في الوقت الذي انشغلت فيه قوى محلية وإقليمية ودولية ببناء تحالفات مشوهة لعرقلة مسار الثورات المطالبة بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية في العالم العربي لإعادة إنتاج وبناء السلطوية عبر آليات الثورة المضادة من خلال تدبير الانقلابات وعسكرة الثورات وتهجين الخيارات تحت ذريعة "الحرب على الإرهاب"، كان أبو بكر
البغدادي أمير "الدولة الإسلامية في
العراق والشام" يقرأ المشهد بدقة ويضع الخطط والاستراتيجيات لتثبيت أركان دولته.
استيقظ العالم فجر الثلاثاء 10يونيو/ حزيران، 2014، على وقع الصدمة والذهول عقب سقوط مدينة
الموصل على يد عدد بسيط من المسلحين، وانهيار قوات كبيرة من الجيش والشرطة العراقية وفرارها دون مقاومة حقيقية. هوية المهاجمين تأكدت مع إعلان محافظ نينوى أثيل النجيفي عن سقوط الموصل في قبضة "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، الأمر الذي استدعى إعادة النظر بمصداقية إعلان أبو بكر البغدادي في التاسع من نيسان/ إبريل 2013 عن تأسيس "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، حيث ظن كثيرون بأن مسألة الإعلان عن قيام الدولة مسألة دعائية وهمية، ولا تتعدى حدود العوالم الافتراضية، إلا أن العالم الآن تبدل وبات يتحدث عن دولة حقيقية في حيز العوالم الواقعية.
استثمر البغدادي جملة من التحولات لتعزيز مكانة شبكته في العراق وسوريا عقب بدء ثورات الربيع العربي الهش، الذي شهد تدشين الثورة المضادة التي عملت على تبني شعار "الحرب على الإرهاب" سياسيا وتأجيج الهويات الطائفية دينيا، إلا أن دولة البغدادي التي قامت على أساس هوياتي وتعتمد منطق الحروب الجديدة وتتوافر على خبرات كبيرة في مواجهة تكتيكات مكافحة التمرد أدركت مبكرا طبائع الصراعات وآليات عملها، فقد عملت منذ انسحاب القوات الأمريكية عام 2011 من العراق والذي تزامن مع بدء فعاليات حركات الاحتجاج الثوري في العالم العربي ودخول آفاقه منتصف آذار/ مارس إلى سوريا ثم وصوله إلى العراق نهاية 2012 على تدشين ولادة ثالثة لتنظيم القاعدة، وبعث الحياة في جسد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، وتكوين سلالة جديدة أكثر عنفا وأشد فتكا، فقد استثمرت دولة البغدادي الظروف الموضوعية التي تمثلت بالثورة السورية، والحركة الاحتجاجية التي شهدتها المحافظات السنية الست المنتفضة وهي الموصل والأنبار وديالى وصلاح الدين وأجزاء عدة من بغداد وكركوك لإعادة بناء شبكته وتوسيع مجال نفوذه.
في سياق إعادة إنتاج السلطوية في العالم العربي عملت إيران على تدعيم نفوذها في العراق، وتدخلت عبر الحرس الثوري المباشر واستثمار شبكة المليشيات العراقية واللبنانية وغيرها لإنقاذ حليفها الأسد من السقوط الذي عمل مع إيران وروسيا على كبح الثورة السورية باعتبارها ذات طبائع إرهابوية، وكان المالكي قد ارتكب حماقة كبيرة بتسهيل فرار معتقلي البغدادي من السجون، فقد أعلن وزير العدل العراقي حسن الشمري بأن هروب مئات المعتقلين من سجني أبو غريب والتاجي في 29 تموز/ يولو 2013 ومعظمهم ينتمون إلى تنظيم "القاعدة" كان مدبراً بمعرفة مسؤولين عراقيين كبار، وبأن الهدف كان اقناع واشنطن بالتخلي عن خططها لضرب نظام الرئيس السوري بشار الأسد، عبر تعظيم دور القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام.
وبهذا تعزز الإطار الجامع بين إيران الولايات المتحدة والمالكي على أساس "الحرب على الإرهاب"، عبر مقاربة عسكرية أمنية تتعامل مع نتائج ومخرجات منظومة الفساد والاستبداد وغياب الشفافية والعدالة، ولا تلتفت إلى الأسباب والشروط والظروف الموضوعية المنتجة لظاهرة التطرف العنيف التي توصم بـ "الإرهاب"، فقد استخدم المالكي "قانون الإرهاب" للتخلص من معارضيه وخصومه السياسيين، وتدعيم سلطته الدكتاتورية، واستثمر "قانون المساءلة والعدالة" الذي حل مكان قانون "اجتثاث البعث"، في تهميش واستبعاد سياسيين بارزين من السنة بحجة وجود ارتباطات مزعومة بمراتب عليا في حزب البعث السابق.
لقد تغاضت الولايات المتحدة عن عمليات التهميش والإقصاء الطائفي التي مارسها المالكي تحت ذريعة "الحرب على الإرهاب" وضمان مصالحها بتأمين "الاستقرار، فعقب انطلاق الثورة السورية في منتصف آذار/ مارس 2011، وبروز الجماعات الجهادية السنية وتصاعد نفوذ تنظيم القاعدة، باتت مسألة محاربة الإرهاب تهيمن على مجمل الرؤى والتصورات إقليميا ودوليا، الأمر الذي دفع المالكي إلى التمادي في سياساته الرعناء في التعامل مع الحركة الاحتجاجية السنيّه السلمية نهاية عام 2012، وصل حد قتل 50 محتج سلمي وجرح أكثر من 110 في مدينة الحويجة في محافظة كركوك بتاريخ 23 نيسان/ ابريل 2013، وقبل أحداث الحويجة، اصطدمت قوات الأمن بالمتظاهرين في مناسبتين، في الفلوجة في 25 كانون الثاني/يناير وفي الموصل في 8 آذار/مارس مما أدى إلى مصرع سبعة أشخاص في الحادثة الأولى وشخص في الحادثة الثانية، والتي تعامل معها برعونة واستخفاف باعتبارها تمردا يقوده "الصداميين والبعثيين والإرهابين"، كما لجأ المالكي إلى تكتيكات أكثر خطورة في التعامل مع الاحتجاجات السلمية، من خلال الادعاء بأن المتظاهرين ترعاهم تركيا ودول الخليج، والإصرار على أن بينهم إرهابيين ينتمون إلى حزب البعث السابق، أو أنهم مدفوعين بالعداء الطائفي، وقد عمل ذلك على تحويل الطائفة الشيعية نحو قدر أكبر من الراديكالية، الأمر الذي بلور قناعة لدى المحتجين بعدم جدوي النضال السلمي، وهو ما استثمرته دولة البغدادي بتوسيع دائرة التجنيد وتكثيف نطاق عملياتها المسلحة.
على الرغم من سياسات المالكي الطائفية إلا أن الولايات المتحدة وافقت خلال زيارته إلى واشنطن مطلع تشرين الثاني / نوفمبر 2013، على بيع العراق كميات كبيرة من الأسلحة المتطوّرة بذريعة محاربة "الإرهاب" وعدم السماح بانتقال الفوضى في العراق إلى الدول المجاورة له، وكبح جماح الجهاديين في سورية، وقد ساندت الولايات المتحدة سياسات المالكي الفجة والتزمت بتزويده بأسلحة نوعيّة كطائرات الاستطلاع وصواريخ هلفاير، وهي تتفاوض على تدريب قوات خاصة مشتركة، وتعمل على تأسيس قوعد لطائرات بدون طيار بحجة التصدي لتنظيم "القاعدة"، الأمر الذي تفاقم بداية العام الحالي بتأسيس مجالس عسكرية مع تحول الاحتجاجات السلمية إلى مسلحة بدأت في الرمادي ثم بالسيطرة على الفلوجة، الأمر الذي تعامل معه المالكي باعتباره إرهابا تقودة القاعدة والدولة الإسلامية في العراق والشام، وساندته الولايات المتحدة ثم مجلس الأمن الدولي في 11 كانون ثاني/ يناير 2014 الذي أعرب عن دعمه لجهود الحكومة العراقية في الأنبار ضد ما أسماه العنف والإرهاب، مدينا هجمات تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، دون الإشارة إلى الفاعلين الآخرين ولا إلى المطالب العادلة.
مشاعر الغضب والاستياء والتمرد لدى فعاليات وتوجهات وقوى الحراك السني بلغت أوجها مع أعلان الولايات المتحدة ومجلس الأمن دعم المالكي، إذ عملت على تأكيد عدم اكتراث العالم بحراكهم السلمي، وبهذا تشكلت مجالس عسكرية مكونة من بعض أفراد الجيش العراقي السابق، وعناصر عشائرية مسلحة، وعمل على انبعاث جماعات المقاومة العراقية أمثال: "الجيش الاسلامي"، و"حماس العراق"، و"كتائب ثورة العشرين"، و"جيش المجاهدين"، و"أنصار السنّة"، الأمر الذي استثمره البغدادي في عقد صلات وتحالفات مع القوى السنيّة التي باتت مقتنعة بطبائع الحرب الهوياتية الطائفية للمالكي وحلفائه تحت ذريعة الإرهاب، وتقدمت "
داعش" الصفوف في التصدي لقوات المالكي، ومن خلال إعادة بناء الحاضنة الشعبية السنيّة عملت دولة البغدادي على استكشاف قدرات جيش وشرطة المالكي، وتبيّن لها ضعفها وعدم قدرتها على الفعل وانهيار معنويات جنودها.
تسيطر دولة البغدادي اليوم على مساحات شاسعة غرب العراق وخصوصا محافظة الأنبار ثم نينوى وصلاح الدين، وشرق سوريا خصوصا محافظة الرقة ودير الزور والحسكة، وعلى الرغم من قوة تنظيم "داعش" الذاتية، إلا أن قوتها الحقيقية موضوعية، فالمشاكل السياسية والاقتصادية في العراق وسوريا توفر بيئات حاضنة مثالية للتنظيم، فالطبيعة السلطوية والطائفية لنظاميّ الأسد والمالكي المسندة من إيران وانحراف طبائع الصراع إلى شكل هوياتي طائفي بين السنة والشيعة وفر بيئة مثالية خصبة للتعبئة، وجاذبية إيديولوجية للتنظيم.
خلال الأيام الماضية برهن تنظيم "داعش" على قدرته على استعادة مكانته التي كان عليها عام 2006 عندما أعلن عن تأسيس "دولة العراق الإسلامية" في 15 تشرين الثاني/ أكتوبر 2006، وقد تمكنت آنذاك الولايات المتحدة من طرد التنظيم وتحجيم نفوذه عبر استراتيجية "التدفق" التي نفذها الجنرال ديفيد بترايوس من خلال زيادة عدد القوات الأمريكية والتنسيق مع "الصحوات" ومجالس "الإسناد" المحلية. وكان مسلحون ينتمون إلى الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش"، قد تمكنوا صباح السبت 7 حزيران/ يونيو 2014، من اقتحام حرم جامعة الأنبار وسط مدينة الرمادي واحتجزوا الطلبة والأساتذة الذين الذبن يقدر عددهم بنحو 2500 شخص، كما تمكنوا من قتل 59 شرطيا ومسلحا في اشتباكات في مدينة الموصل شمال البلاد، وكان مقاتلي "داعش" قد نفذوا عدد من الهجمات المنسقة والمتتالية على سامراء والموصل أيضا، الأمر الذي انتهى بسيطرة "داعش" وفصائل مسلحة على على محافظة نينوى ومدينة الموصل الثلاثاء في10 يونيو/ حزيران 2014.
