قلادة الملك عبد العزيز هي أعلى وسام يمكن أن تضفيه المملكة العربية السعودية على رؤساء الدول الزائرين. وقد زينت رقاب “رجال مرموقين” من أمثال جورج دبليو بوش، وفلاديمير بوتين، وبشار الأسد. يوم الأحد الماضي، وضع خادم الحرمين الشريفين القلادة حول عنق رئيس
مصر عبد الفتاح
السيسي، الرجل الذي قالت عنه اليوم منظمة هيومان رايتس واتش إنه ينبغي أن يحقق معه في تهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
قد يكون إضفاء هذا الشرف الرفيع على السيسي من قبل مموله مجرد صدفة. إلا أن المرجح أنه رد فعل عصبي آخر على حدث أكبر وأكثر شؤماً، إذ يصادف هذا الأسبوع الذكرى السنوية الأولى لمذبحتين ارتكبتا في وسط القاهرة تقول منظمة هيومان رايتس واتش إنهما سيخلدان في التاريخ على أنهما من أكبر جرائم القتل التي ارتكبت بحق متظاهرين في يوم واحد، أكثر من مذبحة ميدان تيانمان (في العاصمة الصينية) وتضاهي حجم مذبحة أنديجان في أوزبكستان. لاشك أن ذلك ادعاء كبير، ولكن هذه المنظمة لديها من الخبرة والدراية ما يؤهلها لقول ذلك.
وليست منظمة هيومان رايتس واتش من المنظمات التي تستسلم أو تتخلى عن القيام بواجبها. ها هي المنظمة تصدر تقريراً شاملاً يوثق تحقيقات قامت بها على مدى عام كامل في أحداث المجازر التي وقعت حينما فضت سلطات الانقلاب في مصر اعتصامين كبيرين في ميدان
رابعة العدوية وفي ميدان النهضة في الرابع عشر من أغسطس من العام الماضي. يسمي التقرير السيسي واثنين آخرين من المسؤولين متهماً إياهم بالمسؤولية المباشرة وإصدار الأوامر بالقتل. ليس هذا فحسب، بل تتهم هيومان رايتس واتش هؤلاء الأشخاص بأنهم خططوا لارتكاب المجازر سلفاً، بدليل أن مسؤولين في وزارة الداخلية كانوا قد كشفوا النقاب في لقاء بمنظمات حقوق الإنسان تسعة أيام قبل فض الاعتصامين بأنهم يتوقعون أن يصل عدد القتلى إلى 3500 إنسان.
بوصفه وزيراً للدفاع آنذاك، كان السيسي هو صاحب الأمر والنهي داخل القوات المسلحة وقد اعترف بأنه قضى "أياماً طويلة جداً يبحث في التفاصيل" المتعلقة بفض اعتصام رابعة. أما محمد إبراهيم، وزير الداخلية، فهو الذي وضع خطة الفض واعترف بأنه أمر القوات الخاصة بأن "تتقدم وتطهر" المباني داخل الميدان. وأما مدحت منشاوي، قائد القوات الخاصة والمسؤول عن تنفيذ عملية رابعة، فقد تفاخر بأنه أخبر محمد إبراهيم بأننا "سوف نهاجم مهما كلفنا ذلك".
إضافة إلى ذلك يوجه تقرير منظمة هيومان راتيس واتش تهماً بالضلوع في ارتكاب المذابح إلى كل من: محمد فريد التهامي، رئيس المخابرات العامة، وإلى ثمانية من نواب وزير الداخلية، وإلى ثلاثة قادة من داخل الجيش، وإلى عدد من كبار موظفي الدولة.
تفيد الأدلة المتواترة من أقوال شهود العيان أن عدد الأسلحة النارية التي استخدمها أشخاص ينتسبون إلى المعتصمين كانت محدودة، فمحمد إبراهيم نفسه قال بأنه تم حيازة خمس عشرة بندقية. إذا صح ذلك، فإنه يعزز الأدلة التي تشير إلى أن الشرطة فتكت بمئات المتظاهرين غير المسلحين وبأنها فتحت النيران بشكل عشوائي على جمهور المعتصمين من مواقع اتخذتها على أسطح البنايات أو من على ظهور العربات المصفحة، ولئن دل ذلك على شيء فإنه يدل على أن عناصر الشرطة لم تكن تخشى من أن يبادلها أحد إطلاق النار. لقد خططت الحكومة المصرية ثم نفذت عملية الفض العنيفة مع علمها المسبق بأنها يمكن أن تنجم عن قتل عدد كبير من المعتصمين، ولم تبذل أدنى جهد في إنذار الناس وتوفير مخارج آمنة لهم، كما يقول تقرير منظمة هيومان رايتس واتش.
لهذا التقرير أهمية بالغة، ويمكن تفصيل ذلك إلى ثلاثة أبعاد. أما البعد الأول فيتعلق بتسلسل المواقع القيادية وبالمسؤولية عن إصدار الأوامر، وكلاهما أساسي إذا ما أريد التقاضي بنجاح أمام المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، وذلك أنها المرة الأولى التي يجري فيها التحقيق وتحديد هوية المتهمين من قبل منظمة حقوق إنسان عالمية بهذا الحجم وبهذه المكانة المرموقة. ورغم أن مصر ليست دولة طرفاً في المحكمة الجنائية الدولية، ورغم أن المحكمة الجنائية الدولية ذاتها وضعت عراقيل في طريق مقاضاة المسؤولين عن المذابح، إلا أن تقارير منظمة هيومان رايتس واتش ذات مصداقية عالية وقد تحفز على تفعيل صلاحيات وطنية معينة (في دول حول العالم) تقود إلى توجيه تهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية بحق أعضاء الحكومة المصرية. وهذه هي المرة الأولى كذلك التي يثبت فيها التحري والتقصي بطلان حجة الحكومة المصرية بأن قواتها كانت ترد على النيران التي كانت تطلق عليها.
