كتاب عربي 21

الحرب الثالثة على غزة، وما بعدها

1300x600
منذ ظهورها إلى الساحة تزامناً مع انطلاقة الانتفاضة الأولى في ديسمبر 1987 وحركة المقاومة الإسلامية حماس تمثل شوكة في حلوق الساعين إلى تسوية سياسية تكرس احتلال الصهاينة لفلسطين، وتضفي مشروعية أبدية على كيانهم المسمى “إسرائيل”. 

فما أن نجحت المنظمومة الدولية، تساعدها في ذلك المنظومة المتواطئة في المنطقة العربية، في تدجين منظمة التحرير ووضعها على سكة التنازل عن حقوق الفلسطينيين والعرب والمسلمين في فلسطين مقابل الاعتراف بها ممثلاً “شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني”، حتى أطلق الإخوان المسلمون في فلسطين مشروعهم المقاوم الذي بات يعرف باسم حماس، مبعثرين بذلك الأوراق للصهاينة وحلفائهم وساحبين البساط من تحت أقدام من سعوا باسم الشعب الفلسطيني إلى التضحية بقضيته في مذبح الصهاينة. 

وصل مأزق الصهاينة وحلفائهم ذروته حينما اكتسبت حماس بعد شرعية المقاومة شرعية ديمقراطية رسمية بفوزها بالانتخابات التشريعية التي جرت في يناير من عام 2006. فارتبك خصومها، وكاد يسقط في أيديهم لولا إبداع أولمرت الصهيوني، الذي تبنته المنظومة الدولية تحت مسمى شروط الرباعية، والقاضي باختصار شديد بألا يعترف لحماس بشرعيتها الانتخابية ولا يتعامل معها إلا إذا أقرت بشروط ثلاث هي: الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود، والتخلي عن المقاومة المسلحة، والقبول بكافة الاتفاقيات التي أبرمتها قيادة منظمة التحرير مع الصهاينة.

 واستخدمت هذه الشروط منذ ذلك اليوم سيفاً مسلطاً على قطاع كبير من الفلسطينيين في الضفة والقطاع، وبررت بسبب منها حملات القمع والملاحقة ضد حماس وأنصارها في الضفة الغربية والحصار المفروض على قطاع غزة وما رافقه من عدوان مستمر بلغ مداه في ثلاث حروب شاملة حتى الآن كانت أولاها في أواخر 2008 ومطلع 2009 والثانية في منتصف نوفمبر 2012 والثالثة هي التي تدور رحاها الآن منذ مطلع بداية شهر رمضان المبارك الموافق لشهر يوليو من عام 2014. 

إلا أن الظروف التي تجري فيها الحرب الحالية تختلف عن كل ظروف سابقة، ولعل هذه الظروف هي التي حفزت قيادة الكيان الصهيوني على اتخاذ قرار العدوان أملاً في القضاء قضاء مبرماً على مصدر الصداع المستمر لهم ولمن يدعمهم دولياً ويتحالف معهم إقليمياً. 

فحركة حماس لم تبادر إلى أي تصعيد، وإنما جاء التصعيد من الكيان الصهيوني الذي لم يتوقف منذ وصل في مفاوضاته مع محمود عباس إلى طريق مسدود، ثم زادت وتيرة هذا التصعيد حدة بعد أن وصلت جهود المصالحة بين فتح وحماس مرحلة عملية جن جنون نتنياهو لها فحزم أمره على أن يجهضها في مهدها. تلا ذلك تكثيف أعمال التصعيد وخاصة في الضفة الغربية، ولم يخل الأمر من استهداف لبعض عناصر المقاومة داخل قطاع غزة أيضاً. 

والآن، من الواضح أن نتنياهو تمكن من توجيه ضربة قاضية لمشروع المصالحة، ويسعى من خلال حربه على قطاع غزة إلى فرض أمر واقع جديد، تؤيده فيه فيما يبدو المنظومة الغربية ومجموعة الأنظمة العربية المناهضة للربيع العربي وللإخوان المسلمين تحديداً. وهذا الأمر الواقع الجديد عبر عنه وزير خارجية بريطانيا وليم هيغ أمس السبت حين طالب بوقف إطلاق للنار ضمن خطة “تحول شامل” في ظروف غزة تتضمن تخفيف معاناة أهلها وعودتها إلى سلطة محمود عباس لضمان وقف إطلاق الصواريخ باتجاه الكيان الصهيوني. 

