ مقدماً بساعة بدء الهجوم الامريكي على الجار العراقي.
ولكن الواضح، ومن اللحظة الأولى للغزو والاحتلال، أن الدعم الذي قدمته السعودية ودول عربية أخرى لغزو العراق واحتلاله، لم يستند إلى حسابات عقلانية للتوازنات في المشرق العربي. والمشكلة أن السعودية، والدول العربية الداعمة للغزو والاحتلال، لم تحاول تصحيح الخطأ الأول، بعد أن بدأ الامريكيون في الغرق وأصبح العراق منطقة فراغ إقليمي، تنتظر من يملأها.
في النهاية، اضطر الامريكيون لمغادرة العراق وقد سلمت مقاليده لنظام طائفي، وترك، سواء برغبة أمريكية أو بغير رغبة، فريسة لنفوذ إيراني، متزايد ومتسع. خطأ الحسابات الفاحش في العراق وبناء السياسة على الكراهية الطاغية لصدام حسين ونظامه، ولد سلسلة متلاحقة من الأزمات، وتدخلا سعوديا اضطراريا، مباشرا وغير مباشر، في لبنان وسورية، في ظل ميزان إقليمي مختل القوة. ولا يختلف الموقف من حماس والانقسام الفلسطيني عن الموقف من العراق؛ فلأسباب شخصية بحتة، قطعت السعودية علاقتها كلية مع حماس وحكومة قطاع غزة بعد 2007، بدون كبير نظر في طبيعة القوى والدوافع التي أدت لانفجار الوضع في القطاع.
في العام الماضي على وجه التحديد، ونظراً للانسحاب الامريكي الجزئي من الشرق الأوسط، وتزايد أهمية ودور القوى الإقليمية، تفاقمت أثار غياب الحسابات الموضوعية عن صناعة السياسة السعودية العربية والإقليمية.
في سوريا، على سبيل المثال، كان واضحاً من البداية أن الولايات المتحدة لا ترغب في لعب دور نشط في الأزمة. ومنذ ربيع 2012، اتخذ الدور السعودي في الأزمة السورية صورة التعاون الثلاثي بين تركيا والسعودية وقطر. ولكن، وخلال أقل من عام على تعاون الدول الثلاث، مضت السعودية في طريق منفرد، في محاولة للسيطرة على قوى الثورة السورية، السياسية والمسلحة، والتفرد في تقرير مستقبل سوريا وشعبها. وفي موازاة التغافل عن الوضع الإقليمي ومتغيرات الانخراط الغربي في شؤون المشرق، لم تحسن السياسة السعودية قراءة الموقف الامريكي الجديد. مرتكزة إلى علاقات شخصية بحتة، وميراث من التحالف، وثقة بالغة بالنفس، تصورت السعودية أن الولايات المتحدة ستتدخل في النهاية لحسم الموقف في سوريا لصالح حلفائها التقليديين.
وعندما امتنعت إدارة أوباما عن قصف نظام دمشق، حتى بعد توفر أدلة قاطعة على استخدامه السلاح الكيماوي، اندفعت الرياض في تحرك آخر غير محسوب نحو روسيا بوتين. ولكن هذه الاندفاعة لم تجد شيئاً في تغيير موقف موسكو، التي توشك الآن على توقيع اتفاق مالي/ اقتصادي كبير مع إيران، تشتري روسيا بموجبه نفطاً إيرانياً وتبيع مقابله لإيران بضائع وتجهيزات روسية.
بيد أن التدخل في سوريا لا يعني أن السعودية وقفت موقفاً إيجابياً من حركة الثورة العربية. الحقيقة، وبالرغم من عدم وجود أدلة ملموسة على الخطر الذي تمثله على السعودية، نظرت الرياض لحركة الثورة باعتبارها موجة تهديد عربية جديدة. ولأن حركة الثورة والتغيير أظهرت صعوداً ملموساً للتيار الإسلامي السياسي، اتخذت الدولة السعودية من كافة القوى الإسلامية السياسية، وبغض النظر عن سياساتها وخطابها وعلاقاتها التاريخية بالمملكة، موقف الكراهية والعداء. أحجمت المملكة عن تقديم يد العون والمساعدة للبلدان العربية التي شهدت مشاركة إسلامية في الحكم، وعاملت قادتها الجدد بقدر كبير من الشك. وسرعان ما تطور هذا الموقف إلى تبني سياسة إطاحة النظم الديمقراطية الجديدة وقواها الإسلامية، على السواء.
فماذا كانت نتيجة مثل هكذا سياسة؟ تتمتع إيران بنفوذ كبير في العراق وسوريا ولبنان، وتوشك أن تصبح الشريك الجديد للولايات المتحدة في المنطقة؛ بينما ينتاب الفتور علاقات السعودية بتركيا وقطر وعمان. من جهة أخرى، وفي حين تعاني السياسة السعودية في سورية من إخفاقات متلاحقة، دفعت مصر دفعاً إلى حالة من عدم الاستقرار المديد، وتكاد أكبر دول العرب وأهمها أن تخرج كلية من توازن القوى الإقليمي. هذه سياسة لا تستحق الإشادة.
كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث