لا جدال بأن الموجة الثورية الديمقراطية التي اجتاحت العالم العربي بداية 2011، كان لها وقع الصدمة على الأنظمة
السلطوية في المنطقة، فبعد عقود عديدة من انشغالها بملاحقة ومحاصرة ومحاربة حركات "
الإسلام الجهادي" التي تبنت القوة المسلحة كنهج وحيد لمعارضة السلطوية، وهي إيديولوجيا عنيفة أنتجتها السياسات السلطوية وممارساتها القمعية، جاءت الثورات بحركات "
الإسلام السياسي" التي تبنت نهجا سلميا إصلاحيا يناهض السلطوية وفق شروط الحد الأدنى من المعارضة.
ويبدو أن موجة التحولات التي تهدد وجود الأنظمة السلطوية في العالم العربي كانت أشد وقعا وخطرا من هجمات 11 أيلول/ سبتمبر 2001 على الأراضي الأمريكية، فإذا كانت الولايات المتحدة قد ميّزت بين الإسلام الجهادي والإسلام السياسي عقب "الحدث" وقصرت مفهوم "الإرهاب" على أعدائها من الجهاديين وممثلهم تنظيم "القاعدة"؛ فإن الأنظمة السلطوية العربية قد وسعت من إدراكاتها لمصادر التهديد والخطر ليطال مفهوم "الإرهاب" حركات الإسلام السياسي وممثله الأبرز جماعة "الإخوان المسلمون".
عندما قررت مصر بتاريخ 25 كانون أول/ ديسمبر 2013 اعتبار جماعة الإخوان المسلمين جماعة إرهابية وتنظيمها تنظيما إرهابيا، ثم التوجه نحو محاصرة حركة حماس وحظر انشطتها في 4 آذار/ مارس 2014، استنادا إلى دعوى أن الحركة قد تحولت من حركة مقاومة إلى منظمة "إرهابية"، نظرا لارتباطها بعلاقات مع جماعة الإخوان المسلمين في مصر، كان ذلك يقع في سياق استكمال الإجراءات الانقلابية التي أنجزت تحت شعار "الحرب على الإرهاب"، لكن الأمر لم يقف عند حدود مصر فقد أصدرت السعودية قائمة بالمنظمات الإرهابية في 7 آذار/ مارس 2014 أعتبرت جماعة الإخوان المسلمين تنظيما إرهابيا.
إن وصم جماعة الإخوان المسلمين بالإرهاب يعني تحويل أعضائها إلى إرهابيين، والإرهابي كما هو مقرر ليس مجرما عاديّا وليس سجين حرب حتّى يطبّق عليه القانون، ولكن باسمه أعلنت "الحرب ضد الإرهاب"، فهو وجه بيوسياسي جديد، تماما كما هو حال المعتقلين في غوانتنامو، فهم ليسوا مساجين حرب تقليديين، وليسوا بمجرمين عاديين، وإنما هم "محاربون لا شرعيّون" مجرّدون من جميع الحقوق بما فيها حقّ الدّفاع عن النّفس.
عمليات الوصم والوسم بـ"الإرهاب" في إستراتيجية التسمية السلطوية ليست اعتباطية ولا هي موضوعية ولا تعبر عن تشوش في الحقل الدلالي والمجال التداولي، وإنما تقع في قلب منظومة السلطوية التي تسعى إلى السيطرة والهيمنة في سياق لعبة القوة، فبحسب جاك دريدا: "كل هذه الأشياء لا يجب التعامل معها باعتبارها مجرد خلل في التنظير أو فوضى في المفاهيم أو منطقة للاضطرابات المتخبطة في لغة الحديث السياسية. فعلى العكس من ذلك، يجب أن نرى فيها استراتيجيات وعلاقات قوى، فالقوى المهيمنة هي القوى التي تتمكن في ظروف معينة من فرض تسميتها ومن ثم فرض التأويل الذي يناسبها وبالتالي إضفاء الشرعية على هذه التسميات، بل وتقنينها على المسرح القومي والدولي. فبعد تاريخ طويل ومركب نجحت الولايات المتحدة في التوصل إلى اتفاق لحكومات أمريكا الجنوبية فيما بينها، على أن تخلع رسميا اسم الإرهاب على جميع حركات المقاومة السياسية المنظمة ضد النظم الحاكمة أو النظم التي فرضت في حقيقة الأمر على الحكم".
فالإرهاب كما بيّن جوزيف مسعد اسمٌ غير مفترض، وإنما مفروض دائما؛ فالمفهوم التصنيفي الذي يحوله من ممارسة إلى هوية مفهوم خاص لا يتسم بالتعميم، ففي الوقت الذي تصف فيه سلطة الدولة بعض الممارسات بالإرهاب، وتنعت مرتكبيه بـ"الإرهابيين"؛ فإن جميع من يوصفون بالإرهابيين يرفضون هذا الوصف المفروض عليهم من طرف الدولة، وإذا كان شرط الهوية ينطوي على شقين: موضوعي، وذاتويّ (أي المناداة والاستدخال) فإن الهويات الإرهابية لا تزال مفاهيم تخضع للنقاش والسؤال؛ فهي لا تزال تحت سيطرة عدوٍّ يحكم قبضته على رأس السلطة، ويتحكم بمجمل وسائل تصوير وتمثيل الهويات. ففي الوقت الذي تفترض فيه كل الهويات الذاتوية وطنية كانت أم عرقية أم إثنية، ذاتاً وآخر نقيضا لهذه الذات، فإن الهويات الموضوعية تتكوّن من خلال عين الآلية وذاتها، ولكن من خلال منظور الآخر لا من منظور الذات التي تحمل تلك الهوية.
وفي حالة الإرهابي، فإن من يعرِّف هويته دائماً ليس هو ذاته وإنما الآخر العدوّ، الذي يتولى تعريف ذات الإرهابيِّ وآخره، وبما أن الدولة ومن منطلق كونها عدوة للإرهاب، تقوم بتعريف ذات الإرهابي، فإن السؤال يصبح: هل تتولى الدولة تعريف ذاتها كذلك باعتبارها آخر الإرهابيّ؟
ويطرح السؤال ذاته على جميع الدول الصغرى والعظمى، التي تعمد إلى وصم جماعات ودول أضعف بالإرهابية.
الدولة عموما والسلطوية منها خصوصا، تسعى إلى فرض سيطرتها على إقليمها و"رعاياها" من الميلاد حتى الممات، من خلال جهازها البيروقراطي ومؤسَّسات المراقبة الإكراهية؛ لتفعيل سيادتها التي تقوم على مبدأ متخيَّل خاص بإرادة التمثيل؛ حيث تصبح الإرادة الشعبية المتوهمة صاحبة السيادة على المصير الجمعي لرعايا الدولة، وباعتبارها ممثِّلة للسيادة، فالمواطن نفسه يمكن التضحية به باعتباره إرهابيا من أجل الهدف الأسمى الذي هو بقاء الدولة وتفعيل إرادتها السيادية، ولكي تتحقَّق سيادة الدولة، فإنها تحتاج إلى قانون يعبِّر عن إرادتها السيادية، فالدولة السلطوية الحديثة، أشبه بالإله من حيث احتكارها للتشريع والعقاب. فعندما يعارض أو يعترض مواطن على قانون دولته السلطوية، يكون قد تورط في عملٍ عدائي يوسم بالإرهابي الذي يهدد بتأسيس سيادة بديلة، الأمر الذي تتعامل معه الدولة السلطوية بأقسى درجات العنف، لترسيخ إرادتها السيادية وحدها باعتبارها تتفرد بحق الوجود والسيطرة باسم "الحرب على الإرهاب".
أدوات سيادة الدولة السلطوية تقوم على القهر وفرض السيطرة في جوهرها، فأجهزتها الأمنية والقضائية والتعليمية والإعلامية، تعمل على سحق واستلاب الفرد في سبيل إحكام سيطرتها المادية والثقافية عليه، حتى يبلغ مرحلة الاذعان والخضوع التام. أما في
الدول الديمقراطية الأقل استبدادا وتسلطا، فإن منظمات
المجتمع المدني تعمل على الحد من تغوُّل وطغيان الدولة، وتسعى إلى مقاومة نزعتها الدائمة للسيطرة على الفرد والمجتمع.
من منظور سلطوي يتحكم في تصوير الهويات، وتمثيلها فإن الاعتراض على السياسات الاستبدادية السلطوية يعني أن تصبح إرهابيا في زماننا.