من المفترض أن يجتمع هيغ اليوم الأحد في جنيف مع عدد من وزراء الدول الغربية الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية لتبادل الرأي بشأن خطة لوقف إطلاق النار. ولعل المجتمعين في جنيف يأملون أن يتمكن نتنياهو في هذه الأثناء من إضعاف مقاومة حماس لدرجة تسمح بإنفاذ خطة “التحول الشامل” المشار إليها أعلاه. 

لعل ذلك ما حدا مساء الأمس بالجناح العسكري لحركة حماس “عز الدين القسام” إلى إظهار حالة غير مسبوقة من التحدي، حين أعلن متحدث باسم الكتائب أن تل أبيب ستكون هدفاً لصواريخ القسام ما بعد التاسعة ليلاً بتوقيت فلسطين، فانشدت أبصار أهل فلسطين إلى سمائها وتركزت كاميرات وسائل الإعلام المحلية والدولية على أفق تل أبيب وضواحيها، وما أن حانت ساعة الوعد حتى انطلقت الصواريخ باتجاه تل أبيب التي أخلاها كثير من سكانها هرباً وفزعاً. 

خطة “التحول الشامل” عنصرها الأساسي هو سلطة رام الله، التي ينتظر منها أن تحل محل حماس إذا تمكن الصهاينة في حربهم هذه من الفتك بها. ولا أظن أن مثل هذا التفكير يجري بمعزل عن هذه السلطة التي لم يبق لها عورة إلا انكشفت خلال الأحداث الأخيرة، سواء من خلال ردود أفعال متواطئة متهافتة على تنكيل الصهاينة بأهل الخليل وأهل شعفاط أو من خلال انعدام أي ردود فعل جديرة بالاحترام إزاء العدوان الصهيوني على قطاع غزة. 

وإذا كان بعض الرأي العام الفلسطيني قبل شهور متحمساً قبل شهور للمصالحة بين فتح وحماس، فإن الأحداث الأخيرة لم تبق في عقول الناس ولا في قلوبها حماساً ولا رغبة لمثل هذه المصالحة، فأنى للزيت أن يمتزج بالماء. لست أرى سلطة رام الله الآن إلا وهي تعد العدة لتمد نفوذها المكتسب من الصهاينة إلى قطاع غزة، وهو الأمر الذي سيسعد الصهاينة وحلفاءهم الغربيين وسيسعد الانقلابيين ومموليهم العرب في كل من الإمارات والسعودية. فإذا وضعت الحرب أوزارها، وتكلل صمود أهل غزة بالنصر المبين، لا مفر أمام حماس والفصائل المقاومة التي تشاركها حمل هم القضية من أن تلفظ هذه السلطة وتغلق الباب تماماً على كل محاولات تطويعها من خلال مسمى المصالحة، الذي ما أريد بها أصلاً سوى تركيعها وإذلالها.

حتى كتابة هذا المقال صباح الأحد لم يتأكد صدور رغبة معلنة من الكيان الصهيوني أو من حركة حماس بوقف إطلاق النار، إلا أن الدعوات والمقترحات لم تتوقف منذ أيام بشأن إنجاز تهدئة أو هدنة ما، بما في ذلك ما عرضه الرئيس الأمريكي أوباما نفسه على نتنياهو وما صدر عن بعض الساسة الأوروبيين بهذا الشأن أيضاً. 

الأمريكان والأوروبيون يريدون لمصر أن تعود لتلعب دوراً في ذلك كما كان يحدث في المرات السابقة، إلا أن المصريين، ومنذ اندلاع الحرب، نأوا بأنفسهم عن كل ما له علاقة بالتوسط لوقف الحرب، لا بل تواترت الأخبار بأن نظام الانقلابيين في مصر يتواطأ مع الصهاينة بشكل لم تسبقه إليه إدارة حسني مبارك رغم ما عرف عنها من تواطؤ. 

ومن ذلك على سبيل المثال فتح المجال أمام الصهاينة فيما لو رغبوا لاجتياح غزة من معبر فيلادلفيا ونشر قوات مصرية قريباً من طابا لمنع أي هجمات قد تشن من سيناء على إيلات. بل لقد تصرف الانقلابيون في مصر كما لو أن جوارهم لا تشتعل فيه النيران، فاختاروا التوجه بجهودهم الدبلوماسية نحو العراق في سعي لإنقاذ المالكي من أزمته ولوقف تدهور نظامه، بينما لم يصدر عنهم شيء تجاه غزة سوى ما يسود وسائل إعلامهم من شماتة بحركة حماس وأهل غزة وتحريض سافر عليهم. 

