كتب شيماس ميلن: لم يتمكنوا من النأي بأنفسهم. بالكاد مضى عامان على سحب القوات الأمريكية من العراق، وها هم يعودون من جديد، وغدا باراك أوباما رابع رئيس أمريكي على التوالي يشن عدواناً أمريكياً على العراق.
نحن الآن في اليوم السادس من الهجمات الجوية الأمريكية المتواصلة على مواقع ما يسمى بالدولة الإسلامية، داعش سابقاً، تلك المجموعة الطائفية من الأصوليين الذين استولوا على مساحات واسعة من المناطق السنية في العراق، والذين يرتكبون تطهيراً عرقياً بشعاً بحق الأقليات في الشمال.
يزداد صخب قرع الطبول في الأوساط الإعلامية والسياسية التي تطالب بريطانيا بالانتقال من مجرد تقديم العون الإنساني إلى الانضمام إلى الحملة العسكرية. أعلنت فرنسا أنها ستسلح القوات الكردية العراقية. هذا في الوقت الذي يتواجد فيها الآن ما يقرب من 800 عسكري أمريكي داخل الأراضي العراقية.
وها هو الكولونيل تيم كولينز، الذي اشتهر بادعائه قبيل غزو العراق عام 2003 بأن القوات البريطانية إنما تتوجه لاحتلال العراق لتحرره، يطالب بتدخل عسكري آخر، ويا لسخريات القدر.
يقول بعض الناس إنه إذا ما كان ثمة حاجة فعلاً لحملة قصف إنجليزية أمريكية أخرى، فلابد أن الحملة الحالية هي المطلوبة. ما من شك في أن الصور المروعة الواردة من الميدان لمعاناة عشرات الآلاف من اللاجئين اليزيديين على جبل سنجار والعنف المرعب الذي هجر نصارى قراقوش من ديارهم أثار التعاطف العالمي مع قضاياهم.
لا غرو أن ضحايا الاعتداءات الطائفية هم فعلاً في أمس الحاجة إلى المساعدة الإنسانية وإلى الإيواء من التشرد، إلا أنه من المستهجن أن تدعي الدول ذاتها التي كانت قد غزت العراق وتسببت في دماره وفي الفتك بمئات الآلاف من الناس أنها تتزعم جهداً إغاثياً يتطلب تدخلاً عسكرياً جديداً في العراق.
إذا كان الهدف لا يتعدى توفير غطاء جوي لتيسير إخلاء اليزيدييين من سنجار، فثمة قوى إقليمية متعددة بإمكانها أن تقوم بذلك، بل يمكن أن تمنح الحكومة العراقية ذاتها الوسائل التي تمكنها من أداء هذه المهمة، وهو الأمر الذي رفض رعاتها الأمريكان منحها إياه حتى هذه اللحظة. والحقيقة أن القوة التي قامت حتى الآن ببذل معظم الجهود لإنقاذ اليزيديين هي حزب العمال الكردستاني الذي تصنفه كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وتركيا كمنظمة إرهابية.
بعد عقود من الفوضى والإجراءات الأحادية، من الواضح أن أي تدخل مسلح يهدف حقيقة إلى توفير الحماية الإنسانية لمن هم في أمس الحاجة إليها ينبغي أن يحصل على تفويض من الأمم المتحدة حتى تكون له مصداقية. وكما قالت النائب في البرلمان البريطاني عن حزب العامل ديانا أبوت “هذا هو الغرض من وجود الأمم المتحدة”. ينبغي لهذا التفويض أن يصدر عن مجلس الأمن الدولي الذي يمكن أن يتوافق أعضاؤه على إصداره في أسرع وقت ممكن.
إلا أن الأمر لا يتعلق فقط بمعاناة اليزيديين والنصاري، فقضية هؤلاء كما قال أوباما بوضوح ليست سوى قضية جانبية مقارنة بالدفاع عن منطقة كردستان التي تزداد استقلالاً عن العراق يوماً بعد يوم، والتي طالما كانت حليفاً مهماً للولايات المتحدة وحليفاً غير رسمي لإسرائيل، وبالاهتمام الأمريكي بعاصمتها المزدهرة نفطياً، إربيل، بشكل خاص.
إذن، ها قد عادت الولايات المتحدة إلى العراق وقد تبقى هناك لوقت طويل، حسبما فهم من كلام الرئيس أوباما، والذي قال بأن الهدف من العملية الحالية هو الحيلولة دون أن تتمكن الدولة الإسلامية من إقامة “نوع من الخلافة في أنحاء سوريا والعراق” - رغم أن هذا بالضبط هو ما تدعي هذه الجماعة أنها تمكنت من إنجازه حتى الآن.
لا تخفى على أحد مخاطر انجرار الولايات المتحدة وبريطانيا وغيرها من الدول للخوض في وحل هذه الدولة الآخذة في التفتت، علماً بأنهم هم الذين شاركوا في تفتيتها. ولا أدل على ذلك من أن الدولة الإسلامية، التي كانت تعرف باسم “قاعدة العراق” إنما وصلت إلى البلاد عام 2003 على ظهور الدبابات الأمريكية والبريطانية.