وثالثاً، يؤسس التقرير للمسؤولية الجنائية المستمرة لتلك الحكومات التي تستمر في تسليح نظام السيسي في مصر وتستمر في التعامل معه بشكل رسمي.
لم تتوقف بتاتاً انتهاكات نظام السيسي لحقوق الإنسان، بل لقد أثبت قتل ما يزيد عن ألف متظاهر في أغسطس من العام الماضي أن ذلك لم يكن سوى بداية عهد من الرعب تسلط على مختلف مكونات الطيف السياسي المعارض له، سواء كانت علمانية أو إسلامية، وشمل حتى تلك الجماعات التي نزعت في البداية نحو تأييد الانقلاب الدموي الذي أطاح بالرئيس السابق محمد مرسي بل وأيدت اعتقاله وسجنه. ما لبثت جرائم القتل الجماعي أن توالت، مثل ما جرى في الثاني من أكتوبر 2013 وفي الخامس والعشرين من يناير من هذا العام. ويقدر عدد الذين ألقي القبض عليهم في عمليات القمع والملاحقة بما لا يقل عن 22 ألف شخص.
رغم ما صدر عن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية من شجب وانتقادات وصفت أعمال القتل بأنها لم تكن مبررة، إلا أنهما ما يزالان يدعمان بفاعلية هذ النظام المغموسة أياديه في دماء المصريين. كانت واشنطن قد علقت جزءاً من مساعداتها العسكرية في أكتوبر من العام الماضي إلا أنها أعلنت في إبريل عن نيتها برفع الحظر عن تسليم عشر طائرات عمودية من نوع أباتشي وما قيمته 650 مليون دولار من المساعدات على اعتبار أنها إنما تساعد في مكافحة الإرهاب وتخدم المصالح الأمنية القومية.
أعربت ساره لييه ويتسون، مديرة قسم الشرق الأوسط في منظمة هيومان رايتس واتش - والتي منعت هي والمدير التنفيذي للمنظمة كينيث روث من دخول مصر هذا الأسبوع - عن أملها في ان يشكل هذا التقرير الأساس الذي يعتمد عليه الكونغرس الأمريكي في حظر كل أشكال العون العسكري لمصر، وقالت: "توصيتنا الواضحة من خلال هذا التقرير أننا لا نرغب في رؤية السلاح الذي يستخدم في قمع الناس محلياً يرد إلى مصر من المجتمع الدولي وبشكل خاص من الولايات المتحدة الأمريكية. وقد دعونا وزير الخارجية الأمريكي جون كيري إلى التصريح بوضوح أن مصر لا تنطبق عليها شروط استحقاق المساعدة العسكرية".
وهناك نقطة تتعلق بإطار أوسع، حيث أن الأشخاص الذين ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية ما يزالون يسعون لتحقيق قبول دولي واعتراف بأدوارهم، فالتهامي على سبيل المثال هو الشخص الذي يتزعم جهود التفاوض على هدنة بين إسرائيل وفصائل المقاومة الفلسطينية في غزة، وبإمكان السيسي السفر إلى الولايات المتحدة الأمريكية دون أن يخشى الاعتقال، رغم أن الجرائم التي ينبغي أن يحقق معه بشأنها بلغت من الخطورة ما يجعلها خاضعة للمساءلة أمام جهات الاختصاص القضائي على المستوى العالمي ومحلياً في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا وأمام المحاكم البريطانية.
القضية التي تتبناها منظمة هيومان رايتس واتش يمكن عرضها ببساطة على النحو التالي: إذا كان رد مصر على المجازر هو منح مكافآت مالية للذين ارتكبوها وإقامة نصب تذكارية لتكريمهم، فقد آن الأوان لأن يتصرف المجتمع الدولي، سواء من خلال هيئة تابعة للأمم المتحدة أو الجامعة العربية أو الاتحاد الأفريقي. إلا أن شيئاً من ذلك لن يحدث، بالطبع، لأنه - وكما كان عليه الحال مع جيل من طواغيت أمريكا اللاتينية من قبل - هؤلاء الرجال ما هم إلا حلفاء للغرب، توفر لهم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي الحماية من خلال الصمت على ما يرتكبونه من جرائم. ولذلك، يمكن إضافة إلى ما حاصل الآن أن يكون لهم دور في الصراعات الأهلية الأخرى مثل الصراع الدائر حالياً في ليبيا. ليكن معلوماً أنه طالما استمر السيسي في التمتع بالحماية من الملاحقة والمحاسبة على جرائمه، فإنه سيظل مصدراً أساسياً من مصادر انتشار الفوضى والقلاقل في منطقة الشرق الأوسط.
لقد بدأت لتوها معركة إحقاق الحق والكشف عما جرى بالضبط في القاهرة يوم 14 أغسطس من العام الماضي. رغم أن طريق السيسي نحو الهلاك قد يكون طريقاً طويلاً إلا أن تقرير منظمة هيومان رايتس واتش سيضمن أن يظل زعيم الانقلابيين في مصر مطارداً من قبل أشباح ضحاياه في رابعة إلى أن يهلك.
(عن ذي هافينغتون بوست)
(ترجمة خاصة بـ "عربي 21)