ولكن، حتى لو غير المصريون رأيهم، أو استجابوا لضغوط أو طلبات بالتوسط، فلن يكون هذا النظام المعادي لحماس وللإخوان المسلمين ولكل ما هو إسلامي، مؤهلاً لإنجاز وساطة يمكن أن تتصف بالتوازن أو الإنصاف. فالنظام الذي يترأسه السيسي منحاز مائة بالمائة إلى الصهاينة، الذين قال بعض مسؤوليهم بعيد الانقلاب مباشرة إنهم تلقوا رسائل من القيادة الجديدة في مصر تحثهم على عمل عسكري ضد حماس في غزة لأن الفرصة كانت مواتية في ظنهم للقضاء على الحركة التي فقدت نصيرها في مصر والتي باتت تعاني من خنق مستمر بعد تدمير الأنفاق وإغلاق المعابر. 

ولذلك فإن حماس بحاجة إلى وسيط أكثر نزاهة، أو على الأقل أكثر حياداً من مصر، رغم أن مصر بموقعها الجغرافي وإرثها التاريخي في ظروف غير هذه الظروف كانت بالتأكيد أفضل من يقوم بهذا الدور. 

ما هي خيارات حماس إذن، وهل تملك من القوة ما يمكنها من فرض وجهة نظرها لو تداعى المجتمع الدولي إلى وساطة لإنجاز هدنة أو تهدئة ما؟ في منطقة الشرق الأوسط لا يوجد سوى دولتين يمكن لحماس أن تثق بهما، ولكنها ليسا على وئام مع الكيان الصهيوني. إنهما قطر وتركيا. وكلاهما، في ظني، لا تمانعان من حيث المبدأ في القيام بمثل هذا الدور، وبكل نزاهة. شروط حماس للهدنة معروفة، وتم الحديث عنها، وعلى رأسها وقف العدوان، وتفعيل بنود التهدئة السابقة التي أبرمت في عهد الرئيس محمد مرسي، وإطلاق سراح كافة الأسرى المحررين الذين اعتقلوا مؤخراً في الضفة الغربية، ووقف أعمال النكيل والملاحقة والاضطهاد التي تمارسها قوات الاحتلال في الضفة الغربية.

 إلا أن التهدئة التي يبحث عنها الأوروبيون، والتي ربما بدأ طوني بلير تحركه سعياً لإنجازها، تستهدف فيما تستهدفه نزع السلاح من فصائل المقاومة وإعادة سلطة عباس إلى قطاع غزة، وهذا أمر لا يمكن لحماس إطلاقاً أن تقبله، ولا يمكن تفسيره إلا أنه تسليم الأعناق لذابحيها. 

إذا كانت فصائل المقاومة في غزة لديها اليقين والقدرة، فليست مضطرة لأن تقبل بشيء أقل مما تريده فعلاً، وإذا كان الأمر كذلك، فإن أي وساطة لوقف إطلاق النار لن تؤتي أكلها إلا إذا أصبحت الهدنة بشروط حماس مطلباً إسرائيلياً ومصلحة دولية وإقليمية لأن البديل هو مزيد من الرعب والفوضى. 

لا ندري ماذا في جعبة القسام وفصائل المقاومة الأخرى، ولكن ما رأيناه بالأمس يبشر بخير، ويعد بما هو أكبر وأعظم. إلا أن هذا الأكبر والأعظم، حتى يكبر أكثر ويتعاظم أكثر ويصبح أكثر فعالية بحاجة إلى مدد ودعم. وأول المدد هو تسعير نيران انتفاضة القدس حتى تعم كل الضفة وتشمل كافة القطاعات، وتشكل عامل ضغط على الصهاينة ومن يتحالف معهم. 

ومن هذا المدد حراك شعبي عربي وإسلامي، برجاء الضغط على الحكومات لتضغط على سلطة الانقلابيين في مصر حتى تفتح المعبر وتنهي الحصار من طرفها. ومن المدد التبرع لأهل غزة لتثبيتهم في أرضهم وإعانتهم على الخروج من أنقاض الحرب إلى فضاء الحياة الكريمة. 
الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع