لكل ثورة ثورة مضادة. هذا ليس اختراعاً ولا ضرباً في الغيب، بل القانون الذي خضعت له
الثورات الحديثة جميعها تقريباً، من الثورة الإنكليزية، الثورة الفرنسية، الثورات الأوروبية في منتصف القرن التاسع عشر،
الثورة الإيرانية، وصولاً إلى ثورات أوروبا الشرقية في نهاية الحرب الباردة.
تشترك الثورات الحديثة في أغلبيتها العظمى في أنها عبرت عن رغبة الشعب في لجم الدولة الحديثة، سواء برفع مطالب دستورية ويمقراطية، والتصدي للاستبداد وهيمنة الطبقات الحاكمة، أو المطالبة بنظام اجتماعي عادل، يستند إلى إعادة توزيع الأعباء الاقتصادية والثروة. ولكن انتصار الثورات ليس حتمياً، ولم يكن كذلك بالفعل. الدول التي مضت بسلاسة نسبية في طريق الانتقال الديمقراطي، خلال العقود القليلة الماضية، هي تلك التي انضوت في نظام إقليمي أوسع، أو التي تولت أنظمة إقليمية، مثل الاتحاد الأوروبي، رعايتها. وحتى هذه، لم تنج دائماً من الثورة المضادة.
قلة في دول الثورات العربية، عندما انتصرت ثورات تونس ومصر وليبيا في إطاحة أنظمتها الحاكمة، وبدا أن اليمن وسوريا في طريقها إلى تحقيق إنجاز مشابه، أخذت في الاستعداد لمواجهة قوى الثورة المضادة. ولأن نظاماً إقليمياً واحداً يضم دول المجال العربي، وأن هذا النظام من اللغة والتاريخ والثقافة يفوق حتى الإطار الإقليمي الرسمي التي تمثله الجامعة العربية، وأن الثورات لم تندلع إلا في عدد قليل من الدول، بدأت سحب الثورة المضادة في التجمع مباشرة بعد اندلاع موجة الثورة الأولى في 2011. ومنذ 2012، نسجت روابط وثيقة بين القوى الاجتماعية والسياسية المناهضة للثورة والانتقال الديمقراطي في كل دولة على حدة والدول العربية التي افترضت لنفسها دوراً طليعياً في حركة الثورة المضادة. ولم يكن معسكر الثورة المضادة، برجال أعماله، شبانه المغرر بهم، جمعياته، وسائل إعلامه، أحزابه، فئاته الاجتماعية والسياسية ومؤسسات الدولة المرتبطة بالنظام القديم، أقل اتساعاً وإمكانيات ونفوذاً من معسكر الثورة. وقد شهدت السنوات الثلاث الماضية، منذ انتصار الثورتين التونسية والمصرية، حركة أموال سياسية هائلة لم تعرفها الساحة العربية في تاريخها، وإمدادات تسليحية مشابهة، وإقامة روابط وصلات لم تكن متصورة من قبل، جمعت أمراء دول سلالية مع مثقفين ونشطين ليبراليين وقوميين، وضباط جيش واستخبارات مع مستثمرين بخلفيات غربية، وعصابات من اللصوص والمهربين والقتلة ورجال أمن مع نشطين ثوريين.
وليس ثمة شك أن 2013 شهد ذروة صعود حركة الثورة المضادة، بعد أن أجهض المسار الديمقراطي في مصر، وتعثر المسار السياسي للعملية الانتقالية في تونس وليبيا واليمن، ونجح تحالف طائفي في إيقاف تقدم الثورة السورية وإجهاض الحراك الشعبي في العراق. ولأن تركيا اختارت في عام الثورة العربية الأول الاصطفاف إلى جانب معسكر التغيير والتحول الديمقراطي، بل وبدا أن قطاعات شعبية عربية واسعة تنظر بإعجاب إلى ما بات يعرف بالنموذج التركي، وأن قطر لعبت دوراً ملموساً في توفير الدعم المالي والإعلامي والمعنوي لدول الثورة، استهدفت تركيا وقطر كما استهدفت دول الثورة العربية. والحقيقة، أن الانتصار السريع والسهل الذي تحقق في مصر أصاب حركة الثورة العربية المضادة بالغرور، وعزز لدى مراكز قوتها الرئيسية الشعور بأنها باتت قادرة على اجتراح المعجزات وإعادة تأسيس النظام القديم في المجال العربي من جديد. لم يعد ثمة تحفظ في حركة قوى الثورة المضادة، ولا محاولة للتخفي أو التواري، ولا حسابات لحجم الدمار والضحايا والدماء الذي أوقعته عواصف الانقلاب على إرادة الشعوب وأشواقها.