من المسخرة أن تنبري الدول التي تتحمل المسؤولية عن قتل ما لا يقل عن نصف مليون نسمة وتشريد أربعة ملايين إنسان وارتكاب جرائم التعذيب والتطهير العرقي في العراق على مدى العقد الماضي للادعاء أنها اليوم من يتحمل “المسؤولية عن حماية” العراقيين.
الحقيقة التي لابد من الصدح بها هي أن معظم أبناء الجالية المسيحية في العراق، والذين كان يقدر عددهم بمليون نسمة، إنما شردوا من بلادهم في فترة الاحتلال الأمريكي البريطاني للعراق. فطائفية الدولة العراقية التي أشعلت فتيل الثورة السنية وأدت إلى نشأة الدولة الإسلامية في العراق كرد فعل نهائي إنما أسس لها جورج بوش ضمن البنى السياسية التي أقامها بعيد الاحتلال.
إن بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية اللتان لم ترغبا في “الانحياز لطرف دون آخر” حينما ارتكب قادة الانقلاب في مصر في الصيف الماضي واحدة من أكبر المجازر بحق المتظاهرين في يوم واحد عبر التاريخ، هم آخر دول على وجه المعمورة يحق لها التحدث عن جلب المساعدة الإنسانية إلى العراق.
هذا لا يعني أنهما لا تتحملان المسؤولية عن توفير المساعدة، ولكن المقصود هو أن سجل التدخل الغربي الإنساني خلال العقدين الماضيين لم يكن سجلاً سعيداً. ففي عام 1991، تمخض فرض منطقة للحظر الجوي في العراق عن ارتكاب مجازر بحق المتمردين الشيعة في الجنوب ولم ينجح الحظر في المناطق الكردية إلا حينما رافقه إنزال آلاف الجنود، ناهيك أن كل ذلك تبعته غارات قصف جوي استمرت لاثني عشر عاماً متواصلة.
وفي عام 1999 تمخضت الحملة الجوية لقوات الناتو في كوسوفو، والتي كانت كذلك بلا تفويض من الأمم المتحدة، عن حملات تطهير عرقي مريعة، وهو الأمر الذي كان من المفروض أن يحول تدخل الناتو دون وقوعه. وفي ليبيا عام 2011 ضاعف تدخل الناتو من أعداد الضحايا عشرة أضعاف ووفر الغطاء لتطهير عرقي ولقتل عشوائي واسع النطاق، وما خلفه هذا التدخل اليوم هو حالة من الانفلات والحرب الأهلية.
قد يقول قائل إن حملة القصف الأمريكية الأخيرة تتمتع بقدر أكبر من الشرعية نظراً لأنها جاءت إثر طلب الحكومة العراقية للمساعدة والدعم. ولكن يرد عليه بأن الحكومة العراقية كانت قد تقدمت بطلب مماثل في يونيو إلا أن أوباما أمسك عن فعل شيء بانتظار استبدال رئيس الوزراء نوري المالكي بشخص يحظى بالقبول لدى الولايات المتحدة الأمريكية.
في نفس الوقت، يجري حالياً تزويد القوات الكردية بالسلاح الأمريكي بمعزل عن الحكومة المركزية، مما يزيد سعار عملية تفتيت الدولة العراقية. أما الدولة الإسلامية، والتي تعتبر أيديولوجيتها الطائفية في حقيقة الأمر مجرد نسخة لعلها أكثر عنفاً بقليل من أيديولوجية النظام السعودي أهم حليف للولايات المتحدة في العالم العربي، فتمضي قدماً في تعزيز سيطرتها على غرب العراق وشرق سوريا، وهي في سوريا فيما يشبه التحالف الفعلي مع الولايات المتحدة وأصدقائها.
يمثل صعود الدولة الإسلامية كارثة على الشعبين العراقي والسوري، إلا أن تدخلاً عسكرياً أمريكياً بريطانياً آخر لن يكون من شأنه سوى تقويتها وتعزيز مصداقيتها، إضافة إلى أن مثل هذا التدخل سيزيد من احتمال تعرض بريطانيا وأمريكا للهجمات الإرهابية. لا يمكن مواجهة هذا التنظيم إلا من خلال السامح بقيام دول قادرة على القيام بوظائفها في كل من العراق وسوريا، وهذا بدوره يعتمد على التخلي التام عن السياسات الطائفية والعرقية التي تم توارثها عبر عقد من الحروب والتدخلات.
مايزال العالم الغربي تحت سيطرة الرغبة الجامحة في أن يقوم بدور الشرطي الكوني، ذلك الدور الذي اصطنعه واصطفاه لنفسه. إلا أن التجربة أثبتت بأن ذلك لا يجدي نفعاً إذا ما تعلق الأمر بإنقاذ شعب العراق. بل الأهم من ذلك كله هو أن تتوصل القوى الإقليمية، بما في ذلك تركيا وإيران، إلى الاتفاق على تسوية تسمح للعراق بأن ينجو من أزمته الوجودية.
إن التدخل الانتقائي لأسباب إنسانية دون تفويض من الأمم المتحدة ما هو إلا أداة من أدوات الهيمنة السياسية ولا يخدم التضامن. إن من الوهم، بل من الضلال المبين، تصور أن معالجة ما جلبه تدخل عسكري ما من كوارث يكمن في شن تدخل عسكري آخر.
(من صحيفة الغارديان خاص "عربي 21")
ترجمة "عربي 21"