خلال العامين الماضيين سجلت على صفحات «الاتحاد» العديد من المقالات بناء على
دراسات ومحاضرات ألقيتها في الكويت وعواصم دول مجلس التعاون
الخليجي، وفي جامعات ومراكز دراسات أميركية ومؤتمرات في واشنطن ولندن، اتساع الهوة والفجوة وتباين وجهات النظر بين بعض دول مجلس التعاون الخليجي وخاصة المملكة العربية السعودية من جهة وبين الولايات المتحدة، حول العديد من القضايا والتحديات، وخاصة في تعامل واشنطن مع ثورات «الربيع العربي» أو «الصحوة العربية الثانية»، كما يطلق عليها نائب وزير الخارجية الأميركي ويليام بيرنز! وتخلي واشنطن عن حلفائها الموثوقين في تونس (بن علي) وفي مصر (حسني مبارك) وتعاملها مع الإسلام السياسي المتمثل بجماعة «الإخوان المسلمين» والتذبذب وعدم الحسم -حول أحداث 30 يونيو 2013 في مصر- ووقف وتجميد المساعدات الأميركية وتأخير تسليم صفقات الأسلحة لمصر.
وكذلك التباين في التعامل مع الأزمة السورية، التي تستمر في التفاقم وتهدد بحرب إقليمية وتفجير صراع سني- شيعي. وتحذر دول الخليج وحلفاء واشنطن من أن عدم المبالاة الأميركية تجاه الأزمة السورية والتردد وعدم الحسم يساهمان في انتشار التطرف الذي نرى انعكاساته وتداعياته فيما يجري في سوريا نفسها وفي لبنان والعراق.. ويدفع بعض الشباب للتحول إلى مقاتلين ينضمون إلى طرفي الصراع، والمنظمات المتطرفة السنية والشيعية التي تقاتل مع النظام أو ضده في سوريا.. ما يحول مجاميع الشباب هؤلاء إلى قنابل موقوتة بفعل انجذابهم إلى «المغناطيس السوري»، كما وصفه وزير الخارجية الأميركي جون كيري! وليعودوا أكثر تطرفاً وعنفاً إلى بلدانهم في الدول العربية والخليجية، وحتى إلى أوروبا وأميركا، ما قد يدفعهم للاعتداء على دولهم، وربما يشجعهم على الاعتداء على الولايات المتحدة نفسها!
ومن تلك المقالات المنشورة في صفحات «الاتحاد» التي استعد لجمعها وإصدارها «إساءة واشنطن لحلفائها» و«مقامرات أميركا المتراجعة»، و«أميركا والعجز عن التمام»، و«لماذا تغيب أميركا»، و«التعويل على أميركا المنكفئة»، و«مبدأ أوباما.. المحارب المتردد»، و«أميركا وحلفاؤها في شرق أوسط جديد»، و«أميركا: تراجع ثقة الحلفاء وخشية الأعداء»، و«حلفاء أميركا غاضبون وقلقون».
وإزاء هذا النهج الأميركي الواضح من التراجع وإيلاء الشؤون الداخلية أولوية على ما عداها والالتفات والاستدارة نحو آسيا والصين والمحيط الهادي، وبالنظر إلى تصاعد التباين بين أميركا وحلفائها في الخليج وحتى في الشرق الأوسط كحال تركيا وإسرائيل، وجدت واشنطن نفسها مضطرة للتوضيح لحلفائها الغاضبين والقلقين من مواقفها تجاه «الربيع العربي» وسوريا وخاصة بعد التراجع في الصيف الماضي على رغم التحضيرات والاستعدادات لتوجيه ضربة عسكرية لنظام الأسد، وتجاه مصر، وقد أثخنت جراح حلفائها بالتقارب مع إيران في سياق التفاوض حول برنامجها النووي دون أن تضمن أبعاد هذا التقارب على وقف تدخل وسياسة إيران، التي تزعزع أمن واستقرار حلفاء واشنطن، ووضع ذلك في المحاور الأساسية ضمن الصفقة الكبرى التي ترى بعض دول المنطقة أنها قد تكون على حساب ومصالح حلفاء واشنطن الرئيسين.
ثم هناك انزلاق العراق نحو حرب أهلية وطائفية بعد إقصاء المكون السني والقفز على مطالبه المشروعة، واعتصام العشائر، وصولاً إلى محاربة الإرهاب و«داعش» وتسليح قوات المالكي بالأسلحة الحديثة، التي يعارضها بعض قيادات الكونجرس الأميركي لخشيتهم من أن يتم استخدامها أيضاً ضد المعارضين لسياسة المالكي وليس ضد الجماعات الإرهابية فقط!
