جاء قرار سحب سفراء السعودية والإمارات والبحرين من الدوحة أمس، ليشكل محصلة وقت ليس بالقصير من الحملات الإعلامية التي شنتها قنوات وصحف ووسائل إعلام محسوبة على هذه الدولة أو تلك.
الأكيد أن قرار سحب
السفراء مؤسف، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يصب في مصلحة دول مجلس التعاون الخليجي، الذي ظلت
قطر واحدة من بين أكثرها تفاعلاً مع هذا النسيج الاجتماعي والثقافي والجغرافي.
كما أن خطوة سحب السفراء المؤسفة لا يمكن أن تكون بأي حال من الأحوال تعبيراً عن مصالح
الشعوب الخليجية، ولن تصب في خدمتها مطلقاً، فقطر -والجميع يعرف ذلك- ظلت سبّاقة في خدمة القضايا الخليجية، وساندت كافة التوجهات الخليجية التي تصب في خدمة شعوب هذه المنطقة، وهو ما جعل قطر تحجم عن قرار مماثل رداً على قرار سحب السفراء.
كانت قطر وما زالت وستبقى ملتزمة بالبنود الأساسية التي شكّلت نواة كتلة مجلس التعاون الخليجي، ولعل قراءة بسيطة في مختلف تحولات المنطقة منذ تأسيس مجلس التعاون الخليجي تجعلنا نقف على حقيقة الدعم القطري لوحدة المجلس والحفاظ على كينونته، فكثيراً ما اختلف الأشقاء في دول مجلس التعاون حول قضايا بينية، كانت قطر بعيدة عنها، لكنها كانت دعامة قوية لهذا المجلس، ولا نريد هنا أن نسهب كثيراً في التاريخ، فنظرة بسيطة إلى الوراء تؤكد حقيقة ما نقول، فلقد ساندت قطر الكويت إبان الاحتلال العراقي، وقدمت التضحيات، كما وقفت إلى جانب المملكة العربية السعودية وهي تتصدى للإرهاب، وإلى جانب مملكة البحرين وهي تسعى للحفاظ على وحدتها واستقرارها.
كل ذلك لم يكن منّة من قطر أو تفضلاً، وإنما كان نابعاً من إيمانها بأن دول الخليج العربية وحدة واحدة، إذا ما أصاب جزءاً منها -لا قدر الله- مصيبة، تداعت له قطر -كما تتداعى بقية دول المجلس- لمد يد العون والوقوف مع الشقيق.
الغريب أن قرار سحب السفراء لم يكن بسبب خلاف بين قطر وإحدى الدول الخليجية حيال موضوع خليجي، وإنما كان خلافاً حيال مواضيع خارج إطار منظومة التعاون الخليجي، خلاف في التعاطي أو التعامل مع ملفات خارج منظومة الخليج، الأمر الذي يجعل قرار سحب السفراء مستغرباً ومؤسفاً وغير مبرر.
وربما كانت أسطوانة دعم قطر لمصر عقب سقوط نظام الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك مثار خلاف بين قطر وبين بعض أعضاء مجلس التعاون الخليجي، وهنا لا بد من التذكير بأن قطر التي تتهم بأنها دعمت الإخوان في مصر، دعمت قبل وصول الإخوان إلى الحكم المجلس العسكري برئاسة طنطاوي، وكان حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى أول الواصلين إلى القاهرة يوم أن كان ولياً للعهد، ووقتئذٍ أعلن من القاهرة عن حزمة مساعدات قطرية كبيرة دعماً لمصر وشعبها الشقيق.
بل الأكثر من ذلك أن قطر كانت أول من قدم سندات مالية لمصر حتى لا تحتاج إلى دعم صندوق النقد الدولي، الأمر الذي قد يعرض مصر إلى ابتزاز هي في غنى عنه عقب ثورة 25 يناير، وكل ذلك كان قبل أن يصل الإخوان إلى الحكم.
وعلى الرغم مما جرى في مصر، وما حصل من انقلاب على رئيس شرعي وصل بالانتخاب إلى الحكم، وهو الرئيس محمد مرسي، إلا أن قطر لم تتصرف بعقلية الانتقام وتسحب دعمها، لأنها ظلت دوماً تقول إن دعمها لشعب مصر، بغض النظر عمن يكون في الحكم.
ومع ذلك فإن هذا الموقف القطري المبدئي لم يعجب بعض الأشقاء، وحاولوا بشتى السبل ومن خلال سلسلة من الحملات الإعلامية المنسقة ثني قطر عن موقفها الرافض للانقلاب على الشرعية، وهو أمر لن يحدث لأن سياسة قطر قائمة على المبدأ لا على الابتزاز.
ربما كانت هذه القضية هي قضية الخلاف الجوهري بين قطر والأشقاء في مجلس التعاون، خلاف لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يستدعي سحب السفراء، خاصة أن قطر -ورغم ما يقال عن دعمها للإخوان- لم تقدم أكثر من التأكيد على أن ما جرى في 30 يونيو وما أعقبه إنما هو انقلاب على الشرعية.
ومن المفيد هنا أيضاً أن نعيد البعض إلى سنوات ثلاث خلت، يوم أن ثار الشعب السوري بوجه نظامه القمعي، وكيف أن قطر لم تقف موقف المتفرج، رغم ما كان يربطها بالنظام السوري من مصالح اقتصادية، وانحازت لإرادة الشعب السوري، بينما بقي آخرون يتفرجون، ودعمت قطر الشعب السوري، وكانت خير عون للمظلوم والمحتاج، بينما كان آخرون يضيقون حتى على من يريد أن يرسل معونات لهذا الشعب.
