انتصار إردوغان في الانتخابات الرئاسية يؤكد على حقيقة أنه بالرغم من الاستقطاب التركي بشأن إرث الحقبة الكمالية فإن الأغلبية تراه أفضل سبيل نحو مجتمع عصري ومزدهر.
لا يمكن استيعاب تاريخ
تركيا المعاصر والتغير الذي يجري فيها اليوم دون فهم شامل لهوية الرئيس المنتخب رجب طيب إردوغان ولما يعنيه بالنسبة لتركيا.
ولفهم ماهية إردوغان لابد من فهم من هو. وهذه الملاحظة تصدق بشكل خاص بحق الأجانب الذي يحاولون تحليل مجريات الأمور في البلاد.
تردي وتفكك الإمبراطورية العثمانية، وانسحابها من شمال أفريقيا ومن البلقان والقوقاز، ولجوء الجماهير تارة أخرى إلى الأناضول، والحروب، والهزائم المدمرة، وتجربة الجمهورية، والحداثة التركية ونظام الوصاية العلمانية، هذه كلها ما هي إلا بعض المواضيع التي يحتاج المرء لأن يشكل عنها على الأقل فكرة ما حتى يتسنى له فهم تركيا دون أن يقع في مصيدة التحليل خارج النطاق الزمني للأحداث.
وأي تحليل لا يأخذ بعين الاعتبار هذه الخلفية التاريخية التي تمتد لقرون، وماتزال مستمرة، فإنه سيكون معلولاً، وبشكل خطير. فالهوية التركية اليوم تقوم على تصورات اجتماعية بدأت مع السلاجقة واستمرت مع العثمانيين ثم تشكلت فيما بعد من خلال الخصوصيات الثقاقية للأناضول عبر قرون من الزمن. ورغم ما لحق بها من دمار بسبب الجمهورية العلمانية باسم التغريب، فإن الروح الأناضولية الإسلامية ماتزال ههنا معنا.
في تسعينيات القرن الماضي أو حتى في مطلع العقد الذي تلاها، ما كان أحد ليأخذ على محمل الجد الادعاء بأن هذه الروح ستكون ملموسة في تركيا عام 2014. ما كان بإمكانهم أن يعلموا أن البلاد ستخوض ثورة سلمية.
تقريباً كل الأتراك، سواء دعموها أو عارضوها، يعترفون بأن ما حدث لم يكن أقل من ثورة. الذين عارضوا هذه الثورة الصامتة لاموا إردوغان واتهموه بتقويض إصلاحات الجمهورية التي استحدثت في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي. أما الذين دعموها فيكيلون له المديح لأنه أعاد لهم كل ما ظنوا أنهم فقدوه في العهد الكمالي. بمعنى اخر، لدينا ههنا معسكران لا يتفقان على كثير من الأشياء، وطالما أن أحد القطبين يركز على الخسائر بينما يركز القطب الأخر على المكاسب، فلن يتغير هذا الحال في القريب العاجل.
حصل إردوغان على أصوات أكثر من نصف الشعب التركي، وهذه نسبة كبيرة لبلد يعاني من الاستقطاب والانقسام إلى فصائل متباينة، وليس هذا كل ما في الأمر. حسب التقديرات المعاصرة تبلغ نسبة المحافظين بين أبناء الشعب التركي سبعين بالمائة، وقد ترتفع النسبة إلى ما يقرب من 75 بالمائة إذا ما أخذت بالحسبان المعارضة الشعبية للعلمانية المتطرفة.
لو أخذنا هذه البيانات السكانية بعين الاعتبار فلن يدهشنا أن نعلم أن نسبة من يؤيدون إردوغان تحلق في الستينيات، وليس كل من يؤيده يترجم تأييده إلى أصوات في الانتخابات. ولا يختلف ذلك عن نسبة 58 ? الذين صوتوا لإردوغان في الاستفتاء الدستوري الذي جرى عام 2010 والذي تحولت مناسبته إلى أزمة وجودية بالنسبة للكماليين. يمثل إردوغان، بكل ما تعنيه الكلمة، ما يشبه شخصية الأب لهؤلاء الذين تشملهم نسبة الستين بالمائة أو يزيد.
إنه زعيم حقيقي. بإمكانك أن تجد الكثير من الصور والرسومات لشخص إردوغان في القهوة التي على ناصية الشارع، ويتضاعف هذا العدد أضعافاً مضاعفة في النشاطات العامة والمسيرات، وقد يتجاوز العدد الملايين في لحظات الأزمات.
يلام إردوغان ويتهم بأنه يحرض على القومية، والحقيقة هي أن إردوغان هو أول زعيم تركي لم يكتف فقط بلمس أكثر القضايا القومية حساسية في تركيا، أي القضية الكردية، بل تجاوز ذلك إلى البدء بعملية تنتهي بحل هذه القضية بعد أن سكتت المدافع في جبهة القتال لأول مرة منذ سنوات طويلة.
كما يتهم إردوغان بعدم التسامح، إلا أنه أول زعيم يتصدى لحل المشاكل التي عانت منها الأقليات وأول زعيم يعتذر عما حل بالأرمن من قتل عام 1915، وقائمة إنجازاته تطول.
يمكن أن تتشكل لإردوغان صورة مختلفة حسب الموقف الذي ينطلق منه المرء، وهذا مفهوم. فتركيا بلد يمر بآلام التطبيع. في عام 2010 اكتملت (إلى حد بعيد) الرحلة الطويلة التي استمرت نصف قرن من الهامش إلى المركز، وكانت هذه الرحلة قد بدأت بعد إقامة الجمهورية الكمالية، ذلك المشروع المجهد جداً. كانت هناك محاولات لإقامة عوائق في طريق الهجرة من الهامش إلى المركز، ولكن هذه المحاولات لم تنجح إلا وخلفت أزمات وطنية هائلة.