وهذا التباين الأميركي- الخليجي، وأيضاً بين واشنطن وحلفائها في الشرق الأوسط خارج دول مجلس التعاون الخليجي، بات بحاجة إلى معالجة واهتمام وطمأنة من الإدارة الأميركية. وهذا ما بينته في سلسلة محاضرات في الخريف الماضي في واشنطن في ثلاثة من مراكز الدراسات الاستراتيجية المهمة والمؤثرة في الولايات المتحدة، وخاصة معهد «كارنيغي للسلام»، وكان الموضوع المطروح عن أبعاد التقارب الأميركي-الإيراني، وكذلك أيضاً في المؤتمر السنوي المجلس الوطني للعلاقات الأميركية- العربية المهم الذي يحضره صناع القرار والقادة السياسيون والعسكريون في الولايات المتحدة، ومركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) وهو المركز نفسه الذي ألقى فيه نائب وزير الخارجية ويليام بيرنز خطاباً مهماً للغاية يوم الأربعاء 19 فبراير 2014 بعنوان: «أجندة متجددة للشراكة بين الولايات المتحدة ودول الخليج». ومن الواضح أن واشنطن تبذل مساعي حثيثة لطمأنة حلفائها القلقين والغاضبين من أبعاد وتداعيات مواقفها ومقاربتها لقضايا المنطقة، وخاصة للأزمة السورية التي وصفها نائب وزير الخارجية الأميركي بيرنز في كلمته بأنها «الأزمة الأكثر عنفاً وخطورة ودموية بين الأزمات العالمية اليوم».
ولعل أبرز تلك المحاولات الأميركية لطمأنة الحلفاء تمثل في إعلان البيت الأبيض عزم أوباما زيارة المملكة العربية السعودية الحليف الاستراتيجي المهم، في مارس القادم، ضمن جولة للرئيس الأميركي تقوده إلى بعض الدول العربية. وذلك لتهدئة وطمأنة السعودية التي رفضت مقعداً غير دائم في مجلس الأمن، وهددت بتغيير طبيعة العلاقة الاستراتيجية مع واشنطن، وانتقدت المواقف الأميركية علناً من طرف مسؤولين سعوديين، ومن مستشارين وباحثين وإعلاميين مقربين من صناع القرار في الرياض.
كما أن الرياض اتخذت مواقف واضحة في الآونة الأخيرة تقترب وتتناغم مع الموقف الأميركي تجاه الأزمة السورية خاصة بعد فشل مفاوضات جنيف-2 كما توقعنا في مقالنا «بيع الوهم في جنيف-2»، تمثلت في تغيرات بالقيادات السعودية ونقل ملف الأزمة السورية ومكافحة الإرهاب لشخصيات تتفاهم وتنسق معها واشنطن بشكل أفضل. وهذا ما دفع أوباما ووزير خارجيته ونائب وزير الخارجية للتأكيد على أن علاقة الشراكة الأميركية الخليجية «أساسية وقوية»، وعلينا ألا نسمح للخلافات العابرة بأن تؤثر في شراكتنا الاستراتيجية التي مضت عليها سبعة عقود.
وأقر بيرنز، في كلمته بوجود اختلافات بين الأصدقاء حول تأثير هذه التغيرات وكيفية الاستجابة لها، والحاجة إلى تحديد ومعالجة هذه «الشكوك والمخاوف بكل صراحة ووضوح»، وأبدى تفهماً للتحفظات عند بعض الدول الخليجية حول سياسة واشنطن تجاه سوريا وإيران، وشدد على استراتيجية وأهمية منطقة الخليج، كمنطقة أساسية ورئيسية للمصالح الوطنية الأميركية، مشيراً في المقابل إلى أن علاقة الشراكة مع بلاده، في الوقت ذاته، تعد أيضاً رئيسية بالنسبة للمصالح الوطنية لدول الخليج، مؤكداً أن «علاقة واشنطن مع شركائها في دول الخليج أقرب إلى التناغم منها إلى التباين، وسنكسب أكثر إذا ما عملنا معاً، بدلاً من العمل بشكل فردي». وقال إن أوباما: «سيؤكد تلك الثوابت في زيارته للسعودية الشهر المقبل، وإن شراكتنا مع دول الخليج هي العمود الفقري لتلك الالتزامات الأميركية».
وأشاد بيرنز أيضاً في كلمته المهمة في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بواشنطن بالمكانة والقوة الناعمة لدول مجلس التعاون ودورها في الأزمة السورية وخاصة في مؤتمر الدول المانحة في الكويت الذي جمع أكثر من 4 مليارات دولار لمساعدة الشعب السوري. وأن دول مجلس التعاون الخليجي «تُعد قوة إقليمية متصاعدة ومركزاً ديناميكياً للأعمال التجارية ومساعداً قوياً في تشكيل وجهات النظر عبر وسائل الإعلام والثقافة في العالم الإسلامي وتشكيل السياسة الإقليمية». وأن على واشنطن ودول مجلس التعاون بناء أجندة مشتركة للمساعدة في تشكيل مستقبل مشترك.
وأكد على ضرورة العمل معاً من أجل استراتيجية موحّدة لمكافحة أعمال العنف والتطرف وتأمين الحدود الوطنية ومكافحة تمويل الإرهاب وحماية المنشآت الحيوية من الهجمات التقليدية والإلكترونية، إضافة إلى منع حصول الأنظمة الديكتاتورية في العالم على الأسلحة الأكثر خطورة. وكان جون كيري، أكد في ملتقى «دافوس» في يناير 2014 أن «الالتزام الأميركي في الشرق الأوسط دائم لأن مصالح أميركا في الشرق الأوسط دائمة».
وباختصار فإن درجة الارتياح والرضا الخليجي عن مواقف وتصريحات وطمأنة واشنطن تذكر بالمثل المصري: «أسمع كلامك يعجبني.. أشوف أفعالك استعجب». وسنتابع ونرى ما إذا كانت تطمينات وتصريحات واشنطن ستتطابق مع أفعالها!
(الاتحاد)