كتبت ديمة الخطيب: أجلس هنا على نفس الكرسي الذي جلستَ أنت عليه عندما زرتني. أتذكر؟ تناولنا إفطاراً بسيطاً معاً. كنت تستغرب أن الأضواء في أبو ظبي تُشعل وتطفئ وحدها. قلت لي: فيه حاجة غريبة عندك في البيت يا ديمة. قلت لك إنها أضواء حساسة تتأثر بالحركة، لتوفير الطاقة. فقلت لي بسخرية وحرقة: "إنتو عندكو النور بيضوي وبيطفي بالحركة وإحنا في
مصر ما عندناش نور".
كان قلبك محروقاً على مصر. كان قلبك محروقاً على المصريين. كان قلبك محروقاً على ما وصفته لي في نص قبل فترة قصيرة كتبت فيه: "حالة البلاد والمزاج السائد وكوني أقلية ضمن أقلية". والأقلية ضمن
الأقلية التي تحدثت عنها هي الأقلية التي حافظت على توازنها وتسامحها وتقبلها للآخر وسط حالة الجنون التي تحيط بك. أنت من القلائل الذين لم يفقدوا صوابهم في حالة فقدان الصواب الجماعية.
قبل رحيلك بيوم واحد كتبت على تويتر: إذا كان الجميع قد فقدوا عقلهم، فكيف يعرف المرء أنه هو كذلك لم يفقده؟
يصعب عليّ وصفك. أنت تجسد بالنسبة لي الإنسان. كثيراً ما حدثونا عن الإنسانية ومعنى الإنسانية وقيم الإنسانية. أنت تلك الإنسانية، ولعلك أحسن وجوه الإنسانية التي أتخيلها. أتحدى أي شخص أن يظهر يوماً ويقول إنك أسأت إليه أو ظلمته أو جرحته، ولا حتى بنظرة. أشك في أنك يمكن أن تكون قد تسببت في حياتك حتى في مقتل حشرة. أنت تحب الحياة وتحب كل ما فيها. أنت تحب الجمال وتراه حيث لا يراه الآخرون. أنت تنبش الجمال حتى في أبشع مشاهد الدنيا وأقسى لحظاتها.
أنت أخي الصغير الذي يتفوق عليّ دائماً فكرياً وفلسفياً، ويرسل إليّ نصوصه كي أصححها له لغوياً ونحوياً، وتخشى دائماً أن تكون لديك أخطاء كثيرة. أنت كاتب بارع، موهوب، يخوض في السياسة كما يخوض في شؤون الحياة والموت والحب. شفافيتك في كتاباتك هي نفسها شفافيتك في تعاملك مع مَن تحب ومع كل من يصادفك في دربك. أعرف حجم الكاتب فيك، وأعرف أن طاقة الكتابة لديك أكبر مما تعرف أنت نفسك.
طلبت مني قبل أيام فقط، مازحاً، أن أكتب عنك قصيدة. كان عليّ أن أكتب: أنت قصيدة يا باسم.
أنت مرجعي الدائم في مصر. عندما أعجز عن فهم ما يحدث، أنت من تشرح لي بكل عمق وبكل موضوعية، دون أن تتهم أي جهة أتسيء بالكلام إلى أي جهة. أنت الضمير الذي يطمئنني بأن مصر ستقف من جديد على قدميها طالما فيها شخص مثل
باسم صبري.
أتَذْكُرُ عندما نشرتُ على حسابي على «تويتر» تدوينة لك من مدونتك "مواطن عربي"، أعجبك أنني كتبت: المواطن العربي باسم صبري يكتب.. ما زلت أنشر كتاباتك بنفس الطريقة. طلابي في الجامعة يتذكرون كلامك حين ألقيت عليهم محاضرة صغيرة عبر "سكايب" في إحدى حصصي. يرون فيك الكاتب الشاب اللامع الذي يطمحون لأن يكونوا مثله.
قلت لك مراراً: لو دخلتَ معترك السياسة فلن نبقى أصدقاء. كنت تستغرب كلامي. فأشرح لك أن السياسة قذرة، وتحول كل من يمسها إلى كاذب وتغيره، وأنا لا أريدك أن تتغير أبداً. لكنك عندما أخبرتني عن نشاطك السياسي وأنا أتابع كتاباتك التي تنضج أكثر فأكثر، وتبهرني وتبهر الآخرين أكثر فأكثر، أصبحت أقتنع بأن شخصاً مثلك إن دخل السياسة فهو من سيغيرها. فمعدنك أنت لا يتغير.
أنت ذلك العقل الذي يتحداني في مبارزاتنا اللغوية. تأتيني بكلمة لا أعرفها بلغة ما، وتعرف أنت كل تاريخها وأصلها وفصلها. أنت ذلك العربي الذي أستطيع أن أرسل له شيئاً بالإسبانية فيفهمه، بالفرنسية فيفهمه، بالبرتغالية فيفهمه. أنت ذلك المرهف الإحساس الذي يشاركني حبي لشتى أنواع الموسيقى في العالم. أنت ذلك القارئ الشغوف المستعد دائماً لقراءة نصوصي وهي رضيعة قبل حتى أن أراجعها، فتشد على يدي وتشجعني، ولا تتردد في نقدي دون أي تجريح. أنت ذلك الأمين الذي أروي له شجوني وفرحي في حياتي اليومية، فيحزن معي ويفرح معي. أنت ذلك المستمع الذي أستطيع أن أتحدث معه عن أي شيء كان على الإطلاق، وأستطيع أن أروي كل الحقيقة، وأعرف أنك لن تحكم عليّ أبداً بل ستساندني في السراء والضراء.
نعم، يصعب وصفك. نعم، يصعب لأحد أن يصدق أن ما أكتبه هو عن شخص حقيقي موجود في الدنيا.. أو موجود الآن في قلوب من يحبونه. أنت أجمل من أن تكون حقيقة في دنيا مليئة بما هو عكسك.
أَتَـذْكُـر عندما خرجنا بعد عملي في مكتب الجزيرة في القاهرة وتجولنا ليلاً في صخب تلك المدينة التي تسكنك بقدر ما تسكنها؟ أنا أعشق القاهرة ليلاً وأنت تعرف ذلك، أنت من تعمل حتى الفجر بلا كلل ولا ملل، (نسيت أن أصف قدرتك على تحمل ضغوط العمل، فأنت تعمل ما لا يقل عن 15 ساعة يومياً). بعد تلك الجولة كتبتُ إحدى قمرياتي "مطاردة ليلية". وأذكر فرحتـَك حين قرأتَها، فقلتَ لي بابتسامتك الطفولية: أسرع السيارات؟ إنتي دخلتي عربيتي في قمريتك؟ الله.
نعم يا باسم. "عربيتك" دخلت في قمريتي ولن تخرج منها أبداً، وأنت دخلت قلبي ولن تخرج منه أبداً. قد يظن من يقرأ النص أنني مغرمة بك. نعم، أنا أحبك حب الأخت الكبرى لأخيها الصغير الذي طالما نصحها بحكمته كأنه هو الأخ الأكبر. أنا مغرمة بك بقدر ما يستطيع الإنسان أن يغرم بإنسان صديق، رفيق للروح. معك تعلمت معنى الصداقة الحقيقية، النقية.
هذا الصباح هو أحزن صباح في حياتي. أنت كتبت قبل فترة عن آلام الجسد والروح والقلب، حين يفقد الإنسان شخصاً يحبه. أنت تعرف الآن إذاً كم أتألم.
تبكي الدنيا في قلبي، كما قال الشاعر الفرنسي بول فيرلين
أنت ذواق للشعر وللجمال .. ستعجبك أبيات فيرلين:
Il pleure dans mon coeur
Comme il pleut sur la ville
Quelle est cette langueur
?Qui pénètre mon coeur
ستبكي الدنيا بأسرها طويلاً في قلبي على رحيلك يا باسم، ويبدو لي من كمية الحب والرثاء التي أراها تأتي من كل صوب وحدب أن الدنيا كلها تبكي فعلاً على رحيلك. يعجز قلمي عن رثائك، ولا أستطيع أن أكتب عنك في الماضي. أنت هنا دائماً، لا يوجد من أو ما يعوض عنك، فابق أرجوك، ابق هنا دائماً.
تسألني طبعاً عن "ابق" وعن سبب كتابتها هكذا. يا باسم هو فعل بصيغة الأمر، معتل الآخر، يحذف منه حرف العلة.
أعرف أنك لا تحب أن تراني حزينة ولا أن يبكي قلبي، فأنت الباسم الدائم، رغم كل الآلام والشجون والهموم. من أجلك سأواصل مسيرة باسم وأبتسم .. ليت لدي ابتسامتك الطفولية البريئة!
يرحمك الله يا باسم، هو من يعرف أكثر منا كلنا كل ما أحاول أن أقوله عنك.
شكراً على كل عطائك
أنت خسارة كبيرة لمصر
أنت خسارة كبيرة للمستقبل العربي
أنت خسارة كبيرة للإنسانية
وأنت خسارة كبيرة لي
أختك الكبيرة- الصغيرة
ديمة الخطيب
(المصري اليوم)