لم يكن ممكنا لدولة البغدادي أن تتمدد وتتحول من العالم الافترضي إلى الواقعي إلا عبر سياسات الولايات المتحدة وإيران والمالكي والأسد الطائفية الفجة والإرهابوية البائسة، ولا جدال بأن دولة البغدادي تلاعبت بكافة الأطراف وباتت تتمتع بقوة كبيرة يشرية وعسكرية ومالية وإعلامية وتقنية، فالإصدار الأخير من سلسلة ""صليل الصوارم 4" بتاريخ 7 آيار/ مايو 2014 عن مؤسسة الفرقان وهي أحد أذرع تنظيم "داعش" الإعلامية يؤكد على التحول الكبير في بنية التنظيم وقدراته الفائقة وتكتيكاته العنيفة وطبيعته الهوياتية واستراتيجيته المرعبة. فقداستعاد الفرع القاعدي في العراق رغم تمرده على تنظيم القاعدة المركزي بزعامة الظواهري، عافيته التي كان عليها قبل عام 2008، وهو يقوم بتطوير أساليبه واستراتيجياته القتالية، وقد زادت عملياته عن 30 هجوم يوميا في العراق منذ 2012، وهو يقوم بهجمات مركبة ومعقدة واسعة المدى كل 4 إلى 5 أسابيع، وباتت جهود التنظيم في تجنيد العراقيين سهلة وميسورة، كما ظهر ذلك جليا من خلال زيادة أعداد منفذي الهجمات الانتحارية، وساهم في صعوده انضمام أكثر من 7 آلاف من الجهاديين العرب والأجانب عقب اندلاع الثورة السورية.
أجندة الدولة الإسلامية في العراق والشام تقوم على أولوية مواجهة النفوذ والتوسع الإيراني في المنطقة ومحاربة "المشروع الصفوي" كما تصفه، وخصوصا بعد رحيل القوات الأمريكية عن العراق، فالأساس الهوياتي هو المحرك الرئيس لسلوك الفرع العراقي بينما الأساس المصلحي الجيوسياسي هو المحرك الرئيس للقيادة المركزية للقاعدة، أما تمكين الشريعة فهو الهدف المشترك للطرفين.
السياسة الهوياتية للتنظيم تعاظمت مع تولى الإمارة أبو بكر البغدادي ("أبو دعاء" إبراهيم عواد البدري) بتاريخ 16 أيار/ مايو 2010، وهي الحقبة التي شهدت تحولا في البنية التنظيمية للفرع العراقي بعد سيطرة عدد من العسكريين الذين عملوا في المؤسسة العسكرية في عهد صدام حسين، ومنهم العميد الركن محمد الندى الجبوري المعروف بالراعي والذي استلم قيادة أركان الدولة بتكليف من المهاجر، وهو الذي وضع العميد الركن سمير عبد محمد المعروف بـ (حجي بكر) نائباً له، والذي أصبح بعد أشهر قائدا لأركان الدولة بعد مقتل الراعي.
بلغ عدد أعضاء التنظيم حوالي 15 ألف مقاتل، وهو يستقطب النسبة الأكبر من المقاتلين الأجانب، ويتوافر على موارد مالية كبيرة تعتمد على فرض الإتاوات في مناطق نفوذه في العراق، وعلى التبرعات التي تأتيه من شبكة منظمة في دول عديدة، وشهدت موارده نموا كبيرا عقب دخوله سوريا من خلال سيطرته على موارد رئيسية تركز معظمها في المنطقة الشرقية، كالنفط، فقد استولى التنظيم على عدة حقول للنفط والغاز في الرقة والحسكة ودير الزور، وعلى قطاع الزراعة، حيث استولى التنظيم على صوامع الحبوب في الحسكة، وهو يتحكم بإدارة المنتجات الزراعية واستثمارها، وتعتبر الفدية من مصادر تمويله التقليدية، فقد اعتقل التنظيم عددا من السوريين والأجانب وأفرج عنهم بعد أخذ فدية مالية.
خلاصة الأمر أن البغدادي تلاعب بكافة الأطراف، ففي الوقت الذي كانت فيه إيران تدعم سياسات المالكي والأسد الطائفية، كانت دولة البغدادي تؤكد على صواب نهجها الهوياتي، وفي تفس الوقت الذي كانت الولايات المتحدة تعيد تشكيل تحالفاتها مع إيران على أساس الحرب على الإرهاب، ومكافحة التمرد كان البغدادي يؤكد على صحة فشل المعارضة السلمية وفصائل المقاومة المسلحة المعتدلة، وفي سياق الثورة المضادة سعت كافة الأطراف إلى عدم استهداف دولة البغدادي للتأكيد على أن ما يحدث في سوريا والعراق يقع في إطار "الإرهاب"، الأمر الذي استثمره البغدادي في بناء شبكاته وتوسيع مجاله وتثبيت أركان دولته في العراق والشام.