أثبتت أحداث كثيرة أن عموم
الشعب يقرأ المشاهد والتطورات ويحللها بدقة عالية، وأفضل بكثير من قراءة بعض المحللين الذين يحملون الشهادات من الجامعات المرموقة، ولكنهم بعيدون عن نبض الشارع ويعيشون في أبراجهم العاجية، رأينا ذلك آخر مرة في الانتخابات المحلية في
تركيا وما سبقها من الأحداث.
قالوا لنا إن الشعب التركي مستاء من حظر موقع "
تويتر"، وأكَّدوا أن هذا الاستياء سيؤدي إلى تراجع شعبية حزب العدالة والتنمية في الانتخابات، إلا أن النتائج أظهرت عدم صحة قراءتهم وتحليلهم.
واليوم، يتحدث المحللون أنفسهم بعد وقوع كارثة
المنجم عن احتجاجات تتجه نحو الحكومة مثل "كرة الثلج"، ومن المتوقع أن تخبرهم الانتخابات الرئاسية التي ستجرى في شهر أغسطس، بأن ما رأوه لم يكن "كرة الثلج" بل كان "بالونا كبيرا" من الأوهام، وربما من الأمنيات.
وسائل الإعلام العالمية لها دور - مع الأسف - في تضليل هؤلاء المحللين و"استحمارهم"، لأن من يتابعها يعتقد أن المنجم كان يعمل فيه أطفال صغار، وأن الإضراب العام سيشل الحياة في تركيا، وأن شعبية أردوغان نزلت إلى الحضيض بعد وقوع الكارثة، وما إلى ذلك من الأخبار التي إما مبالغ فيها وإما لا تمت للصحة بأي صلة.
ولا يدري القارئ -على سبيل المثال – أن الشخص الذي نقلت مراسلة صحيفة "الباييس" الإسبانية الشهيرة منه آراءه حول الإضراب العام، أحد ميليشيات حزب الشيوعي التركي الذي ليس له حضور يذكر في الشارع.
تركيا شهدت خلال أكثر من عشر سنوات تطورات هائلة في شتى المجالات، ويلاحظ هذا التغيير الكبير كل من يزور تركيا الآن ممن زاروها قبل عقد من الزمن، ولكن الكارثة التي وقعت في منجم الفحم بمدينة سوما أظهرت أنه ما زالت هناك قطاعات لم تمسها يد الإصلاح، وأعادت ذاكرتنا إلى أوضاع تركيا القديمة، وسلطت الضوء على المناجم وظروف العمل فيها لنكتشف أنها بقيت كما هي.
يبدو أن الكارثة لم يكن سببها إهمال واحد بل كانت هناك سلسلة من الإهمال والتقصير، ومع ذلك استمر العمل في المنجم وتم تجاهل كل المؤشرات التي كانت تنذر بقدوم كارثة كبيرة.
وكانت الشركة العاملة في المنجم قبل شركة "سوما" القابضة تركت العمل فيه بسبب كثافة غاز الميثان الذي يتسبب في الانفجارات والحرائق في المناجم، والعمال الناجون من الكارثة يقولون إن الحرارة كانت مرتفعة داخل المنجم قبل الانفجار بشكل غير مسبوق ومع ذلك استمر فيه العمل. وهناك شهادات أخرى حول الخلل في المحول الكهربائي والأسلاك.
القوانين غير كافية وغير رادعة لضمان سلامة العمال وحمايتهم من جشع الشركات والعمل في الظروف السيئة، وهناك تقصير في عمليات التفتيش، كما أن النقابات التي من المفروض أن تراقب أوضاع العمال وتدافع عن حقوقهم مشغولة بممارسة السياسة أكثر من انشغالها بمهمتها الأصلية.
والكل يرمي الكرة إلى ملعب غيره ولا يرغب في الاعتراف بمسؤوليته. هذه حقائق لا يمكن إنكارها وتجاهلها حتى لو اتضح أن الانفجار في المنجم وقع بفعل فاعل.
وهناك حقائق أخرى يراها الشعب بكل وضوح. محاولات لاستغلال الكارثة لأغراض سياسية دون مراعاة مشاعر الناس وآلامهم، ومجموعات تخريبية متطرفة لا علاقة لها بالعمال ولا أسرهم لا تفوت الفرصة لإثارة الفوضى، وإعلاميون يحاولون تصفية حساباتهم مع الحكومة والتعبير عن حقدهم الدفين.
يقول أحدهم إن الضحايا استحقوا هذه الكارثة لأنهم صوَّتوا لحزب العدالة والتنمية ويزعم الآخر أن الكارثة وقعت كعقوبة من الله بسبب تأييد الشعب للحكومة "التي ظلمت جماعة كولن" ويستدل بقوله تعالى: "ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار".
وكاتبة صحفية تقوم بزيارة للمنجم المنكوب بكامل أناقتها وقيمة ملابسها وحقيبتها ونظارتها تتجاوز ما يكسبه عامل منجم في مقابل عمله تحت الأرض لمدة سنة كاملة، لا من أجل مواساة الناس وتخفيف آلامهم، بل من أجل التقاط صور "سيلفي" ونشرها في حسابها بـ"الإنستغرام".
والشعب يراهم جميعا ويحتقرهم، ويدرك جيدا أن الانجرار وراء هؤلاء يعني العودة إلى تركيا القديمة التي تعتبر كارثة المنجم الأخيرة من مخلفاتها.
هل الشعب لا يبالي بوقوع الكارثة ومسبباتها؟ بلى، ولكنه يريد معالجة المشاكل وإنهاء الأزمة وإصلاح الأوضاع وتحسين الظروف، لا استغلالها لأغراض سياسية وتصفية حسابات. ويريد تطبيق معايير العمل والسلامة الموجودة في الدول المتقدمة. والفرق الذي بين موقف الشعب وبين موقف هؤلاء أن الأول يريد "أكل العنب" والثاني يريد "ضرب البستاني".
Twitter: @ismail_yasa