ويبدو أن قضية قناة الجزيرة أزعجت بعض الأشقاء، خاصة في تعاطيها مع الملف المصري، وهنا لا بد من التذكير والتأكيد مجدداً أن الجزيرة شبكة إخبارية تبث من قطر، فقطر لا تملي على الجزيرة تبني سياسة بعينها، والدليل أن الجزيرة، الشبكة، توسعت وحظيت باحترام العالم، لا لشيء سوى لمهنيتها العالية وتعاطيها الاحترافي مع الشأن العربي والدولي.
وهنا لا بد أن نذكر البعض من أصحاب الذاكرة المثقوبة، بأن هناك قنوات ووسائل إعلامية تابعة لهذا البلد الخليجي أو ذاك، تفننت وبرعت في مهاجمة قطر، غير أن قطر لم تطلب من تلك الدول أن تلجم وسائل الإعلام تلك، رغم أن ما يقال عن قطر لم يكن سوى أكاذيب وأوهام نسجتها أقلام مأجورة بغرض النيل منها.
للأسف جاء موقف الدول التي سحبت السفراء بعيداً عن الأعراف الدبلوماسية التي درجت بين الأشقاء في المنظومة الخليجية، فلم يكن القرار مدروساً ولم يكن خاضعاً للتشاور والنقاش مع بقية دول المجلس، وإنما دبر بليل للنيل من قطر وسياساتها بعيداً عن أية حسابات منطقية.
والمؤكد أن سحب السفراء لن يخدم سوى الأجندات الخارجية التي تسعى للنيل من لحمتنا الخليجية.
إننا لا نريد أن نخوض كثيراً في تفاصيل مشهد معقد باتت المنطقة برمتها -بما فيها الخليجية- تعيش في عين عاصفته، ولكن نتساءل: ألم يكن يجدر بتلك الدول أن تؤجل خلافها مع قطر لحين انجلاء العاصفة -أو على الأقل تخف وتيرتها- ومن ثم الجلوس، شقيق إلى شقيقه، وطرح القضايا الخلافية؟
ومرة أخرى نؤكد أن لا خلاف بين قطر والأشقاء في دول التعاون الخليجي في القضايا التي تهم المجلس، الخلاف في قضايا خارج منظومة الجسد الخليجي، فعلام هذا القرار المتسرع الذي يخدم أجندات دول تتربص بمنظومة مجلس التعاون؟
إن المنطقة تمر بتحولات كبرى تستدعي أن يلتئم الجسد الخليجي على أسس حقيقية واضحة، وأن يعمل جاهداً لرأب أي صدع في بيته الداخلي، لأننا نعلم أن الخلاف الخليجي الخليجي يمكن أن يستغله البعض، وأن ينفذ من خلاله إلى هذا الجسد الذي ما زال يمثل الكتلة الأكثر تماسكاً في هذه المنطقة المضطربة.
لقد أثبتت قطر -ومن خلال بيان مجلس الوزراء أمس- أنها حريصة على وحدة هذا البيت الخليجي، وأنها أكثر تفاعلاً مع تداعيات المنطقة، وأنها الأكثر التزاماً بمقررات مجلس التعاون الخليجي منذ أن أسس وحتى اللحظة، فكان أن أكدت مجدداً على أنها لن تبادر إلى الرد بالمثل، ليس من باب الضعف، وإنما إدراكاً من قيادتها بأن ما يجمعنا أكثر بكثير مما يفرقنا.
ويبدو أن بعض الأشقاء في الخليج ما زال يعيش بعقلية الإملاءات، متناسياً أن قطر -ومنذ أن وضع لبناتها الشيخ جاسم بن محمد آل ثاني مؤسس الدولة- وهي تنتهج سياسة مبدئية مستقلة، وترفض التبعية لأحد، فكما قال سمو الأمير المفدى في إحدى كلماته: «نحن قوم نلتزم بمبادئنا وقيمنا ولا نعيش على هامش الحياة، ولا نمضي تائهين بلا وجهة، ولا تابعين لأحد ننتظر منه توجيهاً».
هذه قطر وهذه قيادتها وهذا شعبها، بلد بني على أسس الشريعة الإسلامية، وتمثل مبادئ الدين الحنيف قولاً وفعلاً.
قطر لا تخضع للابتزاز، وسياستها تسيرها المبادئ لا المصالح المجردة، والتاريخ خير شاهد، فاليد القطرية البيضاء وصلت إلى أقاصي العالم، ليس طمعاً في مصلحة هنا أو هناك، وإنما تلبية لحاجة محتاج هنا أو آخر هناك، كما أن قطر وموقفها الداعم للشعوب العربية وحريتها، جعل منها محط أنظار المظلومين، فهل جاء قرار سحب السفراء معاقبة لقطر على مواقف كهذه؟
أبواب قطر ستبقى مشرعة بوجه الأشقاء، ونتمنى ونحن نمر بهذه المرحلة التاريخية الحرجة، أن يغلّب الساسة لغة العقل وأن ينظروا إلى مصلحة شعوبهم، وأن يبتعدوا عن لغة الابتزاز والمساومات، فنحن ننتمي إلى الدين الإسلامي الذي قام على العدل والحرية والسلام.
(العرب القطرية)