كان انقلاب عام 1960 المحاولة الأولى لزرع هذه العقبات، فقد علق على المشنقة رئيس الوزراء المنتخب في البلاد، وغير الدستور وتأسس نظام الوصاية الكمالية المكون من تحالف الجيش مع القضاء. أدى هذا الانقلاب إلى تطفيش كتلة كبيرة كانت على يمين الوسط (70-75 ?) واستبعادها من العمل السياسة مما بطأ رحلتها من الهامش إلى المركز.
تضاءلت فيما بعد نسب المشاركين في الانتخابات، وتشير الإحصائيات إلى أن الانتخابات التي تمكن اليسار فيها من الحصول على أكبر نسبة من الأصوات وتمكن بذلك من الوصول إلى السلطة كانت هذ الانتخابات التي شهدت معدل مشاركة دون الخمسين بالمائة بل وحتى في أوائل الأربعين بالمائة. للمرء أن يقارن ذلك بمعدل المشاركة في انتخابات مارس 2014 حيث كانت النسبة 90 ?. تكرر ما جرى في عام ستين مع حزب الرفاه الذي وصل إلى السلطة عبر صنادق الانتخابات ثم إطيح به في انقلابي كمالي في عام 1997.
لقد حاول نظام الوصاية العسكرية بكل ما أوتي من قوة أن يبقي حزب العدالة والتنمية الذي وصل إلى السلطة في انتخابات عام 2002 تحت سيطرته. وكانت هناك خطط للقيام بانقلاب عام 2004 ثم عام 2005. ثم تدخل العسكر بشكل مباشر عام 2007 في محاولة لمنع إجراء الانتخابات الرئاسية.
طوال تلك الفترة كان إردوغان يتصرف على غير ما عهده الناس ممن سبقه من القادة المدنيين، لقد قاوم نظام الوصاية العسكرية، مما اضطر هذا النظام إلى الرجوع خطوات إلى الخلف. خلال ذلك كله حصل إردوغان على دعم غير مسبوق، لم يقتصر الدعم على أتباعه ومؤيديه، وإنما تجاوزهم إلى أتباع ومريدي حزب الحركة القومية بالإضافة إلى الأكراد. في نهاية المطاف تحولت “رحلة الهامش” التي استغرقت نصف قرن من الزمان إلى “سلطة الهامش” المتجسدة في شخص إردوغان.
من هذه الناحية يمثل إردوغان عملية تطبيع المجتمع، وهذا التطبيع، مثله مثل كل مراحل الانتقال والتحول، يحمل في طياته توترات معينة، وهذه التوترات توفر مادة هائلة للمعارضة التي باتت آمالها في الوصول إلى السلطة مستحيلة من الناحية الإحصائية السكانية.
بمعنى آخر، تفضل المعارضة استغلال هذه التوترات بدلاً من السعي إلى إدارتها. باتت أحزاب المعارضة، التي تمكنت من الحفاظ على وجودها في اثنين فقط من الأقاليم الانتخابية السبعة في تركيا، حبيسة مواقف مناهضة للسياسة جنتها على أنفسها بأياديها. فهم يركزون كل طاقتهم في الهجوم على إردوغان بدلاً من أن يمارسوا السياسة الفعلية. مثل هذه الاستراتيجية من شأنها فقط أن تعزز إيمان الجماهير في شخص باتوا يشعرون أنه أول زعيم حقيقي لبلادهم منذ مائة عام.
إذا ما أضفنا إلى ما سبق ما تحقق من مستوى غير مسبوق من النجاح الاقتصادي والاستقرار، لا تبقى للمعارضة في واقع الحال أرض كبيرة لتقف عليها.
شهدنا في الانتخابات الرئاسية كيف أن مجموع ما حصل عليه حزبا المعارضة الرئيسيان من أصوات يتخلف بما مقداره 14 نقطة عما حصل عليه إردوغان، وهذا فرق كبير بلا شك. وإذا ما أردنا تسليط الضوء على الأصوات التي حصل عليها حزب الحركة القومية بشكل منفصل، يمكن القول بأن المعارضة العلمانية الكمالية لم تحصل سوى على ثلث ما حصل عليه إردوغان من أصوات.
وهذا يعني بأنهم حصلوا على 25 ? أو أقل من الأصوات بشكل عام. بمعنى آخر، تمت رحلة الهامش باتجاه المركز ووصلت غايتها من خلال اقتحام آخر معاقل الكماليين - مكتب الرئاسة. يبدو أن هذا الوضع سيكون دائماً لعدة أعوام قادمة، ليس فقط لأنه لا توجد أرضية لتحول اجتماعي حاد مضاد لهذا التغير، وإنما لأنه لا يوجد سبب وجيه يجعل الهامش يتراجع في القريب العاجل من المركز بعد أن تمكن من الوصول إليه.
- طه أوزهان: مدير مؤسسة سيتا في أنقرة، وهو أكاديمي وكاتب وله عمود في يومية "ديلي ستار" وآخر في يومية ديلي صباح. يشارك في برنامج حواري سياسي أسبوعي في التلفزة الوطنية، ويعلق بشكل دوري على التطورات السياسية، وله كتابات في الصحافة الدولية. كتابه الأخير عن القضية الكردية صدر عام 2014 بعنوان "آلام التطبيع".