ضخت مئات الملايين وشحنات الأسلحة إلى ليبيا، حيث جمعت كتل متفرقة على عجل من بقايا النظام السابق والضباط المغامرين والتكنوقراط الطموحين والقوى القبلية، بهدف اجتثاث قوى وجماعات ومؤسسات الثورة الليبية. وضخت أموال أخرى لإحياء جماعات النظام القديم في تونس، وإقامة جبهة مضادة، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، لمواجهة الإسلاميين الديمقراطيين وحلفائهم. ولم تتورع الثورة المضادة في تونس من العبث بأمن البلاد وتوظيف وسائل الاغتيال المعنوي والدموي على السواء. وبالرغم من أن ظروف اليمن تختلف إلى حد ملموس، لم ينج هو الآخر من استخدام وسائل مشابهة لدفع عجلة التغيير إلى الخلف وإخضاع البلاد لإرادة دول مجلس التعاون الخليجي. في سوريا والعراق، كان المعسكر الطائفي المؤيد من إيران أكثر اندفاعة في محاولة القضاء على حركة الثورة، ناقلاً الحراك الشعبي السلمي من أجل الحكم العادل والحرية والديمقراطية إلى حرب أهلية طاحنة ودمار واسع النطاق لمناطق متسعة من البلاد. ولأن أحد أبرز وجوه الانقلاب على الشعوب وإرادتها كان الحرب المعلنة على القوة الإسلامية ذات التوجه الإصلاحي والديمقراطي، وأن حماس صنفت ضمن هذا التيار الإسلامي الكبير، شهدت الشهور القليلة الماضية حملة تحريض بشعة ضد قطاع غزة، واتصالات عربية – إسرائيلية لتقويض النفوذ الإسلامي السياسي في القطاع.
بيد أن قوى الثورة العربية المضادة لم تكن، في لحظة سكرتها، واعية بتعقيدات الساحة العربية السياسية، ولا هي أدركت أن حركة الثورة العربية لم تطلقها ظروف طارئة في كل بلد على حدة، بل هي نتاج ما يقارب القرن من الترسبات. زحفت الثورة العربية المضادة كالعاصفة الهوجاء، وبدا كأن العرب سيزج بهم نحو عهد أكثر ظلاماً من الظلام الذي ثاروا عليه. ولكن لحظة الصعود الانقلابي لم تستمر طويلاً. وبعد عام من فوزها بالجائزة المصرية، لابد أن عواصم الثورة العربية المضادة تعيش أياماً بالغة الكآبة: تعرض قطاع غزة بالفعل لعدوان إسرائيلي كبير، قصد به خدمة أهداف إسرائيلية وعربية على السواء. ولكن غزة الصغيرة، المحاصرة، وقفت صامدة في وجه الحرب الشعواء؛ وبالرغم من العدد الكبير في الضحايا المدنيين ومن الدمار البالغ الذي أوقعه العدوان، فشلت آلة الحرب الإسرائيلية في إضعاف مقدرات المقاومة أو تحقيق أي من أهداف الحرب السياسية. الحقيقة، أن المقاومة الإسلامية في غزة تخرج من الحرب الآن أعظم قوة وأمضى عزيمة، وأكثر شعبية، فلسطينياً وعربياً. وتعرضت ليبيا لعدوان آخر، لم تتكشف كل أدواته بعد. ولكن الذراع الليبي لمحاولة الانقلاب على الثورة وقواها هزم وإن لم يدحر كلية بعد، بينما ينتظر الليبيون ما إن كان نظام 3 يوليو/ تموز في مصر سيقرر التورط العسكري في الجارة المثقلة بالتدخلات. في دول الثورات العربية الأخرى، وبالرغم من أن عملية الانتقال تسير ببطء، لم تنجح قوى الثورة المضادة في تكرار النموذج المصري. وحتى في مصر، لم يزل الشعب في الشارع، ولم يزل حلم الاستقرار بعيداً؛ وليس ثمة أمل في إيقاف عجلة التدهور الاقتصادي عن الانهيار. نجحت قوى الثورة السورية في وضع حد لتقدم قوات النظام وحلفائه الطائفيين، ويقف المعسكر الطائفي المناهض للشعوب عاجزاً أمام تحد من صنفه في العراق. إقليمياً، أفشلت محاولة عزل قطر خليجياً، وبات من حاولوا عزلها مهددين الآن بالعزل؛ بينما ارتدت أوهام التدخل في الشأن التركي، وأصبح على من عاشوا لبعض الوقت على أمل خروج إردوغان السريع من الساحة السياسية التعايش مع رئاسته للجمهورية التركية لعشر سنوات مقبلة، إن كتبت له الحياة.
ليس ثمة منطقة في العالم تشبه المجال العربي في التحامها الثقافي والتاريخي، وفي انقسامها السياسي. وبالرغم من التشابه الذي يحكم المسارات العامة للثورات الشعبية الحديثة، فثمة مؤشرات على أن العرب يصنعون نموذجاً خاصاً بهم، وأن الصراع المحتدم حول روح العرب ومستقبلهم قد يطول قليلاً. بيد أن محاولة الانقلاب على حركة الثورة وعلى إرادة الشعوب وأمانيها قد أوقفت في حالات، وردت في حالات أخرى. قد لا يكون من المتيقن موعد وصوله إلى محطته المنشودة، ولكن الواضح أن قطار التاريخ ووعود التغيير يعود الآن إلى مساره.